كتاب عربي 21

التراث الديني والتخلّف

شريف أيمن
1300x600
1300x600
جَرَتْ العادة منذ عقود على ربط التخلف الحضاري الذي تعاني منه المنطقة أو الأمة بما يُسمّى بـ"الجمود الديني/ الأصالة/ التراث" وما إلى ذلك من مرادفات، وتصبح المتلازمة الكلاميّة المتعلقة بتلك الأوصاف أن "الدولة" لن تتقدم في ظل تبعيتها لمفاهيم ثابتة منذ 1500 عام تقريبا.

ويُلاحظ أن الدولة تُحدَّد كمفهوم عند إرادة انتزاع حيّز جغرافي من محيطه الثقافي، وتُحدَّد المنطقة العربية كمفهوم لدى العروبيين الذين يجعلون الرابطة لغوية أو قومية، بينما يتحدّث عن الأمة أنصارُ الفكرة الدينية التي تجعل رابط الانتماء ديني. والأخيرون تتعدد أفكارهم بدءا من التطرف وانتهاء بالاعتدال، وللتلبيس على هذه الفكرة يُطرَح النموذج الشاذ/ المتطرف، كمعيار لأصحاب هذه الفكرة ككل دون اعتبار للتفاوت الواسع بين مَن ينتمون إلى فكرة الأمة، ودون اعتبار لكون العقلاء هم أكثر أبناء هذه الفكرة.

كان عجيبا أن يقوم أحد بربط التخلف الإداري والعلمي بمسألة النص الديني، أو ما يمكن أن نعتبره "مسألة ثقافية"؛ فالدين في أحد أهم آثاره الاجتماعية، يقوم بتكوين فكري للإنسان والمجتمع، وكذلك الثقافة تقوم بترسيخ أفكار أو إحلال أخرى، وهذا وجه التشابه، وهو محور الحديث، وإلا فهناك فوارق أخرى بين الدين والثقافة.
كان عجيبا أن يقوم أحد بربط التخلف الإداري والعلمي بمسألة النص الديني، أو ما يمكن أن نعتبره "مسألة ثقافية"؛ فالدين في أحد أهم آثاره الاجتماعية، يقوم بتكوين فكري للإنسان والمجتمع، وكذلك الثقافة تقوم بترسيخ أفكار أو إحلال أخرى

القصد أن هناك مسألة ثقافية يتم تحميلها أوزار التخلف الإداري والعلمي لكل أبناء الأقطار المنتمين والمدافعين عن دينهم وامتدادهم الحضاري، وهذا الربط عجيب؛ إذ الدين بطبيعته لا يشتبك بمسائل الإدارة العامة للنظم السياسية، وكذلك العلوم إلا من جهة الإطار العام أو تنظيم الحدود، وهي في الحقيقة حدود نائية ومتسعة يصعب بلوغها، وبالِغها لا يصل إليها بمحض الصدفة بل يعمِد إلى الذهاب إليها ليحاول خرقها، وعند الاصطدام بها ينادي أنه لا يجد لنفسه مكانا في هذا الإطار، ولو أنصف لأدرك أن الإطار شديد الاتساع ووسَطُه يزدان بالسكينة والبهاء، بينما أطرافه مُوحِشَة، تَفِرُّ منها الثُّلَّة ويقصدها القليل.

