قضايا وآراء

أسئلة محورية حول ملف المعتقلين السياسيين في مصر (1)

أحمد مفرح
1300x600
1300x600

على النقيض من النظام المصري الحالي، كان الرئيس المخلوع حسني مبارك يهتم بالتظاهرات المناوئة له في الخارج، ويرسل من يتباحث مع القوى السياسية المنظمة لها، ولا يتحرك من القاهرة إلا وقد مهد الأجواء لتتم زيارته في هدوء يتناسب والوقار الذي كان يحاول أن يضفيه على شخصيته؛ وإن افتقده.

بعيداً عن تكتيكات الدول، تعتمد تكتيكات العصابات -وهو المصطلح الذي وصم به الناشطُ المصري الفلسطيني رامي شعث النظامَ في مصر في حواره مع بي بي سي- على جمع المعلومات عن المناوئين الناشطين، واعتقال وتهديد أسرهم، وتنظيم تظاهرات مصطنعة مقابلة للتأييد، حشد بحشد، وليذهب الوقار إلى الجحيم.

منظمات حقوق الإنسان الدولية استبقت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخيرة للعاصمة البلجيكية بروكسل، وطالبت قادة الاتحاد الأوروبي بالضغط عليه لمعالجة أزمة حقوق الإنسان في مصر، ووضع حد للاعتداء المستمر على المدافعين عن حقوق الإنسان.

الرحلات المكوكية للرئيس وتطوافه البروباجندي بأنحاء الدنيا، يهدف إلى التقاط صورة، وصياغة بيانات ورسائل ضمنية مفادها أنه مرحب به، رغم مزاعم انتهاكه لحقوق الإنسان، لذلك سيبقى

واعتبرت أن التقاعس عن القيام بذلك من شأنه "أن يبعث برسالة وخيمة مفادها أن الاتحاد الأوروبي يثمن تعميق العلاقات مع السلطات على حساب الحقوق الإنسانية للشعب في مصر"، وهي أصل القصة، فالرحلات المكوكية للرئيس وتطوافه البروباجندي بأنحاء الدنيا، يهدف إلى التقاط صورة، وصياغة بيانات ورسائل ضمنية مفادها أنه مرحب به، رغم مزاعم انتهاكه لحقوق الإنسان، لذلك سيبقى.

لم يخيب الرئيس الظن وظهر في صور كاريكاتورية ساخرة وهو يتحرك بابتسامة حُرقت تكراراً، وهو يضع راحتي يديه تحت ذقنه، لاصطناع المثالية والود، بين حشد يعرف أن دخان ديكتاتوريته وأنين جرائمه طافت الأرض ووصلت عنان السماء، لكن لا مشكلة فهدفه هو الصورة وقد تم التقاطها بنجاح، بينما تظل مشاركة الطرف الآخر -يصفه بالديكتاتور الأسوأ عبر العصور- في هذه الجريمة، تكريسا لمبدأ السياسة بلا أخلاق، التي تنتهجها بعض الدول الأوروبية.

"الغرب" من المؤكد أنه يقدم مصالحه على الانتهاكات، ينظر إلى قطرات المياه القليلة والشحيحة في قعر الكوب، ويغزل منها إيماءة إيجابية ضبابية بلا كلمات، فما يحدث في مصر من انتهاكات حري به أن يفضح المزاعم ويُعلي الوقائع، وتتلاشى معه القدرة على الصياغات. لذلك كان احتجاج البرلمان البلجيكي، والذي عبر عنه النائب سيمون موتكين، يعبر عن عين الحقيقة: "هذه الدعوة غير مفهومة.. هناك الآلاف من النشطاء المسجونين بشكل تعسفي مع تجديد الاعتقالات الوقائية.. الدعوة الملكية تبدو بعيدة كل البعد عن القيم التي ينادي بها القصر"..

