كتاب عربي 21

حقوق للبيع.. المواطنة من جديد (86)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
يتسم خطاب المستبد بالاستخفاف بالإنسان وإغفال الحقوق، بينما يحاول أن يثبت حقه في ما يصدره من قرارات أو يتخذه من سياسات وبما ينتجه من خطابات وأنه لا يقوم إلا بكل ما هو رشد أو صلاح. وغايته في ذلك أنه حينما يبرر تلك السياسات الطاغية، ويواجه تلك الاتهامات بانتهاك حقوق الإنسان، فإنه لا يملك إلا تخريجات خطابية تعبر في حقيقة الأمر عن كلام أقرب ما يكون إلى الهذيان منه إلى ضرورة مراعاة الحقوق المعتبرة في حق الإنسان وحماية الكيان وممارسة كل ما يتعلق بحريته في حقوقه الأساسية، وكذلك حقوقه المدنية والسياسية.

ومن هنا تبدو لنا تلك القصة المتعلقة بالحقوق في عدم اعترافه منذ البداية بأن تلك الحقوق ترتبط بالإنسان ولصيقة بالمواطن، وأنها لا يمكن بأي حال من الأحوال المساومة عليها، أو أن تكون محلا لهذه السخرية التي تتعلق بخطاب المستبد مستهيناً بالإنسان والمواطن على حد سواء، مستهينا بكل ما يتعلق بتأمين حقوقه والاعتراف بضرورته الحياتية؛ بما توفره له من حياة كريمة تتسم بالعزة والكرامة، والإرادة والحرية والاختيار.

ولعل هذا يرتبط في الأذهان بموضوعات أخرى تجيب عن سؤال: كيف يتصور هؤلاء (من يظنون أنفسهم أنهم يتحكمون في مصائر البلاد والعباد ضمن مفهوم العصابة أو استحلال مقدرات البلاد والعدوان على حقوق العباد) الأمر فيصورونه وكأنه يتعلق بعدم أهلية هذه الشعوب لأن تنال تلك الحقوق، أو حتى أشباه الحقوق؛ ويعتبرون ذلك من الأمور التي تدخل ضمن عمليات بيع وشراء وضمن مساومات وصفقات على تلك الحقوق؟

كنت قد كتبت منذ زمن عن مقام الإنسان في بورصة الحقوق في سياقات تتعلق بسؤال مركزي: كيف يُنظر إلى الإنسان والمواطن في بلده وكيف تثمن حياته، وكيف يقدر كيانه؟

من المؤسف حقا أن نرى تلك التعويضات مقابل الموت أو الإصابة التي يقوم النظام الاستبدادي بالمَنِ بها على عموم الناس؛ حتى حينما يموت أحدهم فيلقى حتفه من جراء الإهمال والفساد في أنظمتهم العفنة، فيفتح هؤلاء مناقصات تتعلق بما يسمى التعويضات، فيقدرون روح الإنسان وفقدانها بدراهم معدودات وجنيهات لا تقدم ولا تؤخر تعد بالمئات، بينما لو أن ذلك الخطأ قد ارتكب في حق جنسيات أخرى - كما نرى لاحقا - وحتى يفلت المستبد ونظامه من العقاب، فلا بأس أن يدخل الأمر في مزايدات حيال تلك الأنظمة الأجنبية، فيدفع برضا خاطر بمئات الأضعاف وبملايين الجنيهات.

أتذكر في هذا المقام حوادث عدة كنت قد أشرت إليها على عهد المخلوع مبارك؛ منها تلك الحادثة الشهيرة بالقتل إهمالا لأكثر من ألف في العبّارة المصرية التي سميت زورا بعبارة "السلام". وقد كان المخلوع يشاهد المباراة النهائية في استاد القاهرة للبطولة الأفريقية، وبات المستبد يحتفل بحصوله على الكأس غير عابئ بتلك الأنباء التي تتوارد عن إزهاق أرواح ما يربو عن الألف إنسان مصري. وقد سبقتها من قبل العبّارة "سالم أكسبريس" التي غرقت في عرض البحر أيضا، وكذلك الحادثة المروعة التي تتعلق بقطار الصعيد، والتي ما يزال عدد ضحاياها مجهولا حتى الآن، والتي أعقبتها مناقصات التعويضات، فلم يحصل من احترق فيها إلا على مئات الجنيهات لذويهم وأهليهم.

وباتت الأمور وكأن الحياة تسير على نحو عادي رغم إزهاق هذه الأرواح، فالمستبد لا يكترث بكل تلك الحوادث إلا أن تنال من صورته ومن دعاية تمجده، ومن ثم يغطي بأحداث على أحداث، وتختلط احتفالاته بإراقة مزيد من الدماء، أو بتفحم مزيد من الجثث أو استقرارها في قاع البحر، فكل ذلك لا يعنيه.