طوال التاريخ الإسلامي كانت مسائل التحديث الإداري والعلمي تخضع للنقاشات الطبيعية في أي مجتمع، فهناك من يرفضها، وهناك من يقبلها، لكن السائد أن قبول الأشكال الإدارية لم يواجه مقاومة شرسة من المجتمع أو الوسط الديني، هناك ما واجه مقاومة لكنها سُرعان ما انهزمت بسبب مرونة النَّص الديني مع ما يُصلح الواقع الاجتماعي. وكان مفهوم "المصلحة" أحد أهم موروثات الفقه على صعيد تفسير النص الشرعي، أيضا على صعيد السلوك الإداري، وظهرت أقوال خالدة كـ"أينما وُجدت المصلحة فثَمَّ شرع الله"، وفي تعريف السياسة "القيام على الأمر بما يُصلحه"، وما شابه هذه الأقوال، فلم يكن النص الديني حاجزا أمام الاعتبار الإداري أو العلمي.
كان مفهوم "المصلحة" أحد أهم موروثات الفقه على صعيد تفسير النص الشرعي، أيضا على صعيد السلوك الإداري، وظهرت أقوال خالدة كـ"أينما وُجدت المصلحة فثَمَّ شرع الله"، وفي تعريف السياسة "القيام على الأمر بما يُصلحه"، وما شابه هذه الأقوال، فلم يكن النص الديني حاجزا أمام الاعتبار الإداري أو العلمي

يمكن التمثيل على ذلك، بأن عهد النبوة ورَدَ فيه نَصّ "لا تَبِعْ ما ليس عندك"، فهناك نهي عن أن يبيع شخص لآخر شيئا لا يملكه، ونَظَراً لحاجة القوم إلى تيسير بيعهم وشرائهم، وَرَدَ نص آخر "مَن أسْلَفَ فلْيُسْلِف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجلٍ معلوم". فالشارع لم يقِف أمام حاجة التجار والمزارعين في تيسير أمورهم المالية لأجل دوام الإنتاج وتيسير المعايش على المجتمع، وغاية ما فعله أن وضع ضوابط تحمي من الغش وأكل الحقوق، وهذه ضوابط إدارية بخلاف العقوبة الأخروية لآكل الحقوق.

وكذلك نجد نصّاً بأن "البَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما". فالشارع ترك للناس أن يتفقوا بالصورة التي يرتضونها، ثم لم يترك التحذير لمن تخدعه نفسُه وتطلب المال الحرام، فنبّه مَن استطاع أخذ المال بغير حق في الدنيا، فإن الآخرة دار استرداد الحقوق.

وهناك الحديث المشهور عن "تأبير النخل"، الذي قال فيه الشارِع "إن كانَ شيئاً من أمرِ دُنْياكم فشأنُكُم بهِ، وإن كانَ من أمرِ دينِكُم فإليَّ". وهذا حديث صريح في ترك المشرِّع حرية ضبط مسائلهم المعيشية، فضلا عن أن الحديث كان في مسألة علمية تتعلق بالزراعة، فهو نص عام لكل تنظيمات الشؤون الحياتية، وورد في مسألة خاصة تتعلق بشأن علمي.

هذه النصوص وغيرها مما يصعب إحصاؤها تثير العجب من قضية ربط التراث الديني بمسألة التخلف الحضاري الذي يشمل الاقتصاد والسياسة والاجتماع والرياضة وسائر شؤون الحياة؛ فالمشرِّع رفع القيد، فمَن يقدر على وضعه؟ خاصة أننا في أمّة لا احتكار فيها لتفسير النصّ الديني، ولا قراءته على الناس، فمن أراد القراءة لا يفعل سوى أن يخرج مصحفه أو هاتفه من جيبه وسوف يجد كلام ربه وسُنّة نبيه بين يديه، ومن أراد أن يكون شارحا للنص، فما عليه سوى أن يدرس أُسس فهم النص، ولْيقُل ما يشاء طالما أن لكلامه وجاهة علمية. وهذا ليس بقيد على فهم النص، بل هو قيد طبيعي في كل العلوم، فإذا خرج عالم فيزياء كبير ونفى وجود رد فعل للقوة، سيكون كلامه مردودا عليه باعتبار أنه لا سند علميا لكلامه، وكذلك النص الديني يحتاج تفسيره إلى استناد علمي لا غير.
حقيقة التخلّف ليست في النص الديني، بل في الاستبداد الذي قَمَع كل أوجه الحضارة، وهذا القمع يتهرّب من ذِكره المستفيدون منه، أو الخائفون على تغيير نمط اجتماعي أو ثقافي اعتادوا عليه. والإنصاف في مسألة النقاشات الدينية عزيز؛ فلا يكاد يجري نقاش لأجل الحقيقة أو المعرفة

