آراء ثقافية

في فلسطين اللغة أيضا أمام منعطف جديد

الكاتب: كل شيء في فلسطين أمام لحظة فارقة- الأناضول
الكاتب: كل شيء في فلسطين أمام لحظة فارقة- الأناضول

كل شيء في فلسطين أمام لحظة فارقة، هي، دون مبالغة، منعطف جديد؛ بما في ذلك اللغة، اللغة بالمطلق، ليس فقط لغة السياسة ولغة الحرب.


خطر ببالي، مرات، أنه يجب منع الإضافة من الاقتراب من فلسطين، والكف عن استعمال المضاف والمضاف إليه في كل ما يتعلق بها، فلطالما أزعجتني تعبيرات: عرب 48 أو فلسطينيو 48، بالإضافة بالطبع للتعبير الأكثر بشاعة "عرب إسرائيل".


قبل سنوات كانت ابنة صديق لي مقبلة على امتحان اللغة العربية للصف الخامس الإبتدائي، فسألتها عما يصعب عليها فهمه في  قواعد اللغة العربية، فأجابت دون تفكير: المضاف والمضاف إليه، وإذ لاحظت أنها تمسك بهاتفها المحمول فقد أشرت إليه، وقلت لها: لماذا لا يشرح لك ماهو صعب؟، وبعد بضعة أسئلة منها وإجابات مني، توصلت عبر بحثها إلى فهم معقول لمعضلتها اللغوية، وظللنا هي وأنا نعاود قراءة أن "الإضافة نسبة تقع بين اسمين توجب جر الثاني، ويسمى الأول مضافا، والثاني مضافا إليه، بشرط أن يكون الأول نكرة، والثاني إما أن يكون معرفة فيتم تعريفه، أو نكرة فيتم تخصيصه، يعرب المضاف إليه مجرور دائما، ويعرب المضاف بحسب موقعه في الجملة"، وكانت الأمثلة: نور الشمس قوي، عنق الجمل طويل،  أسمع بكاء طفل، أشم رائحة ورد. وقتها تذكرت انزعاجي من  تلك التعبيرات، ومن حمولاتها الثقافية، من دون أن تغيب عني حمولاتها السياسية العنصرية. في درس ابنة صديقي كان الشرح يوضح أنه هناك ضم  ونسبة، ففي الجملة الأولى ضمت كلمة "نور" إلى كلمة "الشمس"، ونسبت إليها. وكذلك الأمر في باقي الأمثلة.


في ما يزعجني من تعبيرات: عرب 48، فلسطينيو 48، أو عرب الداخل وفلسطينيو الداخل، وعرب إسرائيل، هناك ضم ونسبة، هناك هيمنة مؤلمة، المؤلم  أكثر هو التنكير، والقضم، حيث تُحذف أل التعريف ونون الجمع المذكّر السالم. أما الذي لا يطاق فهو الرابط القسري.


اليوم يبدو أن ذلك الرابط يتفكك. واليوم أتذكر إميل حبيبي، فما يحدث في فلسطين يذكرني بالكثير مما قرأته له، في المقدمة يشابه ما يحدث، الآن، ما كتبه في "سداسية الأيام الستة وقصص أخرى"، وأدرك جمال إشارته: "ألم تلاحظ، حين يومض البرق أمام عينيك، أنك تنتبه إلى ما يريك مما حجب الظلام عنك أكثر من انتباهك إلى رؤية البرق نفسه؟".

 

اقرأ أيضا: تواطؤ الاتحاد الأوروبي المخزي في جرائم إسرائيل


وميض البرق البازغ من غزة ينبهنا إلى ما حجبه ظلام الاحتلال، وذاكرتي تسعفني بما  كتبه حبيبي، في "سراج الغولة" عن الفلسطينيين الباقيين في أرضهم في يافا وحيفا وعكا، هؤلاء الذين لا يرفضون الضم والنسبة  والقضم: "إننا نفضل رأس خازق فوق تراب الوطن على رحاب الغربة كلها. فقد وجدناها، كلها، حراباً وفِراشها أشبه بفراش فقير هندي؛ رؤوس مسامير أو خوازيق صغيرة وكبيرة على قدر المقام!".


وميض البرق يرينا أن الفلسطيني في كل شبر من بلاده، بل في كل مكان في العالم، أصبح في هذه اللحظة يرى ما حجبه ظلام التواريخ والألوان، والوعود والاتفاقيات والقرارات. يرى أن جوهر قضيته مازال حيا، يقظا.


الآن وبعد 73 عاماً من تفضيلهم "خازوق" إسرائيل، ما زال الفلسطينيون منخرطين في معركة البقاء والتصدي لسياسة التمييز والعنصرية، مستشرفين أفق الحرية والتحرر من كابوس الاستعمار الاستيطاني العنصري.


وعندي أن أهم ما يفعله وميض البرق المبارك الصادر من كل شبر في فلسطين أنه يُظهر للعالم كله أخطر ما حجبه ظلام الكيان الصهيوني، وهو الفقرة الحادية عشرة من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948، والتي تنص على "وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب، وفقاً لمبادئ القانون الدولي والإنصاف، أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة".


وميض البرق المبارك الصادر من كل شبر في فلسطين يلقي الضوء على تواطؤنا غير الواعي المتواصل منذ أكثر من قرن، فالآن علينا أن نزيل ركام هائل من التعبيرات المخاتلة، علينا أن نخترع لغة تناسب لحظتنا الفريد والفذة.


حين بدأت التفكير في أن ما يحدث في فلسطين، الآن، يضع  كل شيء فيها، ومتصل بها، أمام منعطف جديد، وأن اللغة هي، أيضا، أمام منعطف جديد، تذكرت ما قرأته قبل بضعة أشهر من سلسلة نشرات حملت عنوان "الجندر في  اللغة، بين السلطة والمقاومة"، والتي تتضمن بحوثا وأفكارا تبحث في سبل مقاومة أنظمة الهيمنة التي تمر عبر اللغة، وعلي رأسها، أنظمة الهيمنة الجندرية، وظننت أن الرابط بين مقاربتي وبين العمل على تعزيز المساواة على أساس النوع الاجتماعي، ضعيف؛ فأنا هنا لست بصدد التفكير في علاقة اللغة بمبادرات التمثيل المتساوي بين "الجنسين"، ولا بصدد البحث في  تعقيدات محاولات معالجة الجذور الاجتماعية والأيديولوجية للقوالب النمطية لدور الجنسين، لكنني وجدت من المناسب أن أفكر في أن المضاف والمضاف إليه منحاز ضد اللغة الذكورية، فبينما تحذف نون جمع المذكر السالم، يظل جمع المؤنث السالم في كامل سمته، وبكل بهائه.


التعليقات (0)