قضايا وآراء

المركزية النقابية بتونس والرئيس: صراع أم تعامد وظيفي؟

عادل بن عبد الله
هل يعارض اتحاد الشغل إجراءات الحكومة فعلا؟- الأناضول
هل يعارض اتحاد الشغل إجراءات الحكومة فعلا؟- الأناضول
يوم 12 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، أي قبل أيام من إجراء الانتخابات البرلمانية لإحدى غرفتي المجلس التشريعي حسب الدستور التونسي الجديد (مجلس النواب)، اجتمع المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل لـ"تدارس الوضع العام ومتابعة الوضع الاجتماعي". وقد تضمن البيان الصادر بعد هذا الاجتماع ست نقاط عبّرت عن موقف المركزية النقابية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام التونسي، خاصة تلك المتعلقة بالتداعيات الكارثية المتوقعة لتوجه الحكومة إلى الاقتراض بشروط صندوق النقد وإملاءاته المعروفة.

وسنقوم في هذا المقال بطرح إشكالية علاقة هذا "الشريك الاجتماعي" بالسلطة القائمة انطلاقا من البيان المذكور أعلاه، دون أن نغفل عن ربطه بما يؤسسه لمواقف الاتحاد من السياسات الاجتماعية والاقتصادية للسلطات المتعاقبة على حكم تونس قبل الثورة وبعدها.
موقف الاتحاد الذي عبّر عنه بيانه الأخير لا يعكس رفضا لإجراءات "الحكومة"؛ بقدر ما يُعبّر عن رفضه لسياسة الإقصاء والتهميش المُمنهج له ولحلفائه في صياغة القرار السياسي داخل منظومة "تصحيح المسار" منذ أيامه الأولى وإلى حدود هذه اللحظة

يأتي بيان المركزية النقابية بالتزامن تقريبا مع سحب ملف تونس من اجتماع مجلس إدارة صندوق النقد الدولي المقرر ليوم 19 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وهو ما جعل بعض المحللين يذهبون إلى أن صندوق النقد يشترط موافقة اتحاد الشغل على اتفاقيته مع تونس، وهو أمر مستبعد لأنه يضرب المركزية النقابية في علّة وجودها ذاتها ويفقدها شرعية الحديث باسم الأُجراء والفئات المهمشة داخل المجتمع. ورغم وجاهة هذا التفسير ظاهريا، فإننا نميل إلى أنّ موقف الاتحاد الذي عبّر عنه بيانه الأخير لا يعكس رفضا لإجراءات "الحكومة"؛ بقدر ما يُعبّر عن رفضه لسياسة الإقصاء والتهميش المُمنهج له ولحلفائه في صياغة القرار السياسي داخل منظومة "تصحيح المسار" منذ أيامه الأولى وإلى حدود هذه اللحظة.

ولذلك فإننا نميل إلى التفسير الذي قدّمه الخبير الاقتصادي آرام بلحاج عندما فسّر سحب الملف التونسي بعدم إمضاء رئيس الجمهورية على قانون المالية لسنة 2023، إضافة إلى أسباب أخرى قد تعود إلى مشاركة تونس في قمة الرياض وما حملته من رسائل سلبية إلى الجهات المتحكمة في المؤسسات المالية الدولية (خاصة واشنطن). وربما قد ترجع علة سحب الملف إلى ممارسة المزيد من الضغوط على النظام التونسي لتطبيق الإملاءات في حدها الأقصى، وتقديم المزيد من الضمانات السياسية (المرتبطة بنسبة الإقبال على الانتخابات التشريعية)، أو تعود -كما كتب السيد أنور الغربي، المستشار الاقتصادي للرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي- إلى التخوف من غياب "ضمانات التسديد" بحكم هشاشة شرعية النظام التونسي وتقلص شعبيته بصورة كبيرة، مع وجود قرار من "البرلمان المجمّد" بأن "كل مراسيم سعيد لاغية وحكومته غير شرعية، وبالتالي احتمال تراجع السلطات مستقبلا وارد ويؤخذ في الحسبان".

رغم أننا لا نُنكر أهمية موقف الاتحاد في حزمة الضمانات التي يطالب بها صندوق النقد، فإننا نميل إلى أن الحكومة (أي الرئيس ومن يقف خلفه بحكم محدودية صلاحيات الحكومة في "نظام المراسيم") لم تكن لتوافقَ على شروط الصندوق وتبدأ في تفعيلها (الزيادة الدورية في أسعار المحروقات، وإعداد برنامج لـ"ترشيد الدعم" وبيع بعض المنشآت العامة، وسياسة الضغط على كتلة الأجور والترفيع في الضرائب) لولا وجود ضوء أخضر من لدن المركزية النقابية.

فالاتحاد يعلم جيدا معنى الاقتراض من صندوق النقد وغيره من المؤسسات المالية الدولية، ويعرف جيدا طبيعة الشروط التي تفرضها تلك الجهات وآثارها الكارثية في كل الدول التي قبلت بها. ولكنه رغم ذلك لم يرفع الفيتو في وجه الرئيس، أو على الأقل لم يحاول أن يفرض عليه خطوطا حُمرا لا ينبغي على منظومة الحكم الاقتراب منها خلال مفاوضاتها مع صندوق النقد أو غيره.
الاتحاد يعلم جيدا معنى الاقتراض من صندوق النقد وغيره من المؤسسات المالية الدولية، ويعرف جيدا طبيعة الشروط التي تفرضها تلك الجهات وآثارها الكارثية في كل الدول التي قبلت بها. ولكنه رغم ذلك لم يرفع الفيتو في وجه الرئيس، أو على الأقل لم يحاول أن يفرض عليه خطوطا حُمرا

