قضايا وآراء

مُقاربة لدورِ الخطاب الثّقافي في مواجهة التّحديات

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

إذا كانت الثقافة في المحصِّلة وعياً معرفياً ناضجاً يشكل حاملاً حضارياً، على أرضية من وضوح الهوية والأصالة والانتماء وفق معيارية خُلقية عقائدية، فإن أداءها لا بد أن يتجلى في سلوك وأفعال وإنجازات فردية وجماعية بناءة، رائدة وخلاقة، تعزز مكانة الحرية وتعبر عن رؤية تتجاوز غبش الحاضر وتستشرف المستقبل، رؤية لا تتخلَّف عن عصرها إن لم تكن متقدمة فيه. ولا يتم ذلك إلا بالإنسان الذي هو غاية التقدم الحضاري ووسيلته. 

والخطاب الثقافي، بالمفهوم الشامل للثقافة، قادرٌ على التأثير والتغيير في آن، وعلى تعزيز الثقة والإرادة معاً، وعلى تجاوز الصعوبات والتصدي للتحديات والدفع باتجاه النهوض والإبداع والابتكار والاختراع، كما أنه قادر على استنبات أجنحة في الأرواح المُثقلة بأحمالها، تمكّنها من ولوج عوالم الممكن باندفاع واقعي، ومن الاستثمار في الحلم بوصفه أحد المداخل المشروعة لتغيير الواقع المُعترَض عليه، ومن ارتياد عوالم الارتقاء والكشف والإبداع بثقةٍ واقتدار وأمل.
 
ونحن بأمس الحاجة إلى خطاب ثقافي عربي يتفاعل مع الواقع، وتتكامل روافده وتصب في مجرى التنوير والتأثير والتغيير، لنواجه التمزق والتآكل والطغيان والظلم والجوع والبؤس المادي والمعنوي الذي تعاني منه جماهيرنا. إن خطابنا الثقافي الراهن فيه الكثير مما يعدّ إعادة إنتاج لمنتَجٍ ثقافي، سواء أكان ذلك المُنْتَج عربياً أو غير عربي، قديماً أو حديثاً أو حداثوياً، بأسلوب قد لا يكون فيه من الجديد والتجديد ما يقدم منهجاً، أو يفتح نهجاً، أو يُضيف إضافة ذات ثقل ومغزى.. 

وليس فيه من تجليات مسؤولية المُنتمي لوطن وأمة وعقيدة ما يسوِّغ الركون إلى قدرته على مواجهة ما نحن فيه وما نحتاج إليه.. وفي خطابنا الراهن من الانفعالية والشعاراتية والعَصبية والعُصبوية والطائفية واالدعائية والتبعية ما قد يسدل أمام باذله ومتلقيه غلالة قاتمة تشوه الرؤية أو تحرِّفها أو تشلُّها، وتُغشِّي المنطق بما لا يتلاءم مع الوضوح الذي ينبغي أن يؤسس له الخطاب المنقذ البنَّاء بموضوعية ومنهجية ينبغي توفُّرها للإقناع والانتفاع والشمول.

 

نحن بأمس الحاجة إلى خطاب ثقافي عربي يتفاعل مع الواقع، وتتكامل روافده وتصب في مجرى التنوير والتأثير والتغيير، لنواجه التمزق والتآكل والطغيان والظلم والجوع والبؤس المادي والمعنوي الذي تعاني منه جماهيرنا.

 



لا نقول بانقطاع الخطاب عن التراث والموروث لأن ذلك الأمة عن ما ضيها وهو يشبه قطع ساق الدوحة الباسقة عن جذورها.. ولا نقول بانكفائه في حضن القديم وانزوائه أحياناً في ركن من أركانه بتمترس وتقديس يفضيان إلى تقديس ما ليس مقدساً.. ولا بتعلُّق خطابنا بخطاب قوم آخرين وثقافات أخرى بنوع من التبعية والاجترار والتقليد تجعله يعاني من نظرة دونيَّة واستصغار لذاته، ومن انبهار بالمتبوع يجعله يتلقى خطابه بحماسة تغيِّب العقل النقدي والتمحيص الدقيق، وتؤثر سلبياً في ملكة الحكم والتذوق السليم، "وعين الرضا عن كل عيب كليلة"، وتضعف أو تلغي انتماءه وهويته الثقافية.. 

