قضايا وآراء

الرئيس التونسي: بديل مطلق أم بديل توافقي؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
بعد ما يناهز الشهرين من "إجراءات 25 تموز/ يوليو" الرئاسية، وبعد الانقسام الحاد بين عموم التونسيين وتناقض مواقفهم من تلك الإجراءات (تصحيح مسار/ انقلاب على الدستور)، ما زال الرئيس التونسي "مُشكلا" على الفهم السياسي حتى بين مناصريه من الأحزاب والمنظمات المدنية والنقابية. فالغموض سمة من سمات خطابه السياسي، وكسر آفاق الانتظار بعضُ خصائص مراسيمه ومواقفه، ولكنّ الثابت الأوحد هو أنه يعتبر نفسه "بديلا"، مع تعدد معاني البدلية عنده هو ذاته، واختلافه في فهم تلك المعاني عن أنصاره قبل خصومه.

وقد اعتبرنا في أكثر من مقال وتدخل إعلامي - حتى قبل يوم الإجراءات - أن الرئيس التونسي يحمل "بديلا سياسيا"، ولا يعتبر نفسه شريكا للنخب السياسية بحكامهم ومعارضيهم. ولكننا اعتبرناه أيضا لحظة توافقية جديدة قد تعقب/ ترث اللحظة التوافقية الأولى بين النهضة والنداء. إننا أمام أطروحتين قد تبدوان في الظاهر متناقضتين، مما يوجب رفع التناقض بينهما، وهو ما سنحاول القيام به في هذا المقال من خلال الاشتغال على مفهومي "البديل المطلق" و"البديل التوافقي"، والجدل القائم بينهما في استراتيجيات إعادة هندسة الحقل السياسي.
إننا أمام أطروحتين قد تبدوان في الظاهر متناقضتين، مما يوجب رفع التناقض بينهما، وهو ما سنحاول القيام به في هذا المقال من خلال الاشتغال على مفهومي "البديل المطلق" و"البديل التوافقي"

لفهم الأسس التي تقوم عليها فكرة "تصحيح المسار" سيكون علينا أن نستحضر معطيين هامين: أولا المشروع السياسي للرئيس الرافض للديمقراطية التمثيلية والداعي إلى ديمقراطية مجالسية، وثانيا موقف الرئيس من "مأسسة الثورة" والتوافقات المغشوشة التي حكمت تلك العملية وحددت مساراتها وسقفها. ولم تكن صرخة "الخبير الدستوري" قيس سعيد بعد الاغتيالات السياسية زمن الترويكا مجرد صرخة سياقية، بل كانت صرخته بضرورة أن "يرحلوا جميعا بحكومتهم ومعارضتهم"، تعبيرا مبدئيا عن طبيعة مشروعه القائم على منطق "البديل" للنخب السياسية لا على منطق الشريك.

ولم يكن دخول السيد قيس سعيد للانتخابات الرئاسية "مستقلا" تعبيرا عن الاستقلالية عن الأحزاب فقط، بل تأكيدا لاستقلاليته عن كل النخب السياسية، بل تأكيدا لمشروعه السياسي الذي لن يقوم إلا على أنقاض الديمقراطية التمثيلية، رغم أنه لم يصل إلى قصر قرطاج إلا بفضل تلك الديمقراطية وبعد أن أقسم على احترام دستورها. لقد حرص الرئيس طوال "حملته التفسيرية" وخلال دورَي الانتخابات الرئاسية؛ على أن يُظهر "مفاصلة" فكرية وتنظيمية عن باقي الفاعلين الجماعيين وعن كل الأحزاب.

إننا في حضرة "مفاصلة" فكرية ونفسية وتنظيمية تُذكرنا بالحركات الإسلامية عندما كانت تطرح أنفسها باعتبارها بديلا للنخب العلمانية لا شريكا لها، لكن دون أن يغرينا ذلك بالذهاب بعيدا - كما يفعل البعض - والبحث عن "مسكوت عنه" إسلامي شيعي في مشروع الرئيس (باعتبار التشيع أيديولوجية ثورية لا تتحرك إلا بمنطق البديل). فالديمقراطية المجالسية ذات النسب اليساري لا تحتاج إلى رافد شيعي لتطرح نفسها بديلا، وإن كان ذلك لا ينفي إمكانية التقائها موضوعيا (داخليا وخارجيا) مع كل خصوم الإسلام السياسي السني، خاصة في نسخته الإخوانية. وهو واقع تشهد له العديد من المواقف "الإيجابية" بل الداعمة لإجراءات الرئيس، والتي صدرت أساسا من محور الثورات المضادة بقيادة فرنسا، ومن أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" في تونس.
إننا في حضرة "مفاصلة" فكرية ونفسية وتنظيمية تُذكرنا بالحركات الإسلامية عندما كانت تطرح أنفسها باعتبارها بديلا للنخب العلمانية لا شريكا لها، لكن دون أن يغرينا ذلك بالذهاب بعيدا - كما يفعل البعض - والبحث عن "مسكوت عنه" إسلامي شيعي في مشروع الرئيس

لا يمكن لمفهوم "البديل المطلق" الذي يهيمن على مشروع الرئيس منذ حملته الانتخابية أن يكتسب شرعيته ولا أن يطرح فكرة "تصحيح المسار" إلا بأخذ مسافة نقدية جذرية من عملية "مأسسة الثورة"، ومن مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته برمتها، وبالتالي من كل القوى التي كانت وراء "الانحراف" عن شعارات الثورة واستحقاقاتها. فـ"البديل المطلق" بهذا المعنى هو استعادة للحظة الثورية أو هو استجابة "مؤجلة" لها.

