بورتريه

سليماني: جنرال ترقص الجغرافيا بين أصابعه (بورتريه)

قاسم سليماني
قاسم سليماني

كان في كل مكان في العراق وفي سوريا، وحتى أفغانستان وطاجاكستان وأذربيجان، لكن بدون أن يظهر ولو مرة واحدة.

يعرف سوريا وكأنه ولد فيها، ويعرف العراق جيدا أيضا، وبحسب نائب رئيس الوزراء العراقي لشؤون الخدمات صالح المطلك فإن "كل الأشخاص المهمين في العراق يذهبون لرؤيته".

اتهمته أمريكا بالتدخل في العراق وزعزعة الأمن فيه، كما وصفته صحيفة "واشنطن بوست" بأنه "من أهم صناع القرار في السياسة الخارجية الإيرانية".

ويعتبره كثيرون في العراق وفي سوريا بأنه " أقوى مسؤول أمني في الشرق الأوسط".

وفي تمّوز/ يوليو عام 2011 نشرت صحيفة " الغارديان" خبرا قالت فيه إن نفوذه في العراق كبير "إلى حد أن البغداديين يعتقدون أنه هو الذي يحكم العراق سرا".

وخلال إحدى إطلالاته النادرة، قال قاسم سليماني صاحب اللحية الرمادية الكثة متباهيا إنه "ما من بلد أو قوة باستثناء إيران قادرة على قيادة العالم الإسلامي اليوم".

يتبع مباشرة للقائد الأعلى للحرس الثوري، علي خامنئي، ويُقال إنَّ خامنئي وصف سليماني بأنَّه "شهيد الثورة الإيرانية الحي".

ولد الجنرال قاسم سليماني عام 1957، وبعد عام 1975 وجد سليماني، الذي بلغ حينها سن الثامنة عشرة، عملاً له في إدارة المياه المحلية في مدينة كرمان، ومن غير المعروف إنْ كان قد شارك في الاحتجاجات ضدّ نظام الشاه.

لكنه تطوع بعد فترة قصيرة جدًا من قيام الثورة الإسلامية في عام 1979 في الحرس الثوري الذي كان قد تشكّل حديثًا كقوة خاصة كانت تريد حماية النظام.

وعلى الرغم من أنه لم يكن يتمتع بتدريبات عسكرية ولا بخبرة قتالية لكنه كان على ما يبدو موهوبًا، بحيث تمت ترقيته بعد وقت قصير من تلقيه تدريباته الأساسية الخاصة إلى رتبة مدرّب، وأرسل في مهام خاصة داخل إيران.

ومثل قمع تمرد الأكراد المسلح في مدينة مهاباد (في شمال غرب إيران) بين عامي 1979 و1980 خطوة مفصلية في حياته الوظيفية.

وعلى الرغم من أنه لم يكن له دور بارز في تلك العمليات، إلا أنها شكلت له تجربة غنية في القتال العسكري غير المنظّم، وهيأته ليترقّى في سلم المراتب العسكريّة في الحرس الثوري.

وبعد عودته تولى قيادة فيلق القدس المحلي في كرمان، والذي تأسس حديثًا في تلك الأيام والتابع للحرس الثوري.

في الفترة الممتدة بين عامي 1980 وحتى عام 1988، أي طوال الحرب مع العراق، حارب على جميع جبهات القتال تقريبا، وشارك في جميع المعارك، وتولى قيادة  فيلق "41 ثار الله"، وهو فيلق محافظة كرمان.

وشارك في تخطيط وإدارة العمليات العسكريّة التي قام بها فوج "9 بدر" في ما عرف بـ"الانتفاضة الشيعيّة" ضدّ حكومة الرئيس صدّام حسين بُعيد حرب الخليج الأولى.

وأرسل بعدها إلى الحدود الأفغانية لمحاربة عصابات المخدرات التي كانت تسيطر على مناطق شاسعة من الصحارى في محافظات كرمان وسيستان وبلوشستان وخراسان.

وأصبح منذ عام 1998 قائد فرقة القدس (نيروي قدس)، خلفاً لأحمد وحيدي، وهي فرقة تابعة لحرس الثورة الإسلامية، وتتولى تنفيذ العمليات الخاصة خارج إيران.

وعلى خلاف العادة السائدة في العلاقات الدبلوماسيّة، تكفل سليماني بشكل حصري التفاوض مع الأميركيّين بخصوص التعاون معهم في الملفين العراقي والأفغاني، واستطاع أن يطور شبكة علاقات واسعة مع معظم الشخصيات والأحزاب القوية سياسياً في العراق، من مختلف الاتجاهات.

وفي السياسة العراقية، من النادر أن تشارك جهة سياسية سنية أو شيعية في الحكومة العراقيّة من دون وجود تفاهمات وعلاقات بينها وبين قاسم سليماني بشكل مباشر أو غير مباشر.

علاقته مع الولايات المتحدة الأميركية غامضة، فواشنطن تتهمه بتدريب "الميليشيات الشيعية" لمحاربة قوات التحالف الدولي في العراق، وتقول "إسرائيل" إن "فيلق القدس" يقف وراء الهجمات ضد إسرائيليين في صيف 2012.

