كتاب عربي 21

الازدواجية الغربية بين النظرية والممارسة

شريف أيمن
1300x600
1300x600
ترتبط السياسة بنشأة المجتمعات، ولا يمكن تصور ضبط الجماعات دون وجود إطار نظري لعملية الإدارة. وهذا الإطار نشأ بالتزامن مع وجود الاجتماع البشري، ولكن ما وصل إلينا من كتب تتحدث عن السياسة وتصورات حكم المجتمعات كان مرتبطا بقرون معدودة قبل الميلاد، وتغيّر الحال مع اختراع الآلة الطابعة منتصف القرن الخامس عشر، فذاعت الكتب المُؤلَّفَة في كل مكان، وبدأ يتشكّل علم للنظريات السياسية، ثم تفرّع علم العلاقات الدولية بشكل مستقل أوائل القرن الماضي، بإنشاء جامعة ويلز أول مقعد لدراسة العلاقات الدولية كعلم مستقل عام 1919م.

بشكل موجز، عَمَّتْ ثلاثة أنواع من مناهج دراسة العلاقات الدولية؛ الأول: مناهج نمطية؛ وهي التي تصوّر أنماطا مثالية لتطبيقها في الواقع، وتضم المنهجين الفلسفي والقانوني، وكلاهما لا ينطلق من الواقع بل بما ينبغي أن يكون عليه الواقع، لكن الأول من الناحية الأخلاقية والثاني من الناحية القانونية.

والنوع الثاني: مناهج موضوعية، وهي التي تبحث عما هو كائن بالفعل، وتضم المنهجين التاريخي والواقعي. والفرق بينهما أن التاريخي يقوم على وصف الأحداث كما هي، بينما يقوم المنهج الواقعي على تفسير التفاعلات الدولية على أساس المصلحة القومية للدولة، وقوتها. وهذا النموذج من أبرز النماذج التفسيرية لعلم العلاقات الدولية، وظهر بعد الحرب العالمية الثانية.

وأخيرا ظهر المنهج العلمي التجريبي الذي تأثر بالمدارس السلوكية في العلوم الاجتماعية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وينطلق من الملاحظة والتجريب كما في العلوم الطبيعية.
التنظير السياسي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، فيما يسمى بالمنهج الواقعي، فقد أظهر انحطاطا فكريا يليق بالدور الأمريكي الجديد

هذا العرض السريع، الذي لا يتسع معه المقام لتوضيح أسباب ظهور نماذج وخفوت أخرى، لأجل إيضاح أن عملية التنظير السياسي مرت بمراحل متعددة، وهذه المناهج بصورتها تمت صياغتها في الغرب لا عندنا، مع الأخذ في الاعتبار أن النظم المثالية كانت سائدة من حيث التنظير السياسي، لكن الممارسة السياسية كانت تختلف عن الإطار النظري.

وهذه إشكالية قديمة جديدة، مع فارق بسيط؛ فالتنظير كان أخلاقيا إلى حد كبير، ويقف المفكرون لمعارضة التجاوزات بهذه النظريات، وكانت الأفكار التي تمنح الحاكم دورا كبيرا إزاء المجتمع مثل أفكار ميكيافيلي وهوبز معدودة في التاريخ، لكنها مؤثرة بالطبع، أما التنظير السياسي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، فيما يسمى بالمنهج الواقعي، فقد أظهر انحطاطا فكريا يليق بالدور الأمريكي الجديد؛ إذ عمد الأمريكي مورغنثاو إلى تأصيل اللا أخلاقية السياسية في نظريته، وبدلا من ترك الممارسات اللا أخلاقية سائدة في الفعل السياسي وفي ذات الوقت مشجوبة، أصبحت اللا أخلاقية يُنَظَّر لها باعتبارها أمرا طبيعيا ومن ثَمَّ لا يمكن شجبها.

يتقاطع هذا الكلام بصورة ما مع الذي ذكره أندرو هيوود في كتابه المهم والمرجعي "النظرية السياسية"، حول دور اللغة في السياسة، إذ يشير إلى ساسة لا يستخدمون اللغة كوسيلة اتصال، بل كسلاح سياسي يتم استخدامه للتلاعب والإرباك. ويستطرد بقوله: "إن الدول تبرر قوتها النووية (الرادعة)، لكنها تدين الدول الأخرى لامتلاكها (أسلحة دمار شامل). يمكن وصف غزو بلد أجنبي على أنه (انتهاك) لسيادته، أو (تحرير) لشعبه".

هذه الثنائيات المتناقضة أصبحت تدخل عبر بوابة تخفف من وقع التجاوز والانحراف، وهي بوابة "نِسْبِيَّة القيم". فالإرهابي لدى نظام سياسي، يمكن اعتباره مناضلا لدى نظام آخر، والقتل عبر أجهزة الدولة مبرر لحفظ الأمن، بينما يرى أنصار الضحية أن من قتله لا يحفظ الأمن بل هو قاتل. فهذه الأضداد وغيرها إما أن يتم تخفيفها عبر بوابة ثنائية القيم، وإما أن يرفض الطرف الأقوى مجرد وضعه محل اتهام، ويصر على صواب وصفه للطرف المقابل (إرهابي/ خارج على القانون.. إلخ).
التلاعب على مستوى التنظير واللغة ليس جديدا في تاريخ الأمم والشعوب، لكنه اكتسب صورة "شرعية" عقب الحرب العالمية الثانية، إذ ترسخت المبادئ الوستفالية كأساس للبناء الدولي، وأصبحت الرؤية الأمريكية هي الحاكمة لكل التصورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية

لكن ما يتم التغافل عنه عمدا، أن نسبية القيم تكون في حدود إنفاذ القانون لا في أصله؛ فالذي يحفظ النظام في الدولة إذا تجاوز حدود وظيفته وقَتَل دون مسوغ فهو قاتل، والذي يدافع عن وطنه ضد احتلال أجنبي مناضل وليس إرهابيا، هذه هي الأصول المتفق عليها قانونيا على المستوى المحلي والدولي، وتغيير هذه الأصول عبر اللغة الخادعة لا يمنحها المشروعية.

هذا التلاعب على مستوى التنظير واللغة ليس جديدا في تاريخ الأمم والشعوب، لكنه اكتسب صورة "شرعية" عقب الحرب العالمية الثانية، إذ ترسخت المبادئ الوستفالية كأساس للبناء الدولي، وأصبحت الرؤية الأمريكية هي الحاكمة لكل التصورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وقد ذكر هنري كسنجر أنه خلال زيارته للرئيس الأمريكي ترومان عام 1961 سُئل الرئيس عن السبب الأول لاعتزازه برئاسته، فأجاب قائلا: "ألحقنا هزيمة كاملة بأعدائنا ثم أعدناهم إلى أسرة الأمم". ويضيف كيسنجر: "جميع خلفاء ترومان اتبعوا واحدة من طبعات هذه السردية، وظلوا يعتزون بمزايا مشابهة للتجربة الأمريكية. وعلى امتداد الجزء الأكبر من هذه الفترة بقيت أسرة الأمم التي استهدفوا تأييدها عاكسة نوعا من الإجماع الأمريكي؛ نظام دول متوسعا بمرونة، مراعيا قواعد ومعايير مشتركة، محتضنا أنظمة اقتصادية ليبرالية، نابذا لغزو الإقليمي، محترما السيادة القومية- الوطنية، ومتبنيا أنظمة الحكم القائمة على المشاركة والديمقراطية".

المفارقة أن النظم الأمريكية المتعاقبة لم تقم بما يزعمه كيسنجر، فالغزو قامت به أمريكا في فيتنام وأفغانستان والعراق، والسيادة الوطنية انتهكت في كل إقليم يعارض الولايات المتحدة خاصة في أمريكا اللاتينية، أما الدعم الأمريكي اللامحدود فيتم توجيهه إلى نظم مستبدة بصورة شرسة، ودموية أيضا، لكن هذه التصرفات ستكون محل "تبرير وتفسير وتوضيح"، وسيُتَّهم الناقد بـ"العداوة لقيم الولايات المتحدة أو بسوء فهم سلوكها".
رغم كل ما يحيط بالأمة من ضغوط ودعم للاستبداد، فإن الشعوب العربية لا تزال مؤمنة بقدرتها على نيل حريتها بنفسها، وما يطلبه العرب هو عدم دعم المستبدين لا دعم نضالهم السياسي ضد الاستبداد

إن الازدواجية الغربية ليست أمرا هامشيا في منطقتنا، فنحن نعاني من الازدواجية بدعم الدول الكبرى للنظم الاستبدادية، ونعاني منها عندما يتم غض الطرف عن رفض الاختيار الشعبي الحر إذا أتى بتوجهات لا ترضاها الدول الغربية، ونعاني من الازدواجية عند التعامل مع المعتقلين السياسيين، فيتم الضغط للإفراج عن المعتقلين القريبين من الأفكار الليبرالية (أحيانا تستجيب الحكومات سريعا وأحيانا تأخذ وقتا للاستجابة)، ونعاني من الازدواجية الكبرى في التعامل مع القضية الفلسطينية، صحيح أن أغلب العرب - والمسلمين أيضا - يعتقدون بحق الفلسطينيين في أرضهم كاملة على حدود ما قبل قرار التقسيم عام 1947، لكن الغرب يتجاهل الحقوق الفلسطينية والسورية في حدود ما قبل عام 1967، وهي الحدود التي تم ترسيمها وفقا لقرار التقسيم المجحف والظالم، وهي سابقة أن يتم إعلان دولي وإذن لاحتلال أرض شعب ما.

رغم كل ما يحيط بالأمة من ضغوط ودعم للاستبداد، فإن الشعوب العربية لا تزال مؤمنة بقدرتها على نيل حريتها بنفسها، وما يطلبه العرب هو عدم دعم المستبدين لا دعم نضالهم السياسي ضد الاستبداد، لكن إصرار الأطراف الدولية المعنية بالمنطقة على تجاهل القيم الإنسانية، وتجاهل حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، يجعل الشعوب المقهورة تربط بين المستبدين وداعميهم. ولهذا لم تعد الدعاية السياسية الغربية براقة لمواطنينا، والأخطر أن تصاعد اليمين في الغرب ينذر بتصدعات جديدة بين أبناء الثقافة الشرقية والثقافة الغربية، وهو ما سيؤدي إلى تقلبات جديدة في النظام الدولي وفي التنظير السياسي.

twitter.com/sharifayman86
التعليقات (0)

خبر عاجل