حقيقة التخلّف ليست في النص الديني، بل في الاستبداد الذي قَمَع كل أوجه الحضارة، وهذا القمع يتهرّب من ذِكره المستفيدون منه، أو الخائفون على تغيير نمط اجتماعي أو ثقافي اعتادوا عليه. والإنصاف في مسألة النقاشات الدينية عزيز؛ فلا يكاد يجري نقاش لأجل الحقيقة أو المعرفة، وهذه النُّدْرة أفضت إلى ذيوع التجهيل والتعصّب، كما شاركت بقدر ما في كبت أصوات العقلاء بتسليط الضوء على أفعال الغوغاء لتأكيد صوابية الفكرة المخالفة، فلم تعد الحقيقة مقصدا، بل القصد الانتصار للفكرة.

مع كل طرح لقضية التراث وعلاقته بالجمود، يتجدد الشعور بالأسى على تعمّد التزييف والتجهيل الذي صار سائدا، وتتعمّق المرارة من أوصاف غير دقيقة على "مفكرين، وباحثين، ومجددين، ومصلحين"، لا يملكون عقل المفكر، ولا نزاهة الباحث، ولا روح المجدد، ولا صفاء المُصلِح، وينمو كل ذلك تحت شجرة خبيثة اسمها الاستبداد، وتُسقى بماء فاسد ينبع من أرض تريد اجتثاث الجذر الثقافي الذي يمثّل عاملا من عوامل قوة أي مجتمع. ولو شئت مقارنة بسيطة وكاشفة، فامْسَس لغة أي دولة بسوء أو حارب لغتها في محيطها لا أرضها، وانظر إلى حجم الأكاذيب التي ستنكشف.

