مقابلات

الصحة الفلسطينية لـ"عربي21": جميع الناجين في غزة بحاجة ماسة لدعم نفسي

سماح جبر أشارت إلى أن المعاناة النفسية لأهالي غزة هائلة وغير مسبوقة- عربي21
سماح جبر أشارت إلى أن المعاناة النفسية لأهالي غزة هائلة وغير مسبوقة- عربي21
قالت رئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية واستشارية الطب النفسي، الدكتورة سماح جبر، إن "الأحداث الجارية ستترك جميع الناجين من العدوان الإسرائيلي في غزة بحاجة ماسة إلى مساعدة نفسية، أو دعم نفسي، بينما لا يمكن الحديث عن الدعم النفسي في ظل الحاجة إلى المأوى الآمن، والدواء، والطعام والشراب".

وأكدت جبر، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، أن "المعاناة النفسية لأهالي غزة هائلة وغير مسبوقة؛ لأن حجم العدوان هائل، وتفاصيله لم يسبق لها أي مثيل؛ فعلى سبيل المثال: المجاعة لم تكن موجودة في السابق، بينما اليوم نتحدث عن أوضاع تمس أجساد الفلسطينيين".

وأشارت جبر إلى أن "قرابة 6% من سكان غزة بين شهيد وجريح ومفقود، والنسبة الباقية (94%) متأثرة بصور أخرى؛ فمنهم من فقدوا منازلهم، أو نزحوا من مكان لآخر، أو يعيشون في خوف ورعب غير مسبوق، أو يعانون أعراض ما بعد الصدمة، بالإضافة لعدد هائل من مبتوري الأطراف الذين أصبحوا من ذوي الإعاقة".


وأوضحت أن "الأطفال في غزة هم أكثر عرضة لمشاكل الصحة النفسية؛ لأن عقولهم غضة، ولم يتكون لديهم ما يكفي من آليات الدفاع النفسية، بالإضافة إلى ذلك فإنهم لا يفهمون كل تفاصيل المشاكل التي تدور حولهم، وهم أحوج من الآخرين إلى الدعم النفسي، لأنهم يتكئون على مقدمي رعاية مصابين ومكلومين"، لافتة إلى أن "غزة تحوّلت بشكل مأساوي إلى مقبرة للأطفال".

وفيما يلي نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":

ما أبعاد المعاناة النفسية لأهالي غزة جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل إلى الآن؟

المعاناة النفسية هائلة وغير مسبوقة؛ لأن حجم العدوان هائل، وتفاصيله لم يسبق لها أي مثيل؛ فعلى سبيل المثال: المجاعة لم تكن موجودة في السابق، بينما اليوم نتحدث عن أوضاع تمس أجساد الفلسطينيين، وقرابة 6% من سكان غزة بين شهيد وجريح ومفقود، والنسبة الباقية (94%) متأثرة بصور أخرى؛ فمنهم من فقدوا منازلهم، أو نزحوا من مكان لآخر، أو يعيشون في خوف ورعب غير مسبوق، أو يعانون أعراض ما بعد الصدمة.

بالإضافة لعدد هائل من مبتوري الأطراف الذين أصبحوا من ذوي الإعاقة، ويحتاجون لآخرين لمساعدتهم، في وقت يحتاج فيه الإنسان للنجاة بنفسه، فكيف بمَن عنده جريح أو مبتور، أو مريض بحاجة للبقاء في الفراش طوال الوقت، كل هذه الأمور تجعل العبء النفسي هائلا، وغير مسبوق.

هل هناك أرقام أو إحصائيات لأعداد المصابين بأمراض نفسية جراء العدوان؟

إحصائيات منظمة «اليونيسيف» تقول إن كل طفل في غزة يحتاج إلى تدخلات صحة نفسية، ولدينا معلومات سابقة بأن نصف مليون طفل في غزة يحتاجون إلى تدخلات نفسية، وطبقا لدراسة أصدرها البنك الدولي فإن 70% في سكان غزة مُصابون باضطرابات تستدعي تدخلات نفسية.

