قضايا وآراء

الإخوان في مفترق طرق

قطب العربي
1300x600
1300x600
لا توجد جماعة دينية أو سياسية عربية نالت من الشهرة والحضور ما نالته جماعة الإخوان المسلمين عبر أكثر من تسعين عاما. لم تكن تلك الشهرة نتيجة حملات دعائية مدفوعة، ولكنها نتيجة جهد وتضحيات، ونجاحات وإخفاقات، ومعارك وتحديات، وانتشار وصعود أفقي ورأسي، مكنها من الحضور في ثمانين دولة، كما مكنها دون غيرها من إيصال أول رئيس مدني لسدة الحكم في أكبر بلد عربي (مصر) بعد ستين عاما من الحكم العسكري (بغض النظر عن تقييم قرار الترشح وتبعاته)، ومكنها عبر مدارسها المنتشرة في العديد من الدول العربية والإسلامية من إيصال بعض رموزها والمتحالفين معها لسدة السلطة، أو لمناصب عليا في تلك البلدان ناهيك عن عضوية برلماناتها.. الخ.

كانت الجماعة هي القوة الاجتماعية الأكبر في مصر في الثلاثينات والأربعينات، وظل تركيزها على العمل الاجتماعي والدعوي، وأسهمت بقوة خلال مسيرتها الدعوية في نشر القيم والمظاهر الإسلامية، كما أسهمت بدور كبير في مواجهة التغريب والتبشير والاستعمار البريطاني. وحين عادت للعمل مجددا منذ منتصف السبعينات بعد اعتقالات الخمسينات والستينات ركزت على الجامعات، فأنتج لها ذلك طبقة وسطى من مهن مختلفة انتشرت لاحقا في النقابات المهنية فسادتها، ثم تصدرت الجماعة المشهد السياسي المعارض من خلال ترشحها للانتخابات البرلمانية بدءا من العام 1984 وحتى العام 2012.

وكانت الجماعة هي اللاعب الأبرز والأقوى خلال ثورات الربيع العربي، وكانت الرابح الأكبر فيه أيضا، ثم كانت الهدف الأول للثورات المضادة، ودفعت الثمن الأكبر من الشهداء والمعتقلين والمنفيين، كما صودرت أموالها وأموال قادتها وممتلكاتها، ووضعت على لوائح الإرهاب في عدة بلدان، ودُفعت المليارات لتصنيفها إرهابية في الولايات المتحدة وأوروبا، لكن تلك الجهود فشلت حتى الآن، وإن لم تتوقف بشكل كامل.
تحركات قيادتها وعلى رأسهم نائب المرشد إبراهيم منير ومساعدوه، أنقذت الجماعة من التصنيف الإرهابي، والذي كان يمكن أن يتسبب في اعتقال الكثير من رموزها وقياداتها وشبابها في الخارج

صمدت الجماعة خلال السنوات التسع الماضية، ونجت بأعجوبة من أكبر مذبحة عرفتها مصر عقب الانقلاب العسكري، التي تقترب ذكراها، وكانت تستهدف القضاء المبرم عليها ودفنها في مقر اعتصامها الرئيسي "رابعة". لقد أفاقت الجماعة من الصدمة سريعا ونجحت في لملمة شتاتها بصورة فاقت التوقعات، وقادت المقاومة السلمية ضد الانقلاب، مدعومة بحشد من أنصارها وحلفائها وغالبيتهم من القوى الإسلامية، وأبلت بلاء حسنا لمدة ثلاث سنوات تقريبا، لم تتوقف خلالها مظاهراتها ولا فعالياتها داخل مصر وخارجها.

ولكن الجماعة واجهت تحديا لنهجها السلمي الذي أكده مرشدها الدكتور محمد بديع من فوق منصة رابعة نفسها، ورأى جزء منها أن ذاك النهج لم يعد صالحا في مواجهة ما يتعرضون له من حرب استئصال، وتصدت الجماعة لهذا المسار بشكل إداري، وإن لم تتبعه بتأصيل شرعي مفصل، واعتذار لشبابها الذين انخرطوا في عمليات نوعية بناء على توجيهات من قادة ميدانيين لهم.