إن الاتحاد الذي يقول في بيانه بأنه "يتمسّك برؤية تشاركية للنظر في إصلاح منظومتي الدعم والمؤسّسات والمنشآت العمومية، على قاعدة الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية وعلى القدرة الشرائية للشّغّالين بجميع أصنافهم ولعموم الشعب، وعلى ضمان ديمومة المؤسّسات وعموميتها"، والذي يقول أيضا بأنه "يجدّد مطالبته بحقّ الشعب والمنظّمات والأحزاب في الاطّلاع على العقود السرّية بين الحكومة والدوائر المالية العالمية"، هو نفسه الاتحاد الذي ساند "تصحيح المسار" وخارطة الطريق الرئاسية في مختلف محطاتها، ولم يُظهر أية مقاومة حقيقية لمنطق الانقلاب على مؤسسات الدولة وسلطتيها التشريعية والقضائية، بل هو نفسه الاتحاد الذي ساهم في ترذيل الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدل، أي ساهم بصورة كبيرة في إضعاف كل "الأجسام الوسيطة" وقدرتها على المشاركة في صناعة "القرار السياسي"، مما يجعل من العبث أو من النفاق النقابي الدعوة إلى تشريك "الأحزاب والمنظمات" في صياغة "القرار الاقتصادي" في هذه اللحظة من الأزمة الشاملة التي تعرفها تونس.

قد يبدو للقارئ غير المطّلع على الشأن التونسي أن بيان الاتحاد الأخير يمثّل نوعا من القطيعة مع الرئيس التونسي والنواة الصلبة لمنظومة الحكم الحالية. فالنبرة التصعيدية أو الصدامية التي تخترق أغلب نقاط البيان قد تغري بالحديث عن تغير جذري في موقف المركزية النقابية من الرئيس، بحكم أنه المتحكم الأوحد في صياغة القرار داخل نظام المراسيم. ولكننا لو قرأنا البيان جيدا فإننا لن نجد ذكرا للرئيس إلا في مرة واحدة، بينما توجه النقد أساسا إلى الحكومة رغم أنها لا تملك أية سلطة تقريرية بحكم الدستور وحالة الاستثناء التي ما زالت تونس تعيش تحت وطأتها. ولا شك في أن نقد الحكومة هو ضرب من محاربة طواحين الهواء، أو ضرب من التنفيس الخطابي لاحتواء الغضب المتزايد من سلبية الاتحاد وعجزه عن فرض أي تعديل في سياسات الدولة الاقتصادية.

إن الحديث عن تشريك الشعب والأحزاب والمنظمات هو ضرب من "التأنقات اللفظية التي مدارها الفراغ". فالاتحاد شريك متضامن مع الرئيس في تكريس ادعائه تمثيل الشعب واحتكار ذلك التمثيل دون باقي الفاعلين الجماعيين، كما أن الاتحاد شريك في سياسات الإقصاء المُمنهج للأحزاب وتدجين كافة المنظمات والهيئات. كما إن الاتحاد لا يعني بـ"الشراكة" كافة الأحزاب أو المنظمات، بل هو يقصد فقط تلك الأحزاب والمنظمات التي "تمثله" أو تتماهى مع مكوناته الأيديولوجية (اليسارية- القومية) دون غيرها من الأحزاب والمنظمات التي يشترك الاتحاد مع الرئيس في شيطنتها وعدم الاعتراف بشرعية وجودها في مراكز صناعة القرار السياسي أو الإداري أو حتى النقابي.
موقف "انتهازي" نجد له سابقة في الأيام الأخيرة من حكم المخلوع عندما حاولت المركزية النقابية أن تمدّ في أنفاس نظامه بعدم الدعوة إلى إضراب عام واعتماد الإضرابات الجهوية تحت ضغط القواعد. وقد جعلها هذا الوضع "الملتبس" قادرة على الالتفاف على الثورة، بل قادرة على نسبتها إليها

بحكم معرفتنا بتاريخ العلاقة بين الاتحاد والنواة الصلبة للحكم (المركّب الجهوي- المالي- الأمني) الذي حكم تونس قبل الثورة وبعدها بصرف النظر عن واجهاته السياسية (ومنها منظومة "تصحيح المسار" بقيادة الرئيس قيس سعيد)، فإننا نميل إلى أن البيان الأخير للمكتب التنفيذي الوطني للمنظمة النقابية لا يمكن أن يكون قطيعة مع المنظومة الحاكمة، فهو عندنا مجرد ضغط لـ"تحسين شروط التفاوض" (إذا بقيت المنظومة الحالية في الحكم) أو لتحسين شروط التموقع ضمن أية ترتيبات سياسية قادمة (في صورة سقوط النظام الحالي).

إننا أمام موقف "انتهازي" نجد له سابقة في الأيام الأخيرة من حكم المخلوع عندما حاولت المركزية النقابية أن تمدّ في أنفاس نظامه بعدم الدعوة إلى إضراب عام واعتماد الإضرابات الجهوية تحت ضغط القواعد. وقد جعلها هذا الوضع "الملتبس" قادرة على الالتفاف على الثورة، بل قادرة على نسبتها إليها. وهو ما مكّنها من تعويض "التجمع الدستوري" المنحل وتقديم الخدمات المعروفة لورثته وحلفائهم الموضوعيين في اليسار الوظيفي، تلك الخدمات التي مهدت لعودة المنظومة القديمة للحكم عبر واجتها السياسية نداء تونس وسياسة التوافق مع حركة النهضة، وما زالت تحكم إلى الآن عبر واجهتها الجديدة التي تسمى مجازا بـ"تصحيح المسار" (الرئيس ومنظّري مشروعه في اليسار الوطدي بالتحالف مع الحُويزبات القومية وبعض ورثة التجمع والعائلات الريعية).

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)