قضايا وآراء

رامسفيلد وجروحه المفتوحة

أحمد موفق زيدان
1300x600
1300x600
رحل دونالد رامسفيلد عن 88 عاماً، بعد أن ترك جروحاً مفتوحة غائرة لبلاده ولضحاياها، سواء في العراق أو في أفغانستان. فكما سيذكر التاريخ أنه أصغر وزير دفاع لبلاده، حين تولى تلك الحقيبة المهمة وعمره لا يتعدى 43 عاماً في ظل إدارة جيرالد فورد، سيذكر التاريخ أيضاً أنه الوزير الذي كان أحد عصابة المخططين والمهندسين الثلاثة (تشيني، رامسفيلد، وبول وولفوتز)، لغزو بلدٍ عربي هو العراق، وإسلامي هو أفغانستان، تحت ذرائع ثبت بطلانها في حياته. ولا شك أنَّ تركته الثقيلة لن تلاحقه فحسب، وإنما ستلاحق أمريكا عقوداً، في ظل ما جرى في العراق وما يجري وسيجري في أفغانستان من متاعب أمريكية.

بقدر ما يكون الصعود الصاروخي يكون السقوط الحر المريع! وهو ما حصل لرامسفيلد الذي كان يتبختر بابتسامته الماكرة الخبيثة أمام كاميرات التلفزة إبان حرب العراق، مشدداً على علاقة صدام حسين بالقاعدة، وامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، ليثبت لاحقاً زيف كل هذه الادعاءات والتصريحات والشهادات التي كان يجزم بها وبطلانها، مما كلّف واشنطن الكثير من النزيف الأخلاقي أمام حلفائها فضلاً عن خصومها. وشكل ذلك بداية اهتزاز مصداقية المخابرات المركزية الأمريكية، التي اعتمدت على معلومات مضللة وسيّست هذه المعلومات لأهداف سياسية لا علاقة لها بالواقع وحقائقه، وهو ما يتناقض مع أبسط قواعد العمل الاستخباراتي.
سيُسجل التاريخ بأن أكبر إخفاقين لحقا بالجيش الأمريكي والاستراتيجية الغربية، إنما حصلا في عهد وزير الدفاع الراحل رامسفيلد

سيُسجل التاريخ بأن أكبر إخفاقين لحقا بالجيش الأمريكي والاستراتيجية الغربية، إنما حصلا في عهد وزير الدفاع الراحل رامسفيلد؛ ففي العراق كانت البداية، التي تعود لتعطشه لتدميره، منذ سماعه خبر الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، فسارع إلى ربط صدام بالقاعدة دون أي دليل، كما ظهر لاحقاً، وتعاون مع المعارضة العراقية، وعلى رأسها أحمد الجلبي، في احتلال بلدها، بعد أن قدم أكثر من 200 مليون دولار أمريكي للمرجع الشيعي علي السيستاني، مقابل إصداره فتوى بعدم قتال القوات الأمريكية الغازية، ترافق ذلك مع تصريحات الحاكم الأمريكي على العراق بول بريمر بأن الغزو جاء لينهي حكماً سنياً منذ عهد العباسيين للعراق، مما عنى أنه استراتيجية بلد وليس استراتيجية شخص.

سيذكر التاريخ في عهد احتلاله للعراق مشاهد نهب المتاحف العراقية التي هي في الحقيقة إرث إنساني قبل أن تكون إرثاً عراقياً، وسيذكر أيضاً حالة الفوضى التي سادت في شوارع بغداد، وسط تصريحاته التي بررتها بأنها حرية بعد كبت طويل. ولن ينسى العالم كله فضيحة سجن أبو غريب التي تسرّبت في عهده، وهو ما ضرب وهزّ المصداقية الأمريكية على مستوى العالم، وسبّب لها جرحاً أخلاقياً يضاف إلى جروحها الأخلاقية العديدة، ولكنه جرحٌ من النوع الثقيل، مما دفع رامسفيلد إلى وصفه بأنه "أسوأ ساعة في خدمته بالبنتاغون"، فسارعت مبكراً صحيفة "Army Times" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2006 للدعوة إلى استقالته، وقالت: "لقد فقد رامسفيلد مصداقيته في قيادته العسكرية لجنوده، وكذلك فقد مصداقيته أمام الكونغرس وأمام شعبه بشكل عام".

على صعيد الجرح الأفغاني كان الغوص الأمريكي في الرمال الأفغانية يتواصل بعد أن أعْمَتْه سرعة الانتصار، فسارع مع العصابة التي هندست للاحتلال الأفغاني إلى فرض التحالف الشمالي الأفغاني على كابول وحيداً، وهو الذي تعهد لباكستان بغير ذلك. وأتى استبعاد طالبان ثم البشتون من أي عملية سياسية في أفغانستان ليزيد من تهميش الأغلبية، ويُكسب طالبان مزيداً من الحاضنة مع مرور وقت مقاومتها.
إنّ مكر التاريخ والجغرافيا أصدق ما ينطبق على أفغانستان، وهو يؤكد أن عصابة الثلاثة (تشيني، رامسفيلد، وولفوتز) لم تقرأ تاريخ البلاد، كما لم تقرأ تاريخ العراق، وإن فعلت فلم تستوعب دروسه

وتوّج رامسفيلد وعصابة الاحتلال الثلاثة ذلك بتفضيل الهند في أفغانستان على باكستان، مما دفع الأخيرة للانقلاب على كل شيء في أفغانستان سراً، على الرغم من تعاونها الظاهري مع التحالف الغربي. فلجأت لاستراتيجية دعم سري لطالبان أفرزت بعد سنوات انهياراً كارثياً غربياً وليس أمريكياً فقط، أرغم التحالف على الانسحاب من أفغانستان، في مشهد ربما أسوأ من مشهد سايغون في فيتنام.

ونحن نرى الانهيارات المتسارعة لمعاقل حليفتها، الحكومة الأفغانية، دون قتال، وسط فرار مقاتليها إلى دول مجاورة مثل طاجيكستان.

إنّ مكر التاريخ والجغرافيا أصدق ما ينطبق على أفغانستان، وهو يؤكد أن عصابة الثلاثة (تشيني، رامسفيلد، وولفوتز) لم تقرأ تاريخ البلاد، كما لم تقرأ تاريخ العراق، وإن فعلت فلم تستوعب دروسه. وكما ارتبطت هزيمة فيتنام وعقدته بوزير دفاع أمريكا يومها ماكنمارا، سيرتبط العراق وأفغانستان باسم رامسفيلد وعصابته، ولكن جروحاً غائرة ستترك ندوبها طويلاً وعميقاً في التاريخ الأمريكي.. هكذا سنذكر رامسفيلد، وهكذا سيذكره الأمريكيون.
التعليقات (0)