ولا نقول بقوقعة وانغلاق وانكفات في الذات يلغي التواصل الخلاق. فلسنا مع أمراض تزيد ما بنا من أدواء، فكل ما يعتور خطابنا من علل يحرمه ويحرم متلقِّيه من الاستقلالية، "موقفاً نقدياً ورؤية ذاتية"، هي أحوج ما يحتاج إليهما صاحب الخطاب ومتلقيه في عملية البَثُّ والتلقي لتكين وعي معرفي عميق بالذات والآخر، ولخوض مثاقفة بناءة تقوم على الأخذ والعطاء من دون عُقَد، ولتفاعل خلاق مع النَّسغ المعرفي والإنساني القادم عبر الثقافة والحضارة، بإيجابية وحيوية وفاعلية وغائية واعية.

إن بُعد خطابنا اليوم أو ابتعاده عن المعطى العلمي ـ العملي والتقني والمعلوماتي، وعن حركة تدفق المعلومات وتسارع تقدم علوم العصر بأنواعها.. يجعله مرشحاً للهَجْر ممن يتواصلون أو يريدون التواصل مع معطيات العصر والتعامل بأدواته ووسائله وأساليبه، أو يجعله متخلفاً ومغذياً للخذلان والتقوقع إذا ما حوصرت به فئات وأجيال، وتسبب في فصلها عن نور العصر وعن معرفة تحدياته لمواجهتها. ويأكل جسدَ خطابنا وفاعليته في أحيان كثيرة توطن الخوف وغياب الحرية المسؤولة من جهة، وسطوة الطغيانية السياسية ـ الأمنية و الإعلامية ـ الإعلانية من جهة أخرى، وتفعل فعلها السلبي الفادح الفاضح فيه التسطيح، وانعدام المسؤولية الأخلاقية والأدبية، واستباحةُ التشويه والمسخ بفعل العدائية الاستئصالية التي تدمنها سياسات وأحزاب وتنظيمات وطائفيات تدعي العِصمة المُطلقة، وتدخل ميدان الثقافة بميليشيات "ثقافية؟!"، تستبيح كل وسيلة وأسلوب وأداة لتشويه غيرها ومحوه واجتثاثه وتمارس القتل في الظلام لمخالفيها ورفع شأن مَن لا شأن له مِمّنْ توليهم ويوظفونها لتلك الأغراض..

ولا يرف جفن لبعضها حين تتنكر للوطني والديمقراطي والعلمي بمفاهيمها الموضوعية، وتدعي بل تحتكر الوطنية والديمقراطية والعلمية بمفهومها المتهافت، وتنبذ القيمي والديني والأخلاقي، وتستمر في التخريب والهدم دون رادع. ويكاد الذاتي المتورِّم من ألوان الخطاب ـ حتى الفكري منه أحياناً ـ يلف في عباءته العام السليم الصحيح ويخفيه.. ومن الطبيعي ألا يساهم هذا النوع من الخطاب الأداء بتقديم تشخيص أو رؤية أو موقف على أسس معرفة منهجية سليمة، ويشوه مفاهيم "الانتماء والوطني والقومي والحضاري والإنساني"، ولا يؤهل لاستنقاذ ولا لتقدم أو استنهاض ونهضة.

وكل ما سبق وأشرت إليه، إضافة إلى تسييس مُخلٍّ مُفسد، ومَلَقٍ ثقافي للسياسة مُغْثٍ، وغُلوٍّ مَرَضيٍّ ذي شُعَب ووَصَب، مما يعتوِر خطابنا الثقافي.. كل ذلك يشكِّل معوّقات ومُثقِلات ومُمْرِضات ومُضْعِفات للخطاب وأهله ولدوره في التصدي لتحديات العصر، وللقوى الطامعة، والتبعيات الفاقعة، والسياسات العاجزة، والطغيانية الفاسدة، والفساد والإفساد المُستشررين سياسياً وإدارياً واجتماعياً، وتحرير الإنسان والأوطان، وإقامة المواطَنَة المتكافئة على قدم وساق، وتحقيق الإصلاح بما يقيم العدل ويحفظ الحقوق والحريات، ويوظف الطاقات والثروات في ميدان السَبْق في الإنجاز والإبداع والدفاع عن الأمة.

