قضايا وآراء

كورونا يحصد أرواح أطباء مصر

مصطفى جاويش
1300x600
1300x600
دفتر عزاء يومي على موقع نقابة الأطباء، وزيادة متسارعة في أعداد ضحايا كورونا من الأطباء يوميا، مما يعتبر إنذارا عن حجم الكارثة التي تضرب المنظومة الصحية في أهم أركانها الأساسية، وهي صحة أعضاء الأطقم الطبية وسلامتهم.

وكانت منظمة الصحة العالمية في بيان الإعلان عن جائحة كورونا يوم 11 آذار/ مارس 2020 قد أوصت بضرورة الاهتمام برعاية الأطقم الطبية، كما أن دستور 2014 المصري قد نص في مادة 18 على حق جميع أعضاء الفرق الطبية في دعم ومساندة ورعاية الدولة، وتوفير بيئة صالحة للعمل. ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، وتمكن كورونا من رقاب الأطباء الذين تم حصر وتوثيق أكثر من خمسمائة حالة وفاة منهم حتى الآن، في حين تقاعست باقي النقابات عن حصر وفيات أعضائها، من هيئات التمريض والصيادلة وأطباء الأسنان والفنيين وغيرهم.

ومنذ بداية الجائحة وصرخات الأطباء لا تنقطع عن مطالبة وزارة الصحة بتوفير المستلزمات والواقيات وتهيئة بيئة العمل الصالحة لمنع العدوى، خاصة أن الإجراءات الحكومية لم تكن تبشر بالخير منذ بدايات الأزمة، حيث ظهر ذلك واضحا في إعلان وزارة الصحة عن طلب أطباء في مهمات عاجلة بأجور عالية، ثم فوجئ الأطباء بنقلهم بالطائرة من القاهرة إلى مستشفى عزل كورونا بمحافظة مرسى مطروح الحدودية، دون سابق معرفة ودون تدريب أو حتى إعداد نفسي وبغير تهيئة علمية.
منذ بداية الجائحة وصرخات الأطباء لا تنقطع عن مطالبة وزارة الصحة بتوفير المستلزمات والواقيات وتهيئة بيئة العمل الصالحة لمنع العدوى، خاصة أن الإجراءات الحكومية لم تكن تبشر بالخير منذ بدايات الأزمة

وبالطبع، فقد رفض عدد كبير منهم تلك الآلية في العمل، ومن الغريب أن وزيرة الصحة أعلنت وقتها وبكل بساطة أن التعامل مع وباء كورونا لا يحتاج تدريبا متخصصا، ويمكن لأي طبيب أن يعمل في مستشفى عزل كورونا بعد دورة سريعة للتأهيل.

وبدأ الأطباء يتساقطون ضحايا الإصابة بالفيروس:

بنهاية شهر آذار/ مارس 2020، كان سقوط أول ضحية من أطباء مصر نتيجة عمله في هيئة الرعاية الصحية بمحافظة بورسعيد الساحلية، وهي من أفضل المؤسسات الصحية في مصر حاليا، ومن بعده توالت وفيات الأطباء بمعدل تصاعدي؛ لتبلغ ذروتها حاليا بسقوط عشرات الضحايا يوميا بحسب حصر وتوثيق نقابة الأطباء، التي بلغت نسبتها 3.7 في المئة من إجمالي عدد الوفيات الرسمي؛ في ظاهرة كارثية تكاد تكون الوحيدة من نوعها عالميا.

وبالنظر إلى زيادة الإصابة بين أعضاء الفرق الطبية التي بلغت 13 في المئة، مقارنة بنسبة 7 في المئة بإسبانيا في ذروة الموجة الثانية للوباء حسب تقرير منظمة الصحة العالمية؛ يتضح أن الأعداد تزايدت حاليا بنسبة تصاعدية سريعة بدليل زيادة الوفيات. ومن الواضح أن أغلب الإصابات طالت الأطباء خلال عملهم اليومي في المستشفيات الحكومية والخاصة، بالإضافة إلى عياداتهم الخاصة، وذلك بهدف توفير الحد الأدنى لنفقات المعيشة لأسرهم.
تلك الازدواجية في الخدمة الطبية، تعد من سلبيات المنظومة الصحية في مصر، ولا بد من الإشارة إليها بداية حتى تتضح مدى المعاناة التي يواجهها أطباء مصر، والتي دفعت بأكثر من 67 في المئة منهم للهجرة والعمل بالخارج، والباقي منهكون بين العمل الحكومي والعمل الخاص داخل مصر

تلك الازدواجية في الخدمة الطبية، تعد من سلبيات المنظومة الصحية في مصر، ولا بد من الإشارة إليها بداية حتى تتضح مدى المعاناة التي يواجهها أطباء مصر، والتي دفعت بأكثر من 67 في المئة منهم للهجرة والعمل بالخارج، والباقي منهكون بين العمل الحكومي والعمل الخاص داخل مصر. وهذا يعني تزايد فرص التعرض للعدوى على مدار الساعة، مع زيادة الإجهاد العقلي والبدني والإجهاد الذهني والنفسي، في ظل منظومة صحية حكومية مهترئة ولا تغطي سوى 5 في المئة فقط من مصابي كورونا الذين يلجؤون إلى المستشفيات وهم في مراحل متأخرة من المرض، والنسبة الأكبر يلجؤون إلى عزل منزلي ذاتي وتواصل شخصي مع الأطباء والصيادلة، أو حتى مع الجيران والأصدقاء، بعيدا عن الرعاية الصحية الحكومية الحقيقية.