استثمر النظام المصري تلك العمليات المحدودة في إطلاق تهمة العنف والإرهاب على الجماعة، وصنفها جماعة إرهابية وتبعه حلفاؤه الخليجيون، ثم تحرك النظام على المستوى الدولي لتصنيف الجماعة "إرهابية"، لكن الموقف الحازم للجماعة في حينه، وتحركات قيادتها وعلى رأسهم نائب المرشد إبراهيم منير ومساعدوه، أنقذت الجماعة من التصنيف الإرهابي، والذي كان يمكن أن يتسبب في اعتقال الكثير من رموزها وقياداتها وشبابها في الخارج، ومطاردتهم عبر المطارات والمنافذ الحدودية، ومصادرة الممتلكات والجمعيات التي يشتبه في تبعيتها للجماعة أو أفراد منها.. الخ.
ارتفعت المطالب بالتغيير داخل الجماعة لكسر هذا الجمود، ولاستعادة الفعالية، فكانت الانتخابات الجديدة في العديد من الأقطار التي يتواجد فيها الإخوان المصريون، وحملت النتائج تغييرات كبيرة، وهو ما لم يرق للبعض، فكانت المناكفة التي أحدثت انقساما جديدا في الجماعة، في وقت كان الكثيرون ينتظرون منها دورا أكبر لحلحلة الأوضاع في مصر وخاصة أوضاع المعتقلين

تسببت الاختلافات التنظيمية في 2016 في وقوع انقسام داخل الجماعة، وتسبب هذا الانقسام في ضعفها، وتعثرها، ثم تجمد أنشطتها وفعاليتها، وانسحاب غالبية شبابها، وسارت الأعمال بوتيرة روتينية لخمس سنوات تقريبا، وارتفعت المطالب بالتغيير داخل الجماعة لكسر هذا الجمود، ولاستعادة الفعالية، فكانت الانتخابات الجديدة في العديد من الأقطار التي يتواجد فيها الإخوان المصريون، وحملت النتائج تغييرات كبيرة، وهو ما لم يرق للبعض، فكانت المناكفة التي أحدثت انقساما جديدا في الجماعة، في وقت كان الكثيرون ينتظرون منها دورا أكبر لحلحلة الأوضاع في مصر وخاصة أوضاع المعتقلين.

ثمة تباين مهم بين انقسام 2016 وانقسام 2020، فالأول جرت وقائعه بشكل أساسي في الداخل، وإن كان جزءا كبيرا من إدارته وتداعياته تم في الخارج أيضا، وكان القائم بعمل المرشد في حينه الدكتور محمود عزت موجودا داخل البلاد قبل أن يتم اعتقاله في 2019، وفقدت الجماعة في ذلك الانقسام رموزا وقيادات سياسية وشرعية وإعلامية كبرى، ناهيك عن غالبية شبابها. أما الانقسام الحالي فقد جرت وقائعه ولا تزال في الخارج بشكل أساسي، وقد حدث كرد فعل على نتائج الانتخابات التنظيمية الأخيرة، وما تضمنته من تغييرات كبيرة، أما الداخل فأوضاعه صعبة للغاية لم يسبق لها مثيل في مصر، وليس من الحكمة في شيء التساند عليه لتحقيق مكسب هنا أو هناك، فهو بحاجة إلى الخدمة وليس الاستخدام.
الجماعة الآن في مفترق طرق، وحتى تستعيد عافيتها، وتحسن صورتها، تحتاج إلى توحيد صفوفها، وتطوير أدواتها وخططها، وتحديث سياساتها بما لا يمس ثوابتها، وإجراء مراجعات شاملة لمسارات عملها الماضية وفي الحد الأدنى منذ ثورة يناير وحتى الآن

التصريحات الأخيرة التي أطلقها الأستاذ إبراهيم منير، نائب المرشد العام والقائم بأعماله، حول تجنب الإخوان للصراع على الحكم هي تصريحات ذكية نزعت من يد النظام الحاكم "فزاعة الإخوان" التي كان يستخدمها لتخويف القوى السياسية في الداخل والحكومات الأجنبية في الخارج، كما كان يستخدمها لمواجهة أي حراك لمواجهة الاستبداد واستعادة الديمقراطية. وبغض النظر عن موقف النظام من هذه التصريحات التي لا تسعده كثيرا لأنها تبطل حججه، فإن الرسالة موجهة لأطراف أخرى قد تكون أكثر تفهما لها، خاصة القوى السياسية بشقيها اليساري والليبرالي، والتي قبلت مظالم النظام خوفا من عودة الإخوان.. كان من الممكن لتلك التصريحات أن يكون لها تثير أكبر ونتائج أسرع في ظل جماعة موحدة، لكنها تظل على كل حال أفضل من حالة التكلس التي عاشتها الجماعة خلال السنوات القليلة الماضية.

الجماعة الآن في مفترق طرق، وحتى تستعيد عافيتها، وتحسن صورتها، تحتاج إلى توحيد صفوفها، وتطوير أدواتها وخططها، وتحديث سياساتها بما لا يمس ثوابتها، وإجراء مراجعات شاملة لمسارات عملها الماضية وفي الحد الأدنى منذ ثورة يناير وحتى الآن، حيث أن الكثيرين من صناع الأحداث في هذه المرحلة مطلقو السراح، وكثيرون منهم موجودون خارج مصر.

