كتاب عربي 21

الحوار الوطني يعيد تشكيل مفهوم الجماعة الوطنية

شريف أيمن
1300x600
1300x600
ارتبط مفهوم "الجماعة الوطنية" بأستاذنا الراحل طارق البشري بصورة أساسية، وقد انشغل همّه الأساسي فيما يتصل بالشأن العام بهذه المسألة، ووجدناه مدافعا صلبا عن حقوق المختلفين معه، ووجدناه ناقدا دون مجاملة لمن يقتربون من الفكرة العامة التي يؤمن بها، فكان يحيا لأجل إيجاد وفاق في إطار الجماعة الوطنية، وإيقاف التخندق والتحارب بين أفرادها.

رحل مُنظِّر الجماعة الوطنية منذ عام ونصف، ورغم آثاره الباقية والموجودة بين أيدينا، فإن هناك من يريد تشكيل مفهوم الجماعة الوطنية على أساس الإقصاء والاستبعاد، وللأسف معظمهم من نفس الجماعة الإقصائية التي تشكّلت قبيل انقلاب تموز/ يوليو 2013، سواء من جبهة الإنقاذ أو رئيس المؤسسة العسكرية الذي قام بـ"الاختيار- القرار" لـ"إعادة البلد للوراء 40 عاما"، وهذا وصفه عندما كان وزيرا للدفاع لمصير البلد إذا قرر الجيش النزول إلى الشارع.

صرّح عديم المواهب والإمكانيات هذا بأن الإخوان لن يكونوا طرفا في الحوار الوطني، وهذا مقبول منه إذا نظرنا إلى محدودية قدراته وإمكانياته الإدارية والعقلية، وكذا قال أعضاء من مجلس الأمناء ومدير الجلسات، وهذا مُتَوقَّع منهم باعتبار الانتهازية وارتباط مصالحهم بذلك الشخص، لكن ما كان مفاجئا في الحقيقة هو تكرار أستاذ العلوم السياسية وأحد أبرز باحثي مؤسسة كارنيجي في المنطقة (عمرو حمزاوي) لتلك الفكرة، فقد نسبت عدة جرائد محلية إليه، أنه قال إن "الجماعة الوطنية لن تشمل الإخوان الذين حرضوا على العنف وأراقوا الدماء، ونريد وطنا فيها عدالة تحترم الرأي والرأي الآخر، وتحقق المواطنة والحقوق السياسة وتتجه دائما للتنمية الاجتماعية والسياسية". ولك أن تتخيل أستاذا مرموقا له اعتباره في الأوساط البحثية يقول كلاما كهذا عن نظام نشأ نتيجة انقلاب عسكري ومجازر دموية، ويقوم بقمع مستمر منذ ذلك التاريخ، كان بالمناسبة هو أحد ضحاياه.
هناك من يريد تشكيل مفهوم الجماعة الوطنية على أساس الإقصاء والاستبعاد، وللأسف معظمهم من نفس الجماعة الإقصائية التي تشكّلت قبيل انقلاب تموز/ يوليو 2013، سواء من جبهة الإنقاذ أو رئيس المؤسسة العسكرية الذي قام بـ"الاختيار- القرار" لـ"إعادة البلد للوراء 40 عاما"

منذ تسع سنوات قال عمرو حمزاوي نَصّاً "من الجنون نزع الوطنية عن جماعة الإخوان المسلمين"، فكيف انتقل الباحث المرموق من الرشد إلى الجنون؟ ربما ستكون الإجابة الجاهزة حينها أن الإخوان وقتها لم يتورطوا في العنف، بينما تورطوا فيه بعد ذلك، وبغض النظر عن مدى صواب أو خطأ ذلك، فهل يرى السيد حمزاوي أن النظام الذي يرعى ما يسمى بالحوار الوطني لم يكن منشئا للعنف وإراقة الدماء؟ هل يرى النظام الذي فصله من الجامعة منذ سنوات بسبب معارضته له وقتها، نظاما يقيم العدالة؟ هل يراه نظاما يحترم الرأي والرأي الآخر؟

ما يعنينا من النقاش، هو الحفاظ على المفهوم الذي ارتبط باسم أستاذنا الراحل طارق البشري، فمفهوم "الجماعة الوطنية" لا يمكن استخدامه في تفتيتها، وإقصاء أي طرف منها؛ فهو مفهوم قائم على الضم لا الإبعاد، وجمع الأضداد على مساحات المشترك، والاعتراف بالاختلاف بين الأطراف دون نبذ أحدهم، وعلى تقريب الذي يبتعد عن التيار العام أو الأساسي لتلك الجماعة.

كان الأستاذ البشري مشغولا بالمواطنة بين المصريين دون تفرقة على أساس الدين، وانشغل كذلك بالتقريب بين تيار الإسلام السياسي والعروبيين، وتيار الإسلام السياسي والعلمانيين، فعمل على ثلاثة مستويات في أوساط الإسلاميين الذين وفدت عليهم مفاهيم القومية والعلمانية والمواطنة، ووضع مع غيره مقاربات كيّفت التقارب بين هذه الأطراف دون ذوبان الموروث الفقهي في المفاهيم الوافدة، كما حاول أن ينشئ جسراً تنتقل به الأفكار التي لا تصادم الموروث، وجسرا مقابلا لإذابة سوء الفهم عن الموروث الثقافي والحضاري للأمة.
أن يتحول العائد إلى مجمّل لوجه النظام، وأن يتبنى رؤيته السياسية، ويسوّق لهذا بصورة منمقة، فهذا الأمر يصعب التغاضي عنه. صحيح أن المتنازل عن معارضته معذور ولديه كامل الحق في ذلك، لكن لا حق ولا عذر في تجميل وجه نظام قبيح لا همّ له سوى القمع والتشويه

خرجت كُتب الأستاذ طارق البشري حول هذا المفهوم من كل جوانبه، وكذلك كانت مشاركاته البحثية، ولهذا من غير المقبول أن يقوم مسوخ بتشويه هذا المعنى الهام في أمان المجتمعات، والحفاظ على استقرارها، أيضا ديمومتها. وقد سبق ابتذال معانٍ كثيرة في سياق الاستبداد، مثل الوطنية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فأصبح المعارض خائنا، والديمقراطية وحقوق الإنسان لهما مناظير تختلف باختلاف الحالة المصرية، وأصبح الانقلاب العسكري ضرورة وطنية واستجابة شعبية، وأصبح القتل على الانتماء السياسي مرتبطا بالمصلحة العليا للدولة، وأصبحت الدساتير تصاغ "بحسن نية"، وكل هذه المفاهيم يتم تدويرها وقلبها بحسب المزاج العام للحاكم بأمره.

ابتعد مفهوم الجماعة الوطنية عن الابتذال لأن مروّجي الابتذال السابق لا يقرؤون لأمثال البشري، فلما تم استدعاء أحد المثقفين قام، للأسف، بخيانة ثقافته وفكره بصورة مثيرة للغثيان، وكان يمكن تقبّل غض الطرف عن الانتهاكات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مقابل أن يعود الرجل إلى وطنه وأسرته، فهذه ضريبة يمكن دفعها في الظرف الراهن، لكن أن يتحول العائد إلى مجمّل لوجه النظام، وأن يتبنى رؤيته السياسية، ويسوّق لهذا بصورة منمقة، فهذا الأمر يصعب التغاضي عنه. صحيح أن المتنازل عن معارضته معذور ولديه كامل الحق في ذلك، لكن لا حق ولا عذر في تجميل وجه نظام قبيح لا همّ له سوى القمع والتشويه.

twitter.com/Sharifayman86
التعليقات (0)