وكل هذا يلقي على أهل الخطاب الثقافي العربي قبل سواهم مسؤولية كبيرة، لا يستطيعون مواجهتها ولا القيام بها من دون مواجهة جريئة وشجاعة وصريحة للذات، تهدف إلى وضع المثقف بمواجهة مرآة نفسه، وهو في موقعه وموقفه وسلوكه وخياراته، وتجعله يراجع ذاته ليكون المثقف الذي يوظف خطابه في خدمة الوعي والحرية والحق والعدل والأمة، بانتماء واعتزاز.. ولا يستطيعونه  من دون إقرار بوجود عيوب وأخطاء في الخطاب وأهله. 

 

إن خطابنا الثقافي الراهن فيه الكثير مما يعدّ إعادة إنتاج لمنتَجٍ ثقافي، سواء أكان ذلك المُنْتَج عربياً أو غير عربي، قديماً أو حديثاً أو حداثوياً، بأسلوب قد لا يكون فيه من الجديد والتجديد ما يقدم منهجاً، أو يفتح نهجاً، أو يُضيف إضافة ذات ثقل ومغزى..

 



ومن المداخل إلى ذلك، بعد الاقتناع بضرورته وأهميته: "مراجعة دقيقة وجريئة للذات في ضوء العقل والضمير الحي والمسؤولية الأخلاقية، ومواجهة ما في الخطاب الثقافي العربي من عُصابية وعصبية وعصموية وميول للإلغاء والمحو والاجتثاث، ومن تبعية واجترار وانجرار وارء ما لا ينفع ولا يبني من معطيات يراها العقل النقدي السليم عيباً أو حجاباً له عن الواقع والناس والعصر، وضعفاً وإضعافاً وتهافتاً في التأثير بمجريات الحوادثو وفي القدرة على التغيير من موقع الوعي النضالي التَضْحَويّ المسؤول عن واقع وأناس وقيم، ومن موقع استشرافي مستقبلي تفاؤلي بنَّاء.. 

وهي مُعطيات تحول دون جعل أهل الخطاب الثقافي متفقين أو متوافقين على مبديئيات وأولويات وآليات لبلوغ أهداف عَبْرَ مراحل، ولجعل المتلقي العربي على درجة من الثقة والتواصل والتفاعل البناء مع خطاب معرفة وعلم وإصلاح، ومع بُناة ذوي مواقف ورؤى وقدرات وتأثير في مواجهة قضايا الأمة وتحديات العصر وبغاته وطغاته، من خلال خطاب واقعي جامع مقنع واعٍ مُحرض وفعال.. فخطاب يغصّ بالانفعالية والغلو والفتنوية والعصموية والانغلاق وبما لا يرضي ولا يبني، ولا يمتح من واقع الناس، ولا يستخدم أدوات عصره، ولا يغني الوعي، ولا يساهم في التنمية والتطوير والاستنهاض والنهضة، ولا يقف مع الإنسان في الشدة والمحنة، ولا يسند أناس عصره في واقعهم وبيئتهم ومعاناتهم ومجاعاتهم واضطهادهم وتطلعاتهم.. هو خطاب لا يؤسس لتحرير العقل بل لتدميره، ولا لتأصيل المنطق وإنضاج الرؤية وتوسيع الأفق وتعميق الانتماء والعمل بمسؤولية ووعي وللخروج بالناس من دائرة الأزمات.. بل يؤدي إلى خلق الأزمات وليكون هو أزمة بحد ذاته. إنه خطاب قاصر لا ينقذ بل يحتاج إلى إنقاذ، مريض لا يصنع الصحة بل يحتاج إلى مِصح.

وهذا الذي ينبغي التصدي له من جهة والتطلع إلى بلوغه من جهة أخرى، يحتاج إلى جبهة ثقافية معافاة، متماسكة، منتمية، لها موقفها ورؤيتها وجرأتها.. يتبادل أطرافها وأفرادها الثقة، ولا يبيع أحدهم الآخر ويشتري به، ويحمي كلٌّ منهم ظهر الآخر ما دام على حق، ويعملون معاً على رَأْب الصدوع الكثيرة، ومعالجة الجراح الخطيرة، ومواجهة الكوارث والمآسي الجماعية بالرأي والصدع بالموقف، ويجمعون الصف، وينصرون الحق، ويعززون الإستقلال، وينصرون المقاومة التي تتصدى للاحتلال والدوان، ويبذلون كل جهد ممكن ليبلغوا، بالتفاهم والتعاون والتكامل والأداء السليم والتواصل والتفاعل والحوار الواعي الناضج، الأهداف البناءة والمنقذة المنشودة في نهاية المطاف.


التعليقات (0)