الذاكرة السياسية

الأحمر.. مشيخة معمرة في بيئة إسلامية لم تخترقها الكولونيالية

الشيخ عبد الله الأحمر.. وريث زعامة حاشدية الممتدة منذ أكثر من ثلاثة قرون دون انقطاع
الشيخ عبد الله الأحمر.. وريث زعامة حاشدية الممتدة منذ أكثر من ثلاثة قرون دون انقطاع

عرفت الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر في أواسط ثمانينيات القرن الماضي. كنت في بدايات عملي الصحفي كمحقق ومراسل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كان الشخصية اليمنية الأولى التي التقيتها في مطلع زياراتي لليمن. تم اللقاء رفقة الزميل والصديق عبد الوهاب الروحاني. وكان الدكتور عبد العزيز المقالح أول من استضافني في مقيله اليومي المتنقل كل يوم في منزل، وتعرفت في مقايله على الحياة السياسية والثقافية اليمنية. 

التقيت بعد الشيخ عبدالله الشيخ سنان أبو لحوم، ولعل الشيخين هما الأكثر حضورا في وسائل الإعلام العربية مع مفارقة ملفتة، وهي أن الشيخ عبد الله (توفي في كانون الأول/ديسمبر عام 2007 م)، كان زعيم ائتلاف حاشد القبلي (انتقلت الزعامة من بعد إلى نجله الأكبر الشيخ صادق بن عبدالله)، في حين يعتبر أبو لحوم من كبار مشايخ بكيل، لكنه لا يتولى زعامتها التي تعود للشيخ ناجي الشايف ونجله محمد.

 

            فيصل جلول مع الشيخ الراحل محمد أبو لحوم صهر الشيخ عبدالله الأحمر

لا بد من الاعتراف هنا أن حضور الشيخ سنان السياسي الملفت داخل اليمن وخارجه، حملني على الوقوع  في لغط ذات يوم، عندما نسبت له زعامة بكيل، وكان هذا خطأ كبيرا في العرف القبلي؛ لأنه يعتبر تشكيكا في إجماع قبائل بكيل على زعامة الشايف. هاتفني الشيخ محمد بن ناجي من باريس معاتبا، وتمنى علي تصحيح الخطأ، وأرسل لي دعوة عبر الصحفي الصديق فيصل مكرم لزيارته في منزله، ليحدثني عن تاريخ بكيل وزعامتها وأدوارها. 

كان الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مقدمة الشخصيات السياسة والاجتماعية اليمنية التي عقدت العزم على تقديمها للرأي العام العربي، وقد التقيته مرارا لهذه الغاية، لكن الصدف شاءت ألا يكتمل هذا المشروع، فكان علي أن أبادر إلى الإفادة من مادة تلك اللقاءات، وتقديم ما توفر لدي عبر منصة "عربي21"، التي تفضلت مشكورة بنشر سيرة كل من جارالله عمر ويحيى المتوكل وعلي سالم البيض (نشرت في موقع آخر سيرة مختصرة لرئيس الوزراء الراحل عبد العزيز عبد الغني)، واليوم أبادر إلى الحديث عن الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، الذي كان يوصف بـ "صمام الأمان" لبلاده. وليس من قبيل الصدفة أن تغرق اليمن في أتون الفوضى، وينهار النظام العام بعد مرور أقل من أربع سنوات على وفاة الشيخ الأحمر.

كنت ألتقي الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في كل زياراتي تقريبا لصنعاء وفي معظم زيارات الشيخ إلى باريس. سألني خلال إحدى الزيارات عن بيئتي الاجتماعية في لبنان، فحدثته عن أسرتي لجهة والدي ولجهة والدتي، التي تنتمي إلى إحدى العشائر اللبنانية، ورويت له حادثة وقعت مع المقاومة الفلسطينية في بداية وجودها في لبنان، حيث قتل مقاوم يساري فلسطيني ينتمي إلى تيار أؤيده، شابا من هذه العشيرة عن طريق الخطأ، ونصحني خالي الذي ينتمي إلى العشيرة باعتماد الطرق القبلية الملائمة للحل، وهكذا تم. فأكد لي الشيخ الأحمر أن الحل نفسه يعتمد في اليمن، وصار ينظر إلي من بعد نظرة تتعدى الإعلام إلى كوني أنتمي إلى قيم اجتماعية هي الأكثر انتشارا في اليمن. ولا أنسى أبدا إصرار الشيخ عبدالله على دعوتي منفردا يوم الجمعة للصلاة وللغداء في منزله ومع أبنائه، ومن ثم الانتقال إلى مقيله الأسبوعي المميز، وهذا تكريم يناله عدد محدود للغاية ممن يعتبرهم الشيخ أهلا للدخول إلى بيته وتناول الطعام مع أبنائه.

 

                           فيصل جلول وعبد الله الأحمر

وإذا كانت الجلسة الأولى في مقيل الشيخ عبدالله عادية، فإن الجلسات التالية ستكون مميزة حيث يختار لي الجلسة على مقربة منه، وأحيانا على يمينه أو على شماله؛ بحسب أهمية الجالسين من الحضور، وأن تساوي الجميع في الأهمية، فالمكان المفضل هو بمواجهة الشيخ، وهذا ما حصل في أحد المقايل، حيث كان الشيخ علي مقصع خال الرئيس علي عبدالله صالح يجلس إلى يسار الشيخ عبدالله وأحد كبار مشايخ جنوب اليمن إلى يمينه. ولعل الدراسين المختصين في الأنتروبولجيا يعرفون أهمية المراتب والمصافحات في المشهد القبلي وأهمية الأعراف، وبخاصة المتصلة بالجنبية اليمنية. وكنا أحيانا نجلس في حديقة بيته في صنعاء تحيطنا أشجار البن.