تلك المراجعة ضرورية لتحديد ما كان صائبا فتستكمل طريقه، وما كان خاطئا فتعتذر عنه، وتتجنبه مستقبلا. وهذه المراجعة ليست عيبا، وليست انتقاصا أو افتئاتا على أحد، لكنها مهمة لتعظيم المكاسب وتجنب المزيد من الخسائر، فالجماعة كانت ولا تزال محط آمال ملايين المسلمين عبر العالم، وليس في مصر فقط.

twitter.com/kotbelaraby
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الإثنين، 08-08-2022 02:56 ص
*** وجهة نظر من خارج التنظيم: بل قل إن مصر والعالم العربي كله هو الذي في مفترق طرق (بل والعالم الإسلامي من حوله)، وجماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة ليست نسيج مستقل وحدها، بل هي جزء أصيل من مجتمعها الذي نشأت منه، وتتأثر بما يدور فيه إيجاباً وسلباُ، وتستمد قوتها من قوة التيار الإسلامي الذي تمثله وترتبط به، ومن المؤكد أن التنظيمات السلفية والصوفية ومشايخ شبه الدولة وأبواق الفضائيات التابعين لها لم يحلوا محلها، وكل التيارات والأحزاب والجماعات السياسية القائمة اليوم بلا استثناء تتعرض لما تتعرض له جماعة الإخوان اليوم، ويمرون بما تمر به من مشكلات داخلية. ودون التقليل من دور الجماعة السياسي المعروف، ومدى الشهرة التي حازتها، فهي لم تنفرد بالشهرة، ففي مصر مثلاُ فإن الاتحاد الاشتراكي العربي كان في يوم ما مسيطراُ على كافة مفاصل الدولة والمجتمع، وبعده جاء حزب السادات ومبارك الوطني الديمقراطي ليحل محله في السيطرة والشهرة والشعبية، وتلك المكانة والشهرة لم تنقذهما من الانهيار ثم الاندثار التام، رغم الملايين الذين كانوا منضمين إليهما ومستفيدين منهما، ومن قبلهم كان لحزب الوفد في مرحلة تاريخية سابقة، دوراُ أكبر من دور جماعة الإخوان، كما كان له انتشار وشهرة وسطوة وشعبية أكبر بين جماهير المصريين ونخبتهم في كافة أرجاء مصر، وحزب الوفد ما زال قائماُ إلى اليوم، وأصابه من الهزال والاضمحلال ما لحق بغيره من الأحزاب القائمة اليوم مما لا ينكره عاقل، بعد ارتداده عن مبادئة الليبرالية التي نشأ عليها، وتحوله إلى خيال مآتة، وانبطاحة تحت بيادة عسكر الانقلاب، والتنظيم الهرمي المحكم لجماعة الإخوان ليس الهدف العاجل، وقد لا يكون مناسباُ أو ممكناُ أو حتى مفيداُ للمرحلة الحالية، وفي مراحل تاريخية سابقة كان لبعض المستقيلين من قيادات الجماعة وأعضاءها التنظيميين دوراُ أكبر خارج محدودية التنظيم الواحد وقيوده، وكان لحزب الوسط وحزب مصر القوية اللذان تأسسا على يد قيادات إخوانية دور وإن كان محدوداُ، وقد أصابهما أكثر من ما أصاب الجماعة وحزبها من تفكك، وحرصهما الأكبر على التأقلم والتعايش مع الأنظمة القائمة لم تنقذهما من بطشهم، وقول الكاتب بأن تصريحات ابراهيم منير "نزعت من يد النظام الحاكم فزاعة الإخوان التي كان يستخدمها لتخويف القوى السياسية"، قول غير صحيح، لأنه لا توجد في الأساس قوى سياسية تعمل بشكل طبيعي، كما أن النظام الحاكم نفسه فاقد للشرعية، حسب قول الجنرال المنقلب بلسانه: "أننا في شبه دولة" وقد صدق وهو الكذوب، والموجة الثورية الشعبية القادمة لن تقودها الأحزاب ولا الجماعات، بل ستتفجر تلقائياُ من جماهير الشعب من البسطاء الذين نالتهم يد القمع والنهب والإفقار والإذلال والتهميش على يد العصابة الانقلابية، وستقودها تنظيمات عنقودية مستقلة تفرزها الجماهير الثائرة من بين صفوفها، وسيكون العنف متبادلاُ، ودور النخب والأحزاب والتيارات السياسية يأتي في مرحلة لاحقة، لتأسيس دولة أكثر عدلاُ وتعبيراُ عن هوية الشعب ومصالح غالبية جماهيره، والله أعلم.