تذكرت كل ذلك حينما وقع مؤخرا حادث غرق سيارة خلال عملية عبورها نهر النيل عبر معدية (وسيلة نقل للسيارات والمواطنين عبر دفتي نهر النيل في مصر) في إحدى قرى محافظة المنوفية (شمال القاهرة). وقد تسبب الحادث في مقتل ما يقرب من ثمانية مواطنين ما بين أطفال وبالغين؛ حينما سقطت السيارة التي كانت تقلهم إلى جانب 16 آخرين في نهر النيل. جميع هؤلاء الأطفال خرجوا إلى العمل سدا لحاجاتهم من الفاقة والفقر. وقد تتابعت جهود الإنقاذ التي كان للأهالي اليد العليا فيها والتي استمرت ثمانية أيام متواصلة، حتى تم العثور على آخر الضحايا، وهي طفلة لم تتجاوز 14 عاما سبح جسدها ما يزيد عن 10 كيلومترات عن موقع الحادث، الأمر الذي يؤكد غياب الجهود الرسمية الحقيقية التي انشغلت تفاخرا بتقديم تعويضات للأهالي. وقد عمدوا إلى حيلة دنيئة تتمثل في تجزئة التعويضات للإيحاء بأنها تعويضات ضخمة، وفي مجملها لم تتجاوز 180 ألف جنيه، وهي لا تقارن بما سبق وأن دفعته الحكومة المصرية لضحايا أجانب في مصر، سواء في الطائرة الروسية أو السياح من دولة المكسيك، والتي تجاوزت تعويضات الواحد منهم ما يزيد عن المليونين والنصف من الجنيهات المصرية.

وهذا في ذات الوقت الذي كان يمارس فيه المستبد كل طقوسه الاحتفالية في مؤتمر للشباب؛ فتنفرج أساريره ويبدي انبهاره وإعجابه بفقرة الساحر. هذه المشاعر المتناقضة إنما تعبر في حقيقة الأمر عن وزن الإنسان الحقيقي والمواطن في بورصة الاستبداد اللعينة ضمن مناقصات لا يساوي فيها هذا الإنسان أي اعتبار أو ثمن؛ بينما تصرف مئات الملايين على تلك الاحتفالات المهرجانية والإنجازات الوهمية.

ضمن هذا التصور وهذا المناخ يمكن أن تُفهم سياقات ذلك الخطاب الذي كانت محلا للانتقاد والسخرية حول فكرة الحقوق وبيعها، والإنسان وقدره. الأمر بالنسبة للمستبد يستدل به من عبارة له تشكل جوهر تفكيره؛ أن كل شيء يباع ويشترى، وببساطة شديدة "أنا لو ينفع اتباع لاتباع"، وبعد تلك المقولة نراه يبيع الأرض ويفرط في المقدرات وموارد الحياة للإنسان في مصر، لا يهمه في ذلك إلا أن يقايض كل شيء بأموال زهيدة لا وزن لها مع قيمة المواطن والأوطان، فكل شيء في عرف المستبد قابل للبيع والشراء، حتى الحقوق.

ففي تخريجة قميئة للمستبد يقول إنه على استعداد لأن يجري الانتخابات كما تريدون، ولو أردتم كل عام فإنه سيفعل، ولكن على هؤلاء المطالبين أن يدفعوا له في المقابل خمسين مليارا، ولو أردتم السماح بالتظاهرات فلا مانع، إلا أن عليكم أن تدفعوا، وكأن الحقوق تباع وتشترى من أول حقوق التأسيس التي تتعلق بالإنسان مرورا بحقوقه المدنية وانتهاء بحقوقه السياسية.. كل شيء يا سادة "قابل للبيع"، شعار هذه المنظومة "حقوقكم اللصيقة بكم للبيع".

من ملاحظاتنا العابرة من خلال تلك السلسلة التي تتابعت مقالاتها بشأن المواطنة من جديد حتى فاقت الـ80 مقالا، أن ما كنا نعتبره على سبيل الاستثناء أو لقطات في فترة مبارك المخلوع؛ مشاهد ربما تمثل حالة من حالات الاستثناء الكاشف تميط اللثام عن أسلوب تفكير النظام وعن قبح سياساته، وعن الحالة الاستبدادية التي يفرضها. صار كل ذلك حياة يومية بكل وقائعها كطقس معتاد في عهد الاستبداد الحالي، وصارت تلك المشاهد متنا لحياة الإنسان والمواطن في مصر، وبات المستبد يطلق ترهاته تلك ليل نهار من دون أي حساب أو مساءلة، إلا من بعض هؤلاء الذين يحيطون به يستحسنون هذا الكلام نفاقاً.

ولا يزال المستبد يواصل سياساته التي تضع البلاد والعباد رهناً لديونه التي تزايدت وتصاعدت، وكذلك إنجازاته التي يفخر بتحقيق أرقامه القياسية فيها، والتي لا تعود على المواطن المصري بأي عائد حقيقي، بما يؤكد أن تلك المنظومة الاستبدادية صارت تنظر إلى الحقوق تلك باعتبارها "حقوقا للبيع".

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)