ما حدث في بلجيكا تكرر لكن بشكل رسمي، مع وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، التي أكدت في مؤتمر صحفي عُقد في القاهرة يوم 12 شباط/ فبراير 2020، أن بلادها ستربط صادرات الأسلحة الألمانية للبلدان بحقوق الإنسان، وهو ما رفضه وزير الخارجية سامح شكري، وكأن التشريع موجه إلى بلاده بالأساس!!! وربط بين تسليح مصر وحماية مصالح أوروبا، ومنع الهجرة!!
هل هناك ما يدعو النظام المصري لإحداث انفراجة -أيا كان قدرها- في ملف الاعتقال السياسي، بعد ما يقارب العقد على بدء أسوأ موجة انتهاكات تشهدها البلاد في تاريخها الحديث؟ وإلى أي مدى يستطيع النظام الاستمرار في نفس المسار متجاوزاً أية استحقاقات حقوقية؟

بين الرؤيتين السالفتين، يبقى التساؤل: هل هناك ما يدعو النظام المصري لإحداث انفراجة -أيا كان قدرها- في ملف الاعتقال السياسي، بعد ما يقارب العقد على بدء أسوأ موجة انتهاكات تشهدها البلاد في تاريخها الحديث؟ وإلى أي مدى يستطيع النظام الاستمرار في نفس المسار متجاوزاً أية استحقاقات حقوقية؟

يمكن الجزم بأن النظام يحتاج إلى عصا غليظة للجم اندفاعه وتهوره، وهذه لن تخرج عن الضغط الغربي بحال، وإلا لن يتجاوب، وسيكون العائد من وراء انتظار حلحلته هذا الملف صفرا دمويا كبيرا، فالسنوات تمر والضحايا يتساقطون، والكراهية تتم صناعتها والصبر عليها في بلد مثقل بالأزمات، والانفجار سيكون مدوياً..

إذ يعتقد النظام الذي جاء بانقلاب عسكري على إثر ثورة حاولت قطع سلسلة حكم العسكر، لكنها لم تستمر طويلاً، أن فرص بقائه ترتبط بسد المنافذ وغلق المساحات في الفضاء العام، التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك، لذا يعتمد على القمع الوقائي وتسويق الخوف لمنع اندلاع ثورة جديدة..

خطورة فلسفة النظام في مسيرته القمعية المستمرة، تكمن في اعتماده على الجيش كظهير صلب مماثل للحزب الوطني وجماعات المصالح في عهد مبارك وجماعة الإخوان المسلمين في عهد مرسي، فإذ تفكك هؤلاء في لحظة ما في 2011، وفي 2013، فالجيش من الصعب أن يسقط أو يتنازل أو يتفكك.
بين الظهير الداخلي الصلب وتشريعاته وقوانينه التي يدعمها ويمررها البرلمان المصطنع، والدعم الخارجي القائم على مزاعم محاربة الإرهاب وتجفيف المنابع ومنع الهجرة غير الشرعية، وشراء الأسلحة المبالغ فيه، لا يولي النظام اهتماماً بالجماهير أو الداخل

وبين الظهير الداخلي الصلب وتشريعاته وقوانينه التي يدعمها ويمررها البرلمان المصطنع، والدعم الخارجي القائم على مزاعم محاربة الإرهاب وتجفيف المنابع ومنع الهجرة غير الشرعية، وشراء الأسلحة المبالغ فيه، لا يولي النظام اهتماماً بالجماهير أو الداخل، فيما الأحزاب والقوى السياسية تم تجفيفها تماماً، وأُكل الثور الأسود بعد الأبيض، ومن لم يستطع النظام ترويضه في معادلة الصمت أو السجن، جرى اعتقاله.

وظهر ذلك جلياً في الصمت السياسي والجماهيري، والرئيس يكسر كل قواعد البروتوكول السياسي منذ تأسيس الدولة المصرية، ويحتفي بطريقة لافتة بوزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين الحرار، في معرض مصر الدولي للبترول (إيجبس 2022)، ثم اللقاء الثلاثي المفاجئ مع كل من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، في منتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر جنوب سيناء، في 22 آذار/ مارس الجاري، والذي ظلت مباحثاته مجهولة إلا ما تم تسريبه من الصحافة الإسرائيلية، عن تصدير تحالف ضد إيران، لرفض اتفاق مرتقب لإحياء الاتفاق النووي! ومن بعده إطلاق العنان لصندوق أبو ظبي السيادي ليلتهم بقايا الاقتصاد المصري، في صفقتين من العيار الثقيل، مقابل أربعة مليارات دولار.

من جهة أخرى تصدير صورة الرئيس الذي يعمل لمصلحة إسرائيل إلى الخارج، لتخفيف الضغط الرسمي عليه، أمام الداخل الذي يعيش حالة القمع -ولا يقتنع في معظمه بقسم الرئيس أنه ودود، وليس رئيساً وأنه يعيش عيشة الكفاف ويأكل مثل البسطاء- هي المعادلة التي نجح السيسي بامتياز في صياغتها، بعيداً عن مدى قدرته على الاستمرار فيها طويلاً.