ولا يمكن لهذا البديل المطلق أن يستثنيَ أي فاعل جماعي من موقفه النقدي، فكل الفاعلين (بمن فيهم أولئك الذين سارعوا إلى مناصرة الإجراءات) هم "فاسدون" أو شهود زورٍ على الفساد أو ثمرةُ مأسسةٍ فاسدة للثورة. ولو أردنا اختزال فكرة البديل المطلق في مفهوم نفسي لقلنا إنها تعكس "مبدأ الرغبة" وقد تحوّل إلى عقيدة سياسية، تلك العقيدة التي تواجهها/ تتقاطع معها قوى سياسية ونقابية ومالية ساندت الإجراءات باعتبارها تأسيسا لمرحلة "توافقية" جديدة، وليس باعتبارها تدشينا لزمن سياسي جديد، أي ساندت الرئيس باعتباره بديلا توافقيا للنهضة "فقط" وليس باعتباره بديلا مطلقا.

عندما سارعت أغلب "القوى الديمقراطية" إلى مساندة "الإجراءات الرئاسية" فإنها كانت تؤسس موقفها على سوء فهم جذري لمشروع الرئيس وإجراءاته. فهذه القوى لم تفهم أن حركة النهضة لم تكن إلا "الموضوع المتاح" سياقيا (باعتبارها القوة الحزبية الأهم في الحياة السياسية وفي النظام البرلماني معدّل) وليس باعتبارها "الموضوع المقصود"، وهو هنا مجمل النظام السياسي والوسائط الحزبية وغيرها في الديمقراطية التمثيلية. فمن يتمثل نفسه باعتباره صاحب شرعية مزدوجة (شرعية الاختيار الإلهي بحكم الاستحقاق أو "الكسب"، وشرعية التفويض الشعبي)، ومن يرى في نفسه الممثل الأوحد للإرادة الشعبية لن يكون في حاجة إلى وسائط بينه وبين "شعبه".
لم تستطع هذه "القوى الديمقراطية" أن تستوعب الخطر الوجوي الذي يتهددها إلا بعد أن صرّح السيد وليد الحجام، مستشار رئيس الجمهورية، لوكالة رويترز بأن "خارطة الطريق" الرئاسية ستستوجب تعليق العمل بالدستور الحالي وسنّ قانون منظم للسلطات المؤقتة، ثم الذهاب بعد ذلك إلى استفتاء شعبي

ولم تستطع هذه "القوى الديمقراطية" أن تستوعب الخطر الوجوي الذي يتهددها إلا بعد أن صرّح السيد وليد الحجام، مستشار رئيس الجمهورية، لوكالة رويترز بأن "خارطة الطريق" الرئاسية ستستوجب تعليق العمل بالدستور الحالي وسنّ قانون منظم للسلطات المؤقتة، ثم الذهاب بعد ذلك إلى استفتاء شعبي عام على مشروع الرئيس (دون توافقات أو حوار وطني، وبالاستفادة من الواقع السياسي المختل في ظل حالة الاستثناء). عندها فقط تغيرت نبرة العديد من الأطراف السياسية والنقابية والإعلامية، وانتقلت من منطق المساندة المطلقة إلى منطق المساندة المشروطة، لكن دون أن تطعن في "شرعية" الإجراءات ذاتها (أي دون اعتبار تلك الإجراءات انقلابا على الدستور.. على الأقل إلى حد كتابة هذا المقال).

ختاما، يبدو أن الحزام الداعم لإجراءات الرئيس سيزداد ابتعادا عنه بمقدار اكتشافه للهوة بين تمثله للرئيس؛ باعتباره بديلا توافقيا وشريكا لنخب الديمقراطية التمثيلية بعد إقصاء النهضة وائتلاف الكرامة وبعض مكونات المنظومة القديمة، وبين تمثل الرئيس لذاته ولمشروعه السياسي باعتباره تأسيسا لجمهورية ثالثة لا مكان فيها للنخب الحالية، ولا دور لها باعتبارها جزءا بنيويا من منظومة الفساد المزدوج في الجمهورية الثانية: فساد سياسي ممأسس، وفساد اقتصادي يتعامد مع الفساد السياسي ويعضده ويستفيد منه.

ولا يمكن في اللحظة الحالية الجزم بمخرجات هذا الصراع ولا بتغيرات مواقف أطرافه، خاصة إذا ما علمنا بأن القرار السيادي أو اسقلالية الفاعلين المحليين ليس إلا مجازا أو أسطورة من الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة التي تقترب من وضعية "الدولة المفلسة".

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)