قضايا وآراء

الشّعوب تريد السّلم والأَمن.. ولا تريد مآسي الحروب

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

بادر الرئيس الأمريكي بايدن إلى الاتصال بالرئيس الروسي بوتين يوم الثلاثاء ١٣/٤/٢٠٢١، وأبلغه خلال المكالمة "نيَّته تطبيع العلاقات بين البلدين"، لكن الفعل الأمريكي ورد الفعل الروسي عَبَّرا عن عكس ذلك المُتَمَنى، حيث التصعيد مستمر وردود الفعل السلبية مستمرة.. 

ففي موضوع أوكرانيا الذي يعد البؤرة الأشد سخونة وخطورة بين الطرفين الآن، يتواصل التصعيد السياسي والحشد العسكري والتسلّح.. فروسيا حشدت ما يصل إلى ٨٩ ألفاً من قواتها على الحدود مع أوكرانيا وهي تواصل الحشد هناك وفي شبه جزيرة القرم، والولايات المتحدة الأمريكية ترسل الأسلحة لكييف وتقدم لها الدعم المالي والعسكري، وتوجِّه سفناً حربية أمريكية إلى البحر الأسود في تحرك ذي مغزى، وتعلن هي وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي الذين اجتمع بهم وزير خارجيتها بلينكن في ١٤ نيسان (أبريل) الجاري عن دعم شامل لأوكرانيا دفاعاً عن سيادتها ووحدة أراضيها وعودة شبه جزيرة القرم إليها. 

وفي أوكرانيا تصعيد سياسي وعسكري ومناورات أيضاً، وهي تعلن أنها تتعرض لتهديد روسي وحرب قادمة قد تُشنُّ عليها في أي وقت، وأنها رغم خسارتها لأربعة عشر ألفاً من جنودها وضباطها، قتلوا خلال السنوات السبع الماضية في مواجهة مع روسيا ومَن يوالونها ويعملون معها ولصالحها في إقليم الدونباس "منطقتي دونيتسك ولوغانسك"، إلا أنها ستدافع عن نفسها وعن استقلالها وخياراتها السياسية.. ويؤيدها الغرب ويساندها في ذلك كما تؤيدها وتساندها دول أخرى في الجوار الروسي منها دول البلطيق الثلاثة لاتفيا وليتوانيا وإستونيا التي أرسلت وزراء خارجيتها إلى كييف يوم الخميس ١٥/٤/٢٠٢١ لإظهار التضامن، وتساعدها أيضاً دول أخرى كانت سابقاً في الحضن الروسي عبر الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو اللذين انتهى وجودهما منذ أكثر من عقدين من الزمن وأصبحت في الاتحاد الأوروبي وبعضها في حلف شمال الأطلسي أو يتطلع إلى الانضمام إليه.

إن الوضع في أوكرانيا يشكل الآن بؤرة التوتر الحادة بين البلدين، ولكنه ليس موضوع الخلاف الوحيد ولا هو جوهر الصراع الرئيس بين الدولتين الأعظم، "الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية"، اللتين تردَّت علاقاتهما إلى أدنى مستوى لها منذ الحرب الباردة، كما صرح بذلك مسؤولون في الدولتين، وأصبحت الثقة بينهما شبه منعدمة، وسباق التسلح بينهما على قدم وساق، بصور معلنة وخفية، وصراعهما السياسي والاستراتيجي والأمني والاقتصادي يطال بلديهما ومواقع وبلدان ودول وقضايا كثيرة في العالم، والخافي منه أعظم من الظاهر.. 

فالصراع بينهما، والاستقطاب الدولي، وتبادل تصفية الحسابات، لم يتوقف، ومنه على سبيل المثال موضوع تساقي الموت والتأسيس للخسائر الفادحة والهزائم في أفغانستان، فكما دفع الروس ثمناً باهضاً وانسحبوا من ذلك البلد في العهد السوفييتي بفعل دبرته وشاركت فيه الولايات المتحدة والأطلسي ومَن زجَّتهم في ذلك الصراع، ولم يوفر الروس جهداً في جعل الأمريكيين وحلف شمال الأطلسي يدفعون الثمن ويخسرون في احتلاهم لأفغانستان، ومن الشواهد على استمرار تصفية الحسابات ما صدر يوم ١٥ نيسان/ أبريل ٢٠٢١ من عقوبات أمريكية ضد روسيا من بينها ما قالت عنه المتحدثة باسم البيت الأبيض إنه عقوبات على "تقديم روسيا مكافآت لقتل عدد من جنودنا وجنود التحالف في أفغانستان حسب تقارير مخابراتنا".

روسيا الاتحادية تستشعر خطراً وتحسب حسابات كثيرة لزحف حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية نحو حدودها وإقامته لقواعد عسكرية ونشره لأسلحة هجومية في بلدان مجاورة لها، وتعلن عن ضرورة التصدي لذلك الخطر حماية لأمنها القومي، وتعمل على ذلك منذ سنوات.
 