اعتقد البعض أن "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان 2021-2026″، التي أطلقها النظام، في 11 أيلول/ سبتمبر الماضي، ومجموعة الحوار الوطني المصطنعة التي تم صبها بكاملها في تشكيلة المجلس القومي الجديد لحقوق الإنسان، ربما تكون بداية لمرحلة جديدة من إعادة التفكير في القمع، وتفكيك السجون وتحريك ملفات المعتقلين، بعد عشرية سوداء من الانتهاكات، مزقت غالباً قدرات هؤلاء وأنهكت أيديولوجيتهم.. لكن ظهر أنها صياغات ورقية، لا تختلف عن الصور الدعائية الفجة، والابتسامات البلهاء، وطريق الكباش الطويل، الذي ظهر في صور حديثة خالياً من كباشه!!

مسارات الضغوط الخارجية والداخلية

مع نجاح النظام في المناورة وشراء المواقف والذمم ومجموعات المصالح وتبيض الجرائم وإغلاق كل المنافذ؛ يمكن إعادة التأكيد على عدد من المسارات الخاصة بالضغوط الخارجية:


1- شركاء النظام الغربيون الذين قد يضطرون تحت الضغط الشعبي والمجتمع المدني في العمل لإثارة ملف حقوق الإنسان وملف المعتقلين السياسيين على مائدة الحوار مع النظام المصري، خاصة بعد التكلفة الباهظة التي دفعها الغرب نتيجة التهور الديكتاتوري، والعدوان على أوكرانيا (نجحت في حالة رامي شعث).

2- آليات حماية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.

3- ضغوط المجالس النيابية الغربية والكونجرس الأمريكي والبرلمانات الأوروبية.

4- ملف المتابعة الجنائية لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، والذي لم يُفّعل بشكل إيجابي حتى الآن إلا في حالات معدودة.

الأمر الآخر الذي من الممكن أن يدعو النظام إلى إحداث انفراجة في ملفات حقوق الإنسان ومنها ملف المعتقلين السياسيين، هو انفجار الأوضاع الاقتصادية، خاصة مع التعويم الجزئي للجنيه وارتفاع الأسعار وعدم وجود مظلة حمائية لعشرات الملايين من المصريين، الذين سيدخلون تحت مستوى الفقر، بسبب فشل سياسات النظام، أو ضغوط العقلاء -على قلتهم- داخل النظام نفسه وصراع الأجهزة السيادية، من أجل عبور الأزمات والحفاظ على النظام من تهديدات السقوط مجدداً.

لا يملك النظام الحالي أفكاراً تقدمية ولا مشروعات نهضوية تعود على المجتمع بالنفع، لكنه يملك نهجاً قمعياً موروثاً لعقود، وعصا غليظة يكمم بها الأفواه، ودعم إقليمي من شيوخ النفط

في السجون ساد اعتقاد منذ خمس سنوات، أن كل سجين مرهون بفترة سيقضيها ويخرج، ويبقى الرموز والقيادات حتى الموت، وتنتهي القصة المأساوية.. لاحقاً بدأت دائرة الاعتقالات تتسع، وأمل الانفراجات يموت، ومن خرج سقط في مستنقع المتابعات، وبات رهن رحمة النظام وتحت أقدامه.

لا يملك النظام الحالي أفكاراً تقدمية ولا مشروعات نهضوية تعود على المجتمع بالنفع، لكنه يملك نهجاً قمعياً موروثاً لعقود، وعصا غليظة يكمم بها الأفواه، ودعم إقليمي من شيوخ النفط، ورؤية عميقة لولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، فاضت عن محدودية وحجم بلاده، فتلقاها عسكر مصر واحتضنوها وطبقوها وعاشوا ملوكاً من عوائدها وريعها، فيما تراجع المجتمع للخلف عشرات السنين..

المعضلة أن القمعيين لن يتراجعوا عما يعتقدون أنها مكتسباتهم ولو قتل 60 ألف معتقل بأسرهم وعوائلهم، وأضعاف هذا العدد.

بذل الجهد في المسارات السابقة والعمل على إيجاد حلول ومسارات مبتكرة، قد يخفف وطأة الضغط، وقد يعطي الأمل في إيجاد حل.


التعليقات (0)