كان أبناء الشيخ عبدالله يقدرون العلاقة المميزة التي ربطتني ببيتهم؛ لذا لم يتوقف أي منهم أمام اختلافنا في المواقف إزاء بعض حركات الربيع العربي، ولعلني كنت الصحفي الوحيد في مطالع الأزمة اليمنية الذي يتلقى دعوة لحضور مقيل الرئيس علي عبد الله صالح، ويتلقى دعوة في اليوم التالي للمشاركة في مقيل الشيخ حميد الأحمر.

على الرغم من حذره الشديد إزاء العلمانيين وعدم ثقته بالماركسيين الذين نكلوا بالمشايخ في الجنوب ومناطق الشمال الوسطى، خاض الشيخ عبدالله تحالفا مخلصا مع جارالله عمر، أحد أبرز زعماء الحزب الاشتراكي اليمني، وصعق لاغتياله في مؤتمر عام لحزب الإصلاح، لذا كان حريصا على كشف الحقيقة كاملة حول مقتله، ولم يتردد في اعتقال القاتل واقتياده إلى منزله، ومن ثم استجوابه بحضور عدد من رؤوساء الأحزاب والشخصيات المهمة، وحرص على أن يكون الاستجواب مصورا. 

شعر الشيخ الأحمر بحزن شديد لهذه الجريمة، وسيشعر بحزن مشابه بعد موت الشيخ مجاهد أبو شوارب صهره وركنه الأهم في حاشد خلال حادث سير، فخاطبه خلال إلقاء نظرة على جثمانه: "ماذا جرى؟ كيف تتركني والضباع من حولي!". 

في وقت لاحق، ستظهر بوادر إصابته بالسرطان وسيتقاطع ذلك كله مع أزمة سياسية يمنية مستعصية، ستتوسع معها الهوة بينه وبين الرئيس علي عبدالله صالح، ولعل وفاته عشية الربيع العربي، وقعت في أسوأ الأوقات في اليمن، حيث كان منطق التسوية الذي أجاده دائما هو الغائب الأكبر في الصراع على السلطة عشية الربيع العربي وخلاله. لكن ماذا عن البدايات ومن هو الشيخ الأحمر؟

طليمة حاشد

ولد الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر عام 1932 في "حصن حبور" المعروف بـ "طليمة حاشد" في محافظة حجة، التي تقع على بعد 130 كلم شمال غرب صنعاء. وهو وريث زعامة حاشدية ممتدة منذ أكثر من ثلاثة قرون دون انقطاع. ولمن لا يعرف اليمن عن كثب، أشير إلى أن اليمنيين ينتمون بأكثريتهم الساحقة إلى ثلاثة اتحادات قبلية، هي بكيل الأكبر عددا، تليها حاشد، ومن ثم مذحج. 

ولإعطاء صورة تقريبية عن أثر هذه القبائل في العاصمة اليمنية صنعاء، نلاحظ أن القبائل السبع التي تحيط بالعاصمة وتشكل طوقا أمنيا لها، هي بأكثريتها الساحقة بكيلية ما عدا قبيلة سنحان التي ينتمي إليها الرئيس علي عبد الله صالح وبلاد الروس وبني بهلول المجاورة لها، فيما القبائل الأخرى (نهم وأرحب وبني مطر وبني حشيش) تنتمي إلى قبائل بكيل وتتفرد قبيلة همدان من بين قبائل الطوق الصنعاني، بكونها الأصل الأول لحاشد وبكيل معا.

نشأ الشيخ الأحمر في بيئة إسلامية، "... عندما كنا صغارا كنا ننهض لتأدية صلاه الفجر مع النساء والرجال وكل من في المنزل ولا ننام بعد الصلاة، كل يمسك بمصحفه ويقرأ القرآن حتى تأتي ساعة الفطور فنتناول الطعام ويذهب كل منا إلى عمله. كنا نؤدي الصلاة في مسجدنا الخاص. كان الأطفال يقرؤون القرآن ويتسامعون، وكل طفل ينشأ نشأة إسلامية متشبعا من مجتمعه. كان من يقطع الصلاة ومن لا يشاهده الناس مصليا يعتبر منبوذا. في الصباح، يواصل الأطفال تعليمهم في الكتاتيب. أما الصوم، فيبدأ في سن العاشرة وما فوق، ومن هم أقل يصومون نهاري الخميس والجمعة أو يومين في شهر رمضان".

ويضيف: "كانت الأم تشجع ابنها على الصيام ويحض الأب أولاده على تأدية هذه الفريضة. ما كان الطبيب يمنع صيام الطفل كما يحصل الآن. وكان المعتقد الإسلامي الشائع هو: علموا أطفالكم الصيام من سن السابعة واضربوهم ابتداء من العاشرة إن لم يلتزموا الصلاة والصيام. تلك كانت نشأتنا وطفولتنا نحن وغيرنا، بل ربما غيرنا أكثر منا. الشعب اليمني كله نشأ في بيئته الزاخرة بالآداب المسلمة والسلوك المسلم ولا مكان فيه للعلمانية والعلمانيين، لذا لم أصادف علمانيا واحدا في طفولتي لا أنا ولا غيري. 

تبقى الإشارة إلى أن العلمانية انتشرت في العالم العربي والإسلامي مع الحركة الكولونيالية، ومن الطبيعي أن تغيب عن شمال اليمن، فهو الركن العربي الوحيد الذي لم تصل إليه أقدام الاستعمار الغربي، ولم تتمكن الدولة العثمانية من إخضاعه طويلا فهزمت مرتين، الأخيرة كانت عشية الحرب العالمية الأولى.  


التعليقات (0)