ورغم أن الولايات المتَّحدة تعتبره شخصًا "إرهابيا"، من الأفضل عدم الدخول معه في صراع بصورة مباشرة إلا أنها تتعامل معه سرا، وهو ما دفع  الموظف القيادي في وكالة الاستخبارات الأمريكية جون ماغواير، إلى وصف سليماني بأنَّه "أقوى عميل حاليا في منطقة الشرق الأوسط برمّتها".

ساعد سليماني في الأعوام الثلاثة الأخيرة الرئيس السوري بشار الأسد على قلب المكاسب التي حققها المقاتلون المعارضون في سورية إلى عكسها، بعدما بدا أن النظام السوري على وشك الانهيار، إذ تشكل سوريا نقطة أساسية في محور "طهران - بغداد - دمشق - بيروت" في مواجهة نفوذ القوى الغربية في المنطقة.

وهكذا أمر سليماني بنقل عشرات الآلاف من أفراد "الميليشيات الشيعية" من إيران والعراق ولبنان ومن بلدان أخرى عبر الجو إلى سوريا، وبحسب معلومات المراقبين السوريين فإن العديد من طائرات النقل المحملة بالأسلحة والذخائر وغيرها من البضائع الأساسية القادمة من إيران لا تزال تهبط كلّ يوم في سوريا.

وانتشرت شائعات في تموز/ يوليو عام 2012 بأن سليماني لقي حتفه في الانفجار الذي وقع في دمشق، وأودي بحياة أربعة من أركان النظام السوري، غير أن الحرس الثوري الإيراني نفى هذه الأخبار.

وتشير تقارير إعلامية حديثة إلى أن سليماني موجود حاليا في العراق لمساعدة الجيش العراقي على صد الهجوم الكاسح الذي يشنه مقاتلو "تنظيم الدولة" ونجحوا خلاله في كسب مناطق واسعة.

وفي الملف الفلسطيني كان سليماني حاضرا بقوة، ولعب دورا محوريا في علاقات إيران مع حركات فصائل المقاومة في غزة منذ عام 2006، وفي العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة خرجت تلميحات تقول إن إيران زودت المقاومة بالصواريخ وبعض الأسلحة الهامة، وفي رسالة نادرة حول العدوان على غزة أمطر سليماني سيلا من اللعنات على كل من "أغلق في وجه الفلسطينيين طرق الإمداد وشارك الصهاينة جناياتهم، وعلى أميركا وعلى كل ظالم دافع ولا يزال وحمى ولا يزال هذا الكيان المجرم"، واعتبر أن "فلسطين تختصر الإنسانية والإسلام" وان محاولات نزع سلاح المقاومة "أمنيات جائرة مآلها المقابر".

سليماني حاضر في مناطق شاسعة من الجغرافية المحيطة وغير المحيطة بإيران، ويبدو أن الإيرانيين يراهنون على إبقاء المنافسين أو المهاجمين المحتملين في حالة ضعف. فعندما تكون الدول المجاورة غير مستقرة، يمكن حينها السيطرة عليها والتحكم بها بصورة أفضل. كما أن إيران أصبحت ضرورة استراتيجية الآن بالنسبة للولايات المتحدة وتحولت إلى شريك محتمل في الحرب ضدّ الجهاديين وضدّ "دولتهم الإسلامية"، على الرغم من العقوبات والصراع حول البرنامج النووي الإيراني. 

سليماني، الرجل الأمني والعسكري نجح في مسعاه بأن وضع هدفا واضحا تمثَّل في ضرورة عدم السماح باستهداف إيران مرة أخرى بهجوم جديد، وتحولها إلى قوة مسيطرة في منطقة الشرق الأوسط.

ويقول محللون سياسيون إن سليماني لم يكن يتّبع خطة رئيسية، بل كان يستغل بذكاء كل فرصة مواتية.

وبعد  الغزو الأمريكي للعراق، بات من الواضح أن  إيران أصبحت تنظر إلى العراق على أنَّه ساحة خلفية لها، ساحة استراتيجية، حتى إن سليماني نفسه هو الذي ساهم مساهمة مباشرة في تعيين نوري المالكي رئيسًا للوزراء، وربما لعب دورا أيضا في استبداله بحيدر العبادي.

سليماني رجل غامض لا يظهر كثيرا في وسائل الإعلام، وكان آخر ظهور محتمل له في معارك فك حصار فرضه تنظيم "الدولة الإسلامية" لمدة شهرين على بلدة آمرلي التابعة لمحافظة صلاح الدين شمال العراق، وهو ظهور لم يؤكد ولم يُنفَ رسميا بعد.

سليماني صدامي بما فيه الكفاية، فهو يدير الحوار مع الولايات المتَّحدة الأمريكية، عندما يعتقد أن ذلك مفيد، ومن ثم يقطع قنوات الاتصال عندما لا يكون بحاجة لها، وضمن هذا السياق كانت تأتي براغماتيته في صالحه حتى الآن.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم