كتاب عربي 21

انقلاب النيجر تابع ما قبله

جعفر عباس
ما زالت فرنسا على وجه الخصوص تمارس السيطرة على مقاليد الأمور في عدد من دول غرب افريقيا بقفازات من حرير.. (الأناضول).
ما زالت فرنسا على وجه الخصوص تمارس السيطرة على مقاليد الأمور في عدد من دول غرب افريقيا بقفازات من حرير.. (الأناضول).
ما زالت معظم الدول الإفريقية مستقلة شكلا، لأنها وفي واقع الأمر تأتمر بأمر القوى التي كانت تستعمرها، وما زالت فرنسا على وجه الخصوص تمارس السيطرة على مقاليد الأمور في عدد من دول غرب افريقيا بقفازات من حرير، فهناك علاقة وثيقة بين فرنسا وإفريقيا في حزام يمتد من المغرب في الشمال الغربي إلى مدغشقر في الجنوب الشرقي؛ حيث إن علاقةً ما بعد الاستعمار بين المركز الاستعماري السابق، وأطرافه صارت توصف بأنها إحدى "عائلات الأمم ما بعد الاستعمار" كتعبير ملطِّف لما كان يشار به إلى تلك الهوامش ك"متخلفين وغير متحضرين".

ويقول الأستاذ نبيل زكاوي من مركز شبكة الجزيرة الإعلامية للدراسات إنه "عندما يتعلق الأمر بالحديث عن النفوذ الفرنسي الحالي في إفريقيا، فإن سردية الاستعمار الجديد هي الإطار التحليلي الأنسب للاستخدام؛ حيث هناك نوع من إعادة هيكلة العلاقة الإمبراطورية بين القوة الاستعمارية الفرنسية، ومستعمراتها السابقة في القارة بما يطور شبكات مصالح ليست فقط مفيدة لفرنسا، ولكن أساسًا تعيد إنتاج الممارسات العميقة للعهد الاستعماري".

وبينما تضاءل تأثير بريطانيا والبرتغال وبلجيكا على مستعمراتهم السابقة في إفريقيا، فقد حرصت فرنسا على خلق روابط اقتصادية وأمنية وسياسية مع مجموعة من دول غرب افريقيا، وتأسيس كيان الدول الفرانكوفونية، لتضمن بذلك ان تكون تلك الدول سوقا للمنتجات الفرنسية، ومصدرا للنفط واليورانيوم، والنيجر التي خرجت قبل أيام قليلة من بيت الطاعة الفرنسي لتدخل بيت الطاعة الروسي، توفر 20 في المئة من اليورانيوم لمفاعلات فرنسا النووية البالغ عددها 58 مفاعلًا، والتي بدورها مسؤولة عن توليد ما يقرب من 75 في المئة من الكهرباء في فرنسا، وليس أدل على مدى هيمنة فرنسا على مقدرات دول غرب إفريقيا من أن هذه الدول ملزمة بالاحتفاظ بنصف احتياطياتها من العملات الأجنبية في البنوك الفرنسية.

علاقةً ما بعد الاستعمار بين المركز الاستعماري السابق، وأطرافه صارت توصف بأنها إحدى "عائلات الأمم ما بعد الاستعمار" كتعبير ملطِّف لما كان يشار به إلى تلك الهوامش ك"متخلفين وغير متحضرين".
ثم جاء انقلاب في النيجر في 26 تموز/ يوليو الماضي، وأطاحت قوات الحرس الرئاسي بالرئيس محمد بازوم، وأعلن قائد الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تشياني نفسه قائدًا للمجلس العسكري الجديد. وتضامنت مع تشياني حكومتا مالي وبوركينا فاسو اللتان شهدتا انقلابات أخضعت البلدين للحكم العسكري، في حين هددت دول المجموعة الاقتصادية الأفريقية (إيكواس) وعددها خمس عشرة دولة، من بينها النيجر ومالي وبوركينا فاسو، بالتدخل العسكري لإعادة بازوم إلى منصبه، وهو تهديد يتعذر ترجمته الى أفعال، تفاديا لوصم دول المجموعة بالعمالة لفرنسا التي تضررت كثيرا من الانقلاب في النيجر، خاصة بعد ان اعلن قادة الانقلاب وقف تصدير اليورانيوم الى فرنسا، والتي، وقياسا على سوابقها، تفكر في دحر الانقلاب بوسائل عسكرية، ربما متعللة بأنه وطالما هناك شبهة صلة لروسيا بالانقلاب فإن تدخلها مبررٌ.

انقلاب النيجر الأخير هو خامس انقلاب عسكري منذ حصول البلاد على استقلالها عام 1960، بينما السودان الذي نال استقلاله عام 1956 شهد 17 انقلابا ومحاولات انقلابية، وكانت محصلة الانقلابات الناجحة والفاشلة في إفريقيا منذ عام 1950 مائتين وعشرين انقلابا، مما يعني أن حصة إفريقيا من الانقلابات تمثل نحو 44%   من مجموع الانقلابات في كل القارات.

أما حصيلة دول غرب أفريقيا وفي قلبها الدول الفرانكوفونية من الانقلابات "الناجحة" خلال السنوات العشر الأخيرة، فقد كانت كالتالي: مالي في 22 آذار/ مارس 2012، ومرة أخرى في 24 أيار/ مايو، وغينيا بيساو في 12 نيسان/ أبريل 2012، وبوركينا فاسو في 17 أيلول/ سبتمبر 2015، ثم شهدت انقلابا آخر بعدها بأقل من سنة واحدة، ومالي في 18 آب/ أغسطس 2020، وتشاد في 20 نيسان/ أبريل 2021، غداة وفاة الرئيس إدريس ديبي، حيث استولى على السلطة مجلس عسكري انتقالي برئاسة نجل الرئيس الراحل، محمد إدريس ديبي، وغينيا في أيلول 5 سبتمبر 2021، وبوركينا فاسو في 23 يناير 2022.

ومن ثم فانقلاب النيجر الأخير ليس بدعا، بل تكريس لتقليد إفريقي راسخ، ولهذا قد يجد البعض العذر للشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم عندما قصف القارة السوداء بكلام زاعق راعد وعاصف:

إفريقيا الجرح الطويل بذاءة فوق البحار
أبدٌ من الطُّرر القديمة قائح ألماً وعار
لن يعبر التأريخ من أبوابك الحمراء
يا إنشوطة النوم الذليل و يا ملآءات الغبار
التعليقات (0)