أما اليوم فليست لدينا أرقام رسمية دقيقة، لكن نتوقع أن الأحداث الجارية ستترك جميع الناجين بحاجة ماسة إلى مساعدة نفسية، أو دعم نفسي، ولكن لا يمكن الحديث عن الدعم النفسي في ظل الحاجة إلى المأوى الآمن، والدواء، والطعام والشراب.

الأهالي اليوم يحتاجون إلى الكرامة الإنسانية؛ فهناك أزمة في وجود الحمامات؛ فلا يستطيع الشخص الاغتسال على سبيل المثال، والأمر يزداد صعوبة مع النساء في الخيام، اللائي لا يجدن أبسط احتياجاتهن، وفي ظل غياب هذه الأمور، فإن السكان لا يكونون في تواصل مع مشاعرهم وعواطفهم، ولا تظهر مشاكل الصحة النفسية بشكل جلي في الوقت الراهن، لكنها ستطفو على السطح لاحقا.

كيف يعاني أطفال ونساء غزة تحديدا من الآثار النفسية للحرب؟

الأطفال في غزة هم أكثر عرضة لمشاكل الصحة النفسية؛ لأن عقولهم غضة، ولم يتكون لديهم ما يكفي من آليات الدفاع النفسية، بالإضافة إلى ذلك أنهم لا يفهمون كل تفاصيل المشاكل التي تدور حولهم، وهم أحوج من الآخرين إلى الدعم النفسي، لأنهم يتكئون على مقدمي رعاية مصابين ومكلومين.

وحقيقة، محنة أطفال غزة تتفاقم بشكل سيء للغاية يوما بعد يوم، وهم الذين كانوا قبل العدوان الغاشم بحاجة ماسة للدعم النفسي والاجتماعي، في حين وصلت أوضاعهم اليوم إلى مفترق طرق حرج، ولقد تحوّلت غزة بشكل مأساوي إلى مقبرة للأطفال، خاصة في ظل تصاعد آلامهم النفسية والاجتماعية، بعدما أصبح الكثيرين منهم بدون أي رعاية من عائلاتهم أو مفصولين عن أسرهم.

كما يتعرض العديد من الأطفال في كل يوم إلى بترٍ في أطرافهم، ما يتركهم بإعاقات دائمة، وهناك من يخضع منهم لعمليات جراحية دون تخدير، ويحدث ذلك بينما يخيّم شبح المجاعة بقوة مسببا عواقب صحية خطيرة تزيد على ما كان سابقا من النقص الغذائي والأنيما، وما يزيد من تفاقم الحالة المأساوية سواء النفسية أو الجسدية.

ومأساة النساء في غزة غير منظورة؛ فأنا على تواصل مع بعض الزميلات في غزة، ويصفن كيف يكتمن مشاعرهن، وردود أفعالهن النفسية عن أولادهن، وأنهن يكنّ بحاجة إلى الاختباء عند رغبتهن في البكاء حتى لا يَراهُن أطفالهن ويتأثروا من ردود أفعالهن.

كما سمعت عن المعاناة الهائلة لبعض النساء الحوامل اللائي اضطررن للولادة في غياب الرعاية الطبية اللازمة أثناء الحرب، وعن سوء التغذية الذي لحق بأجسامهن الأضعف، وعن إهمال احتياجاتهن النسائية، واصطفافهن في الطوابير لساعات أمام المراحيض أو الحمامات التي يستخدمها الرجال والنساء.

تجربة النزوح في العراء والسكن في الخيام من أكثر التجارب المؤلمة لنساء غزة، وخاصة مع النساء اللاتي اعتادت المحافظة على الخصوصية.

هل الآثار النفسية للعدوان الإسرائيلي ستتوقف فور انتهاء الحرب؟

الآثار النفسية ستطفو على السطح بعد الحرب؛ فاليوم الناس في حالة البحث عن النجاة الجسدية، والصحة النفسية بالنسبة لهم أمر ثانوي، لكن بعد الحرب، وبعد تلبية احتياجاتهم الأساسية سيكونون أكثر تواصلا مع مشاعرهم، وسيدركون حجم الفقدان والخسائر، وستكون هناك آثار تدوم معهم بقية حياتهم.

وقد تكون هذه الصدمة "عابرة للأجيال"؛ فقد تنتقل الصدمة للأجيال التالية عن طريق الجينات، وعن طريق الرواية: من خلال الأشخاص الذين عاشوا الأحداث ونقلوا الصورة، وعن طريق أسلوب التربية واتصالهم عاطفيا مع أولادهم؛ فالآباء المصدومين لديهم حماية زائدة، أو فتور وانفصال عاطفي، والعلوم الطبية اليوم أثبتت أن الأحداث الصادمة تغير التعبيرات الجينية لدى الناس.

والصدمات الهائلة التي يتعرض لها أطفال ونساء غزة على وجه التحديد تهدّد بتآكل ثقتهم في العالم، وتحطم معنوياتهم، وتعرقل قدرتهم على التواصل مع أنفسهم ومع الآخرين، وهو ما يعزّز شعورهم بانعدام الأمان الذي قد يطاردهم مدى الحياة حتى لو تغيرت الأحوال وأصبحوا يعيشون لاحقا في جوّ من الأمن والسلام.

ما أبرز الأمراض التي تنجم عن صدمة الحرب، وما الفئات الأكثر عرضة للإصابة بصدمة الحرب؟

هناك الكثير من الاضطرابات الصدمية التي تسمى «اضطراب كرب ما بعد الصدمة» ولكن نتحفظ على هذه التسمية؛ لأن في فلسطين لا يوجد "ما بعد"، بل هنالك الكثير من الاضطرابات الصدمية، والكثير من الأسى والفقدان المؤلم والمعقد؛ لأن الطريقة التي فقدوا بها أحبتهم تحت الأنقاض بلا جنائز، وبلا قبور يزورونها في المستقبل، وبلا بيوت عزاء.. هذا كله صادم، ويمنع الناس من التكيف أو تقبل الفقدان بالطريقة العادية.

كما تضاعف الحروب بشكل كبير اضطرابات القلق والاكتئاب، وحتى الأمراض الذهنية كالفصام والثنائية القطبية، ولكن تتضاعف بشكل أكبر الاضطرابات الصدمية، والاضطرابات النفسية الشائعة مثل القلق والهلع والاكتئاب.

أما عن الفئات الأكثر عرضة فهم النساء، والأطفال، وأيضا الرجال الذين تم استهدافهم بالعدوان، أو تعرضوا لتعذيب واعتقال وتنكيل، أضف إليهم أصحاب الصفوف الأولى من الصحفيين، والمصورين، والأطباء، وغيرهم من المعرضين لما يسمى "بالصدمة الثانوية" نتيجة لرؤيتهم عددا هائلا من المصابين، والمبتورين، والأشلاء، أو من خلال مراقبتهم للآخرين، أو حزنهم على المفقودين، وقد تلاحقهم هذه المشاهد لوقت طويل بعد انتهاء الحرب.

هل يمكننا الحديث عن طبيعة اضطراب ما بعد الصدمة لدى أهل غزة الذين لا تنتهي صدماتهم طوال الوقت؟

بالنسبة لطبيعة الصدمة فأود أن أشير إلى أن الصدمة لدى أهل غزة "صدمة جَمعية"؛ فلا يمكن أن نُجلِس كل شخص من سكان غزة على كرسي ونُقدم له علاج؛ فالصدمات الجَمعية والتاريخية يتم التعافي منها من خلال إحياء المشاعر الوطنية، وإنشاء جلسات للاستماع والحوار، والعناية بفئات مهنية معينة، ومن خلال المصالحة الاجتماعية، وبناء المجتمع من جديد، وإعطاء تمييز تفضيلي للأكثر ضررا، وبالطبع هذا كله بعد تلبية الاحتياجات الأساسية من مأوى وغذاء.

سكان غزة خسروا حياتهم بالكامل، وخسروا مستقبلهم، ولا بد من تقديم تعويض مادي لهم يجعلهم أكثر اطمئنانا على المستقبل، ثم تأتي التدخلات الأكثر تخصصا.

هل باتت معالجة المتضررين نفسيا الآن نوعا من الرفاهية في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي؟

لا أقول إن العلاج النفسي نوع من الرفاهية، ولكن لا أعتقد أن تقديم العلاج النفسي في ظل استمرار العدوان أمر مُجدٍ دون تلبية الاحتياجات الأساسية، ودون أن يأمن الإنسان على جسده.

ما وضع المستشفيات والقطاع الصحي في غزة والضفة حاليا؟

أكثر ما وصف به هذا العدوان هو "الحرب على المستشفيات والقطاع الصحي"؛ فقد تعطل أكثر من ثلثي المستشفيات في قطاع غزة تعطلا تاما، وما تبقى منها يعمل بشكل جزئي، كما استُشهد أكثر من 340 شخصا من الكوادر الصحية، وهناك أكثر من 100 شخص من الكوادر الصحية والأطباء تم اعتقالهم والتنكيل بهم بطريقة فظيعة.

الروايات التي سمعناها حول ما أصاب الأطباء روايات مؤلمة للغاية، مثل ما أصاب مدير مستشفى الشفاء في غزة الدكتور محمد أبو سلمية، والمسؤول بمستشفى كمال عدوان الدكتور محمد الرن، وغيرهم الكثير.

الاحتلال تعمد استهداف وضرب شريان الحياة للمجتمع الغزي؛ فلو توقف إطلاق النار غدا سيستمر الموت في غزة؛ بسبب عدم تلقي مرضى الأمراض المزمنة لعلاجهم وأدويتهم، وبسبب تفشي الأمراض الخطيرة مثل الالتهاب الكبدي الوبائي، والأمراض الجلدية، وبسبب إهمال مرضى السرطان، وغسيل الكلى. لقد خلق الاحتلال ظروفا فيها استدامة للموت، وبكل أسف سيستمر الموت لفترة طويلة بعد هذا العدوان في غزة.

فمن الأولوية بعد توقف العدوان هو الدعم والاستثمار في النظام الصحي بأسرع وقت ممكن، بالطبع هناك مشكلة كبيرة بالضفة تنال المنظومة الصحية، لكنها أقل وطأة من غزة، وهناك مثال صارخ على عدوان الاحتلال في الضفة؛ فقد اقتحموا مستشفى ابن سينا في «جنين» فقتلوا واغتالوا جرحى ومقاومين على أسرة المستشفى.

لماذا تعجز المنظمات الدولية المعنية عن توفير الدعم النفسي والطبي لأهل غزة؟

دعني أطرح سؤالا على سؤالك: لماذا تعجز الدول، ولماذا يعجز العالم عن مساعدة أهل غزة؟ والإجابة: لنفس السبب الذي يُعجز المنظمات الدولية؛ فالاحتياجات هائلة، والسياق يمنع تقديم المساعدات، فضلا عن أن موازين القوى تجبن أمامها للأسف الأنظمة والحكومات والمنظمات الدولية.

وهناك الكثير من الزملاء المهتمين بتقديم الخدمة لأهل غزة، سواء من العرب أو الأجانب، أو من الضفة، أو من سكان فلسطين المُحتلة في 48، ولكن أعتقد أننا بحاجة إلى فترة من الهدوء، وتلبية الاحتياجات الأساسية، وتوفير الأمان الجسدي، ثم ليبدأ العلاج النفسي، وتقديم العون للفلسطينيين.
التعليقات (0)