twitter.com/Sharifayman86
التعليقات (3)
ابو عمر
الثلاثاء، 31-05-2022 04:37 م
ما شاء الله مقال كاشف للحقيقة وينفي الخبث الذي تلقيه عقول ضعيفة المبنى والمعنى فلا ادل على دول كانت تنتمي لملل منحرفة عن الجادة واصبحت الآن دولا عظمى اما هؤلاء فمثلهم كمثل المجرم الذي يبحث عمن يحمل عنه أوزاره .
الكاتب المقدام
الثلاثاء، 31-05-2022 03:06 م
*** النقد المغرض لتاريخ المسلمين وتراثهم ليس بالأمر الجديد، بل امتد إلى التشكيك في أصوله وسنة نبيه، بل وفي التشكيك في نصوص آيات الكتاب ذاته، فعندما أنشئت الجامعة المصرية، استقدم للتدريس في أقسام التاريخ وآداب اللغة العربية بها، مجموعة من المستشرقين ممن اشتهر عنهم الطعن في الإسلام وإثارة الشبهات حوله، وعندما وجدوا أن تأثيرهم محدود، استقدموا من اختاروه على عينهم، وهو طه حسين الشيخ الأزهري، فابتعثوه على حساب الدولة المصرية ليقضي ثماني سنوات في السوربون في باريس، ليعود لنا برسالة عن أبي العلاء المعري، وهو ممتلئ غضباُ على إنهاء بعثته، ليخرج علينا بعدها في 1926 بكتابه الأول "في الشعر الجاهلي"، والذي امتلأ بنصوص صريحة تشكك في كتاب الله ذاته وانتحاله، نسجه على منوال أساتذته المستشرقين في عرض شبهاتهم، وقد رد عليه علماء عصره بكتب ترد على ما أثاره من شبهات، وقد سحب الكتاب حتى لا يكون فاضحاُ لكاتبه، ثم يعيد طه حسين نشر ما جاء فيه من أفكار بطريقة أكثر مكراُ، بعد أن أزال منه أربعة فصول والعبارات الفاضحة لهجومه على القرآن، وأعاد نشره تحت اسم جديد "في الأدب الجاهلي"، ثم اعاد الترويج لأفكاره الغريبة المتطرفة، بالدعوة في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" في 1936، بأن يدرس للتلاميذ المصريين في المدارس اللغة اللاتينية واليونانية القديمة!!.. هكذا، وذلك طريق التقدم الذي ينشده، ثم يعين طه حسين وزيراُ للمعارف لتتاح له فرصة التطبيق العملي لأفكاره المتطرفة في علمنة التعليم وتغريبه، ولاغرابة في أن يكون ابن من لقب بعميد الأدب العربي مؤنس، الذي تربى في بيت أبيه في مصر جاهلاُ باللغة العربية، فالكتاب الوحيد الذي ألفه مؤنس باللغة الفرنسية، وعندما سأل عن ذلك اعتذر بعدم إجادته للغة العربية، وللطعن في الإسلام وكتابه تاريخ طويل، ليس آخرها ما قالته نوال السعداوي في حديث منشور لها على الإنترنت قبل وفاتها، انها درست كتب الأديان السماوية لسنوات طويلة، فلم تجد فيها إلا التناقض الذكوري، فلما استرجعتها المذيعة بقولها تقصدين فهم النصوص، قالت بصراحة، لا بل النصوص ذاتها، كما أن سيد القمني الذي كان يكتب في مجلات وزارة الثقافة التي كان يرأسها لسنوات طويلة فاروق حسني، والذي كان يلقب براجل الست سوزان مبارك، لكونها هي التي اختارته، وفاروق هذا هو الذي قال أن رسالته أن يغير إيماننا بالغيب ليوجهنا إلى العلم الحديث!!.. هكذا، وكان سيد القمني هذا الذي كرمته الدولة بنيل أرفع أوسمتها، يقدم باعتباره مفكراً إسلامياُ، وقد اعترف بلسانه قبل وفاته في حديث منشور له، بأنه كافر ولكنه كان يساير المسلمين بادعاء الإسلام حتى يستمعوا إليه، والغريب أن هؤلاء قد فتح لهم أبواب الإعلام واسعة بعد انقلاب العسكر، وبعد أن أطمأنوا لما كلغهم به سيدهم، اصبحوا أكثر صراحة ووضوحاُ في اعلان كفرهم علناُ، وارتفعت اصواتهم في الطعن والتشكيك في الإسلام ذاته، ولا يستغرب ذلك في وقت وجد سيدهم الجرأة ليعلن اتهامه للمسلمين جميعاُ بالإرهاب وبأنهم يريدون قتل الناس جميعاُ!!.. هكذا، وليروج لنفسه في الغرب باعتباره حاميهم من الإرهاب الإسلامي، والله أعلم.
مسلم عربي
الثلاثاء، 31-05-2022 12:20 م
ما خير (بضم الخاء) رسول الله بين أمرين إلا اختار ' أيسرهما ' ما لم يكن إثما... تصديقا لبعض ما ورد... و إيضا التطرف للباطل سواء من مسلمين أو غيرهم ، يقابله من يتمسك بالحق أو ما يسمى "بالتطرف".. و أفضل تسميته بالتشدد للحق أو التمسك بالحق أو بأقوام لا تأخذهم في الله لومة لائم ، ضمن التشريع المباح دون الخروج عنه طبعا.. و الدخول بالإعتداء على حقوق الآخرين.. كما قال تبارك و تعالى: ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين.. (من أواخر سورة النحل) اللهم اجعلنا من المهتدين..‏ السلام عليكم و رحمة الله..‏ قل لا أملك لنفسي نفعا و لا ضرا ' إلا ماشآء الله ' و كو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسني السوء ' إن أنا إلا نذير و بشير لقوم يؤمنون. (الأعراف 188)‏

خبر عاجل