ما هو السبب وراء ظاهرة زيادة وفيات الأطباء وأين تكمن المشكلة؟

زيادة وفيات الأطباء بسبب مرض كوفيد-19 قد أصبحت ظاهرة تستحق الدراسة والبحث العلمي الجاد لمعرفة جذور المشكلة والعمل على حلها. ومبدئيا، فإن زيادة انتشار العدوى بين أعضاء الأطقم الطبية ترجع إلى عدة أسباب، منها؛ قلة التدريب ونقص الخبرة. وهذا السبب كان مطروحا بقوة خلال بدايات الجائحة، ولكن وزنه النسبي تراجع كثيرا حاليا بسبب الخبرات التراكمية والمهارات المكتسبة على مدى عام كامل. وقد يكون نقص الإمدادات من الواقيات ومستلزمات التحكم في العدوى من الأسباب المهمة، التي ما زالت الشكوى منها متكررة خاصة في المستشفيات الحكومية؛ من حيث قلة الكميات ورداءة النوعيات وعدم مطابقتها للمعايير القياسية العالمية.
قد يكون نقص الإمدادات من الواقيات ومستلزمات التحكم في العدوى من الأسباب المهمة، التي ما زالت الشكوى منها متكررة خاصة في المستشفيات الحكومية؛ من حيث قلة الكميات ورداءة النوعيات وعدم مطابقتها للمعايير القياسية العالمية. ويضاف إلى ذلك فساد بيئة العمل

ويضاف إلى ذلك فساد بيئة العمل، بمعنى نقص إجراءات التحكم في العدوى وغياب التهوية الجيدة داخل غرف المرضى بما يزيد من الحمل الفيروسي، أي زيادة تركيز الفيروس العالق في الهواء بالأماكن المغلقة سيئة التهوية، مما قد يضاعف من فرص الإصابة بالعدوى ويزيد من القدرة الإمراضية للفيروس.

ومن ناحية أخرى، فإن فساد بروتوكولات العمل ومنع الإجازات وساعات العمل الطويلة، تظل من أهم الأسباب المهيئة للإصابة بالمرض، لتأثيرها السلبي المباشر على المناعة وقدرة الجسم على مواجهة العدوى والتغلب عليها، إضافة إلى حرمان الأطقم الطبية من حقها في الفحوصات الدورية قبل وبعد القيام بتنفيذ تكليفات العمل والمخالطة المباشرة مع المرضى. وحتى عند الإحساس ببدء الأعراض، فإنه يتم وضعهم بالعزل المنزلي وتلقي العلاج باعتبار الواحد منهم "حالة مشتبهة"، ولو أجرى فحوصات فإنه ينتقل إلى مرحلة "حالة محتملة". ويظل تحليل PCR بعيد المنال حتى يتم استيفاء جميع شروط إجرائه حسب البروتوكول المزعوم الذى أصدرته وزارة الصحة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020، مما قد يعرض الطبيب إلى الدخول سريعا في مرحلة المضاعفات الطبية للمرض ثم الوفاة، حتى لو تم حجزه في مستشفى العزل.

كيف السبيل لمواجهة مشكلة زيادة وفيات الأطباء؟

شاهدنا في الأسابيع الماضية زفة إعلامية، وحفلا لتكريم الأطقم الطبية أقامته وزارة الصحة بحضور السيسي لتكريم العاملين بالصحة، وإصدار قانون بإنشاء صندوق لمخاطر المهن الطبية (ممول من مساهمات الأعضاء أنفسهم وليس من موازنة الدولة)، وفعاليات أخرى مثل التكريم بصك عملات معدنية ترمز للفريق الطبي وشهادات التقدير، وإطلاق أسماء الشهداء على بعض الشوارع. وجميعها تبدو مهمة إلى حد ما في تقديم الدعم النفسي جزئيا، ولكنها تدخل في إطار الدعايات السوداء التي يحاول النظام المصري أن يغطي بها على فشله في إدارة ملف مواجهة جائحة كورونا.

واجب على الدولة فورا تطبيق القانون رقم 16 لسنة 2018 الخاص بشهداء العمليات العسكرية على شهداء الأطقم الطبية ممن توفاهم الله بسبب إصابة كورونا؛ وذلك على العاملين في جميع المؤسسات الصحية الحكومية والخاصة أيا كانت تبعيتها. ومن ناحية أخرى، فمن الواجب فورا تسريع معدل تطعيم الفرق الطبية بلقاح كورونا واعتباره أولوية حقيقية، مع تلبية الاحتياجات المادية كافة، من الآلات وتجهيزات وواقيات ومستلزمات من نوعيات عالية الجودة، بالإضافة إلى تحسين بروتوكولات العمل لتحقيق أقصى حماية ممكنة للأطقم الطبية، بما فيها سبل الدعم النفسي والمعنوي لضمان سلامتها من ناحية، وتقديم أفضل خدمة رعاية صحية للمواطنين من الناحية الأخرى.
التعليقات (0)