مقالات مختارة

ثورة السودان والثورة الرقمية

الشفيع خضر سعيد
1300x600
1300x600

تُعرف الثورات الصناعية بأنها طفرات علمية وتكنولوجية جديدة وطرق مبتكرة لرؤية العالم من حولنا والتعامل معه، مما يقود إلى تغيير عميق في البُعدين الاقتصادي والاجتماعي لصالح تحسين حياة الإنسان، بالإضافة إلى تطوير المفاهيم والتعميمات الفلسفية.

ومعروف أن الثورة العلمية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وعبر اكتشافات قانون بقاء المادة والحركة، وقانون تحول الطاقة والنظرية الخلوية والنظرية الداروينية، إضافة إلى إكتشافات العلوم الطبيعية الأخرى، وجهت ضربة صاعقة للمفاهيم التبسيطية التي كانت سائدة آنذاك وتقول؛ إن العالم لم يتغير منذ وجوده، وأن لا شيء في الطبيعة يتغير أو يولد من جديد. وكانت تلك الضربات الصاعقة من المقدمات الضرورية لنشوء العديد من الأفكار الفلسفية، ومن بينها الفلسفة الماركسية.

 

ويسجل التاريخ حدوث أربع ثورات صناعية، أجمع المؤرخون على أنها غيرت مجرى حياة الناس، وأسهمت في تغيير وقائع الحضارة الإنسانية. وتفاصيل هذه الثورات الأربع يمكن لأي راغب أن يطلع عليها في المواقع الإسفيرية، أو في أي من المصادر الأخرى التي تؤرخ لتطور المجتمع البشري، مع الأخذ في الاعتبار أن الثورات الصناعية ليست مجرد تاريخ، بل حاضر ومستقبل.

أما ما يهمنا في هذا المقال، فهو الثورة الرقمية التي اندلعت مع انفجار الثورة الصناعية الثالثة في ثمانينيات القرن الماضي، التي فتحت المجال أمام تطورات استخدام الحاسوب والإنترنت وتطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ثم تطورت مع انفجار الثورة الصناعية الرابعة في مطلع الألفية الجديدة، التي أنجبت دمج التقنيات التي تطمس الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية.

 

وبانفجار الثورة الرقمية، شهدت عملية التواصل بين الناس وانتقال المعرفة وتبادل المعلومات طفرة كبرى عبر تدوير المعلومة بين أعداد ضخمة من البشر المرتبطين بعضهم ببعض عبر الفيسبوك أو الواتساب أو غيرهما من الوسائط، التي أيضا تعمل كمنصات إعلامية، وتغيرت مفاهيم التواصل بين الحكومات والشعوب، إذ لم تعد المعلومة حكرا على الحكومات أو الأجهزة الأمنية، ولم تعد الحكومات وحدها هي القادرة على السيطرة والهيمنة على الأفكار والعقول والقلوب. والثورة الرقمية قلصت قدرة الأنظمة على شل الحركة بالاعتقال، وفي الوقت نفسه كسرت العقلية النخبوية للعمل المعارض، وخلقت ميادين ومنظمات افتراضية لتوسيع أفاق العمل السياسي، يمكن ترجمتها إلى قوة خارقة على أرض الواقع لإحداث التغيير.

لم ينتبه رواد الوسائط إلى حقيقة أن كيفية اختيار رئيس الوزراء، وليس اسمه، وعلى أي سند دستوري سيتم اختياره واختيار حكومته، وماهية البرنامج الذي ستنفذه هذه الحكومة، هي المعضلة الرئيسية في الأزمة الراهنة.


لكن أدوات ثورة الاتصال والمعلومات ستظل مجرد آلات صماء عمياء إذا لم تدرها عقول فعالة تحسن قراءة الواقع وتحولاته، وتترجم معطياته إلى مبادرات مبتكرة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

 

ففي الجانب الآخر من المسألة، جاءت الثورة الرقمية بمفاهيم جديدة تشمل التجسس الإلكتروني واختراق الشبكات بين الأفراد والدول، إضافة إلى ولادة الكثير من الظواهر السلبية، والخطيرة أحيانا، على المستوى الفردي مثل الاحتيال، سرقة الهوية، اختراق الخصوصية وانتهاك الحقوق العامة والخاصّة، ارتكاب الجرائم ضد المستخدمين، التنمر الإلكتروني، انتحال الشخصيات والتزوير، محاولات اغتيال الشخصية. أما على المستوى الاجتماعي، فمثلما أدت الثورة الرقمية ووسائلها للتواصل الاجتماعي دورا مهما وأساسيا في اندلاع وانتصار الحراك الشعبي في العديد من البلدان، مثل ثورات الربيع العربي وثورة كانون الأول/ديسمبر في السودان، فإن دوائر الثورة المضادة تستخدمها لفرملة مسار التغيير أو اختراقه وتصفية محتواه الثوري، خاصة إبان المنعطفات والصراعات الاجتماعية الحادة التي دائما ما تتفجر عقب إنجاز المرحلة الأولى من مراحل التغيير، أي الإطاحة بالنظام السابق، والبدء في تنفيذ شعارات وبرامج الثورة.

 

ففي السودان، وفي ظل الأزمة الحادة الجاثمة اليوم على صدر بلادنا حد الاختناق، تسعى دوائر الثورة المضادة داخل البلاد، وكذلك أجهزة الاستخبارات الأجنبية التي يزعجها التغيير في السودان، تسعى لبناء حسابات ومنصات رقمية بأسماء وهمية تبث عبرها الأفكار الهدّامة والشائعات والأكاذيب، وتسعى لاغتيال شخصيات قادة الحراك الشعبي والقيادات الوطنية، المؤثرة سياسيا واجتماعيا وتتبنى أهداف الثورة.


وإذا كان نشاط دوائر الثورة المضادة والاستخبارات الأجنبية المعادية عبر وسائل التواصل الاجتماعي مفهوما ومبررا ومتوقعا، فإن الخطل الأكبر الذي يسبب أضرارا كبيرة، هو تعاملنا غير الواعي حد السذاجة أحيانا، مع محتويات هذه الوسائط. فمثلا، كثيرا ما تأتي الوسائط بخبر أو معلومة ذات أبعاد خطيرة، ولكن دون الإشارة إلى مصدر محدد والاكتفاء بعبارة “أفادت مصادر موثوقة” أو “يدور في الأوساط السياسية” أو “خبر عاجل”.

 

ونقرأ نحن الخبر مركزين على محتواه غير مهتمين بغياب مصدره، وننخرط في مجادلات تلهينا عن الأهم، بينما الخبر إما مفبرك أو سم مدسوس في العسل، أو يخدم أغراض جهة ما. خذ مثلا الخبر المنتشر في الوسائط ويحمل ترشيحات أسماء لتتولى رئاسة الوزراء. في الخبر لا يوجد أي مصدر يُنسب إليه، والموجود فقط هو “علمت مصادرنا” أو “أفادت الأخبار”!

 

ومعروف أنه حتى اللحظة لم يحدث أي توافق حول طبيعة وتركيبة الجهة التي ستختار رئيس الوزراء، ومع ذلك فإن تعاملنا غير الواعي مع خبر الوسائط انصرف إلى مناقشات وتحليلات حول أسماء الشخصيات المرشحة، التي ربما جاءت نتاج أفكار وأحلام رغائبية من رواد الوسائط، أو هي مجرد بالونات اختبار من جهات بعينها، أو الغرض منها حرق بعضها، ما دام الجهة المرشحة غير مذكورة ويسهل التأويل هنا. لم ينتبه رواد الوسائط إلى حقيقة أن كيفية اختيار رئيس الوزراء، وليس اسمه، وعلى أي سند دستوري سيتم اختياره واختيار حكومته، وماهية البرنامج الذي ستنفذه هذه الحكومة، هي المعضلة الرئيسية في الأزمة الراهنة.

 

أما اختصار هذه الأزمة في تسمية رئيس الوزراء دون تصفية جوهرها المتمثل في تداعيات وإجراءات انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021، وقبل أي اتفاق سياسي جديد ووثيقة دستورية جديدة، لهو استهتار بالثورة وتقليل من قيمة تضحية شهدائها، وعمليا لن يحقق ذلك أي استقرار، بل ستزداد الأزمة اختناقا.

 

القدس العربي

0
التعليقات (0)