والولايات المتحدة الأمريكية تتهم روسيا بتهديد دول في شرق أوروبا منها أوكرانيا، وبالتدخل في شؤون داخلية أمريكية مثل الانتخابات، وبشن هجمات سوبرانية على وزارات ومؤسسات أمريكية مما يهدد الأمن القومي الأمريكي، وتنتهك حقوق الإنسان وتحاول قتل معارضيها.. وتواجه ذلك بالاتهامات والتصعيد وفرض العقوبات، وآخر ما أعلنته من عقوبات كان في يوم الخميس ١٥/٤/٢٠٢١، حيث أعلن البيت الأبيض، وبعد التواصل الذي جرى بين بايدن وبوتين: "طرد 10 دبلوماسيين روس، وحزمة عقوبات جديدة على مؤسسات روسية في رد على قرصنة شركة "سولار ويندز" الرقمية، وعقوبات على 16 كيانا و16 فردا روسيا للتدخل في الانتخابات الأمريكية الأخيرة. وأعلنت وزارة الخزانة الأمريكية عن فرض عقوبات على 5 أفراد روس و3 كيانات روسية على خلفية احتلال شبه جزيرة القرم.. وعقوبات اقتصادية جديدة تستهدف الديون السيادية الروسية".. 

 

روسيا الاتحادية تستشعر خطراً وتحسب حسابات كثيرة لزحف حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية نحو حدودها وإقامته لقواعد عسكرية ونشره لأسلحة هجومية في بلدان مجاورة لها، وتعلن عن ضرورة التصدي لذلك الخطر حماية لأمنها القومي، وتعمل على ذلك منذ سنوات.

 



ويضاف إلى ما تسببه تلك العقوبات من سخط واستفزاز إعلان البنتاغون أنه "يدرس نشر القوة في طاجيكستان أو كازاخستان أو أوزبكستان منعا لإحداث فجوة في المنطقة" كما جاء في الـ"نيويورك تايمز".. الأمر الذي يضع قول الكرملين: "إن الأوضاع في المنطقة ما تزال متوترة للغاية بسبب الوجود والتدريبات الأمريكية والأطلسية على حدودنا" في سياق التصعيد المستمر والمتوسع.. فروسيا ترى في ذلك كله خطراً على الأمن القومي الروسي والمصالح الروسية، وتراه يلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد لذا ترفضه وتتوعد برد قوي وحاسم على ذلك كله، وتقول بلسان وزارة خارجيتها إن "واشنطن ستدفعُ الثمن".

وبالمقابل فإن الولايات المتحدة وحلفاءها في حلف شمال الأطلسي يعززون وجودهم في دول شرق أوروبا وفي دول آسيا الوسطى حيث الجوار الروسي، ويتوجسون خيفة من سياسات روسية قد تفضي إلى اجتياح بعض الدول من حولها، ويراقبون ازدياد التسلح كماً ونوعاً بقلق.. ويدخلون من جانبهم في سباق التسلح بقوة، حيث يرصدون مئات المليارات في موازنات وزارات الدفاع ليواجهوا ما يسموه خطر الصين روسيا معها، وتوسّع استقطابهما لدول في آسيا وإفريقيا، وهم لا يترددون في الرد على ذلك من موقع القوة.. الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من تردي العلاقات وإضعاف الثقة المتبادلة بين الدول العظمى وتحالفاتها، وينذر بمزيد من التوتر والتصعيد وتدهور الأوضاع، ويقود إلى مواجهات دامية تتحول إلى حرب عامة.

إن هذا الذي يطفو على سطح العلاقات الثنائية بين الدولتين العظميين، ويبدو ـ من وجهة نظر عقلانية موضوعية طبيعية ـ من الأزمات أو المشكلات التي يمكن حلها سياساً بالحوار البناء، في نطاق المصالح والمنافع المتبادلة بينهما.. ما هو في واقع الأمر إلا رَغْوَة على سطح الإناء الموضوع على النار منذ زمن طويل.. فصراع العملاقين وتحالفاتهما أبعد من ذلك وأكثر عمقاً واتساعاً وقوة وشدة.. 

إنه الصراع على السلطة العالمية، على الوحدانية القطبية أو الثنائية أو تعدد الأقطاب في السياسة الدولية، وعلى الاستقطاب السياسي العالمي ذي المردود النفعي، وعلى احتلال المناطق الاستراتيجية في العالم وتوسيع دائرة الوجود العسكري، والتحكم بأسواق السلاح وببؤر التوتر والاستثمار فيها وتحريكها وفق مصالح وغايات تخدم أهدافاً استراتيجية ومصالح قومية لكل منهما.. إنه الصراع على الأسواق الاقتصادية والتحكم بمصادر الطاقة وثروات الشعوب.. 

إنه الصراع على النفوذ والهيمنة والتسلُّط والسيطرة على قرار دول وأموالها وعلى مصير بلدان وشعوب، وضمان ولاء حكام مستبدين أثرياء أو فاسدين ظَلَمة طامحين وخائفين يبحثون عن حمايات.. إنه الصراع بدماء أبناء العالم من أجل السيطرة على العالم.. وكل من القوتين العظميين والقوى العظمى الأخرى وتلك الصاعدة إقليمياً إلى مستوى النفوذ والتوسع والتسلط، كلها توسع تحالفاتها ومناطق نفوذها وتطور قدراتها التقنية والعسكرية والاقتصادية.. وكل ذلك يجرُّ العالم إلى صراعات دامية وحروب ومآسٍ وكوارث.. 

وفي هذا الأفق المظلم تبدو الأزمات بلا حلول، والصراعات إلى تصعيد، والقوة إلى توحش، وفقراء العالم وشعوبه المنكوبة بصراع القوة والأقوياء إلى مزيد من البؤس واليأس والكوارث.  

وينعكس هذا كله سلبياً على الأمن والسلم العالميين وعلى الشعوب في العالم؟ فهل يتعاون البلدان فعلاً في مواجهة قضايا وعلاقات ثنائية، وأخرى دولية "سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية" محكومة بخلافاتهما بمسؤولية أخلاقية وإنسانية؟! وهل يتوقف شلل مجