مقالات مختارة

تونس: ثورة تطل برأسين

منصف الوهايبي
1300x600
1300x600

أعود في هذا المقال، بعد أن جد ما جد من إقرار رئيس الجمهورية يوم 17 كانون الأول (ديسمبر) عيدا للثورة التونسية؛ إلى بعض ما كتبته في مقال قديم، فقد كنت دون أي ادعاء أول من استعمل هذه التسمية «ثورة الياسمين» قبل سبعة أشهر من حدوث ما حدث، وذلك في «التخربيشة» التي دأبت على كتابتها أسبوعيا في الصحيفة التونسية المعارضة «الطريق الجديد».

 

وهذا لا يعني طبعا أنني تنبأت أو توقعت هذه الثورة، وإنما كان الأمر على سبيل الشيء بالشيء يذكر؛ فقد استحضرت ثورة القرنفل في البرتغال، والقرنفل هو الذي استدعى الياسمين؛ وكان يمكن أن يستدعي الفل.


قلت في هذا النص القصير المنشور في 12 حزيران (يونيو) 2010  أي قبل استشهاد البوعزيزي بستة أشهر: «عام 1935 كتب شاعر البرتغال الشهير فرناندو بيسوا، معرضا بسلازار الذي أرسى في البرتغال دكتاتورية امتدت من 1934 إلى 1974: هو لا يشرب الخمر ولا يشرب القهوة، لكنه يشرب الحقيقة والحرية بنهم عرضهما للنفاد في السوق. قد لا يكون ثمة أبلغ من هذه الصورة في وصف حال العالم العربي الذي آن لـ«أساطيل الحرية» أن تفك الحصار الذي تضربه الأنظمة على شعوبه، عسى أن تعجل بثورة ياسمينية إن لم تكن قرنفلية». هذا بعض ما كتبت في نقد الاستبداد في تونس، وكنت أصرح كلما وجدت سبيلا إلى ذلك، وأواري وأرمز كلّما استعصى الأمر أو تعذر.


إذن ما قام به رئيس الجمهورية، هو نوع من «تعديل الساعة»؛ أي تذكير التونسيين بالحدث/ الزلزال الذي كان عفويا، قبل أن تتسلق عليه أحزاب اليمين واليسار على حد سواء، على قلق هذه «القسمة» في عالم اليوم؛ حيث تتقوض الحدود والفواصل بين الطرفين، أو هي في سبيلها إلى التلاشي. وكان كثير قبل «رحيل» الرئيس بن علي أو «ترحيله»، يتخفّون ويتحاشون المشاركة في الاحتجاجات والمظاهرات التي كان يخوضها الوطنيون والنقابيون الأحرار نساء ورجالا. بل إن منهم من صرح بأن الشاب محمد بوعزيزي الذي أحرق نفسه، بسبب الفاقة والحاجة واليأس «منتحر»، و«أن ما قام به محرم دينيا». كثيرون كانوا خرسا بكما، ثم اكتشفوا بعد أن تأكدوا من أن بن علي لن يعود، أن لهم حناجر وحبالا صوتية؛ فأخذوا يدربونها، وقد وهبهم الحدث، فرصة أن يتكلموا باسم «الديمقراطية» التونسية الناشئة، وأن يفسدوها بألاعيبهم السياسية وتحالفهم مع الفاسدين.


لقد رفعت «ثورة17 ديسمبر «شعارا لها بيت الشابي الشهير: «إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلابدّ أن يستجيب القدر». وكنت كتبت في قصيدتي «تمرين على كتابة يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010» عن أيقونة محمد البوعزيزي؛ ونظرت إلى هذا الشاب، الذي انتحر في السادسة والعشرين أو دونها بقليل، وقد بدأ يتحوّل إلى «أيقونة» في تاريخ تونس المعاصر، مثله مثل الشابي. وهو ضحيّة من بين ضحايا كثر، كان يعاني من الأمية؛ إذ لم يكمل تعليمه بسبب العوز والفاقة، فانقطع عن المدرسة وهو في المرحلة الثانويّة الأولى. ولكنّ قصيدتي عن البوعزيزي لم تذع كما ذاعت قصيدتي»تمرين على كتابة يوم الجمعة 14 جانفي/ يناير 2011» وقد نشرتها في جريدة «القدس العربي» ومواقع شتى؛ وترجمت إلى لغات عدّة. وأشاد بها كثيرون مثل برنار بيفو في «جورنال دو ديمانش»؛ وبفضلها حصل كتابي الصادر عن دار برونو دوساي في باريس على جائزة لجنة التحكيم في مسابقة «نيكوس غيتسوس».


على أنّ هذه الثورة لم تكن يتيمة، ولا هي من فعل شخص أو جهة. فقد اجتمعت في تونس وبخاصّة في العقد الأخير كلّ عناصر مناهضة النظام، حتى ليبدو الأمر منذ اندلاع الاحتجاجات في سيدي بوزيد والقصرين وقبل ذلك في الحوض المنجمي أشبه بـ«طبخة» أُعدّت أفاويهها وتوابلها، مصادفة، أو ربّما بعناية وبتوافق؛ فلا تزال أمور كثيرة محفوفة بغموض غير يسير.


وهذا كلّه يفرض على المثقّف كاتبا أو مبدعا جملة من المواقف، حتى لا تنتصر الكوابيس على أحلامنا في بناء تونس الجديدة التي تتّسع للجميع.


وأظنّ أنّنا نبالغ عندما نقول إنّ المثقف مستقلّ بالضرورة، فنحن نعيش في مجمتمع «متخلّف» رغم مظاهر الحضارة التي تحفّنا في كلّ مسالك العيش؛ ولم نرقَ بعد إلى التعامل الديمقراطي المنشود.

 

وعليه أقدّر أنّ من واجبنا، ونحن لا نزال في مسار ثوريّ متحوّل يُفترض أن يضع تونس، من دون رجعة، على طريق بناء دولة ديمقراطيّة حديثة، أن يُشيع كلّ من موقعه ثقافة التعدّد وأن يشجّع على المغامرة المحمودة والضلالة النافعة، وأن يكسر الحدود التي قد تكون وهميّة بين الأحزاب التي من حقّها أن تتنافس ديمقراطيّا؛ حتى نشيد مجتمعا قائما على الحوار والتسامح واحترام الآخر، فلا أحد منّا يملك الحقيقة. والثقافة التي ننشدها اليوم فعل مقاومة في ظل العولمة التي تضاعف التمزّقات البشريّة، وتعلي من شأن تدمير القيم وتهدّد الأوضاع اللغويّة والثقافية، مثلما هي تدفع إلى التطرّف الذي يعمل على تحقير الانسان وتسييد الجهل ومنطق التدافع والضغينة.


والمثقّفون يتحمّلون قسطا من المسؤوليّة في ما يسمّيه البعض «تجريفا ثقافيّا» مردّه إلى السياسة الثقافيّة التي انتهجها النظام منذ التسعينات، سياسة الولاء والمحاباة والتهميش.. أعني ثقافة»المزود» [آلة موسيقيّة من جلد الماعز] أو الرئة الثالثة كما أحبّ أن أسمّيها.

 

ولكنّ الحقيقة الماثلة اليوم أنّ حكّام تونس كلّهم منذ الثورة إلى اليوم، لم يطرحوا مشروعا سياسيّا مقنعا. ربّما كان بعضهم يتصوّر، عن حسن نيّة أو طويّة، أنّ تونس جرّبت بما فيه الكفاية «الحلّ الغربي» مع بورقيبة وبن علي. وهذا غير صحيح، فقد كان الاثنان «مستبدّين» حتى لا أقول دكتاتورين، على اختلاف ثقافة كلّ منهما. ولا أحد منهما جرّب أو حتى راوده مجرّد التفكير في الحلّ «الغربي» وهو الحل الديمقراطي وقبول التداول السلمي على السلطة. ومن دواعي الموضوعيّة، أن نميّز بين تونس بورقيبة: بناء الدولة الوطنيّة في ظل الخلاف المعروف بين الدساترة من بورقيبيّين ويوسفيّين، وتونس بن علي: الدولة المرتكزة على الأمن أساسا. ويحسن بنا أن لا ننسى أنّ التعليم في المرحلة البورقيبيّة كان أفضل بكثير، فقد تعلّمنا اللغتين العربيّة والفرنسيّة وأتقنهما كثير من أبناء جيلنا؛ وهم يديرونهما عل ألسنتهم بكثير من اليسر والسهولة. وكنّا مثلا ندرس الفلسفة في مظانّها، والأدب في شتّى مراحله وحقبه. وهذا وغيره تكاد لا تظفر به عند الجيل الجديد حتى من هؤلاء الفيسبوكيين الذي ساهموا في الإطاحة بنظام علي، والذين تُعقد لهم المنصّات الإلكترونيّة.


قد يكون إعلان 17 ديسمبر عيدا، نشدانا لـ«بكارة ثوريّة»عند أكثر الذين يحتفون بقرار رئيس الجمهوريّة، وهم على ما يبدو، من الذين لم يألفوا تونس الجديدة. وكلّ شيء يحدث عندهم كما لو أنّ التونسي الآخر «شقيقه الخائن»، فهو يتناوله بالزراية والتنقّص والتحقير، ويطلب له العيب حتى في أمور طبيعيّة. ومن المؤسف حقا أن يشطب أمثال هؤلاء التنوّع الرائع الذي يميّز تونس بجرّة قلم. هؤلاء الذين لا يعرفون الحنطة من  الزوان ولا النحاس من الذهب.


والجميع يسأل ويتساءل: ما الحلّ؟ وقد يكون الحلّ لمشاكل تونس، في عقول مواطنيها وقلوبهم. ولكنّ أكثرهم لا يدرك ما الذي يريده من «الربيع التونسي»، أو ما الذي يجب أن يدافع عنه. والتونسيّون مثل غيرهم من الشعوب يريدون «التحرّر من» و«التحرّر من أجل»؛ أي التحرّر من الفساد والجبروت والاستغلال الاقتصادي والعجز السياسي، ومن أجل الحريّة والكرامة.


ما الذي يريد الرئيس التونسيّ أن يحقّقه من «قراره»؟ هل يريد الديمقراطيّة؟ وإذا كان الجواب بـ«نعم»؛ فما الذي يخطّط له، من أجل تحقيق الديمقراطيّة، حتى لا نستبدل طاغية بطاغية؟


هل يدرك الرئيس أنّ قضايا مثل المواطنة والهويّة والكرامة لا تزال تطرح بحدّة لافتة، وأنّ المواطنة لم تتجذّر تماما في ثقافتنا؛ بسبب الممانعات التي تحوّل الثقافة الأهليّة إلى فرق وعصبيّات، في حين أنّ الهوية متنوّعة متعدّدة؛ وأنّ العلاقات الاجتماعيّة الأهليّة الراسخة في لا وعينا الجماعي، تطغى على العلاقات المدنيّة التي تفرضها العلاقة بين الدولة ومواطنيها.


كان البوعزيزي ضحيّة حقّا، مثلما كان بن علي «ضحيّة»استبداده وفساد حاشيته، ولكن لا هذا ولا ذاك كان يلعب دور الضحيّة؛ ولا هو كان يجيده كما يجيده بعض رجالات السياسة عندنا، ممّن جرّبناهم في العقد الماضي. وها نحن نكتشف أنّهم أشبه بثمار فجّة لم تنضج بعد أو ثمار فاسدة فات أوان قطافها، فهي تتهاوى عند أوّل ريح لتبيَضّ في الأرض وتسترخي، وتتفسّخ كما يتفسّخ كلّ شيء ميّت؛ فيما نحن لا نزال نعيش تداعيات ثورة تُطلّ برأسين: ثورة «البوعزيزي المحروق» وثورة «بن علي الحارق» إلى الضفّة الأخرى.

 

(نقلا عن القدس العربي)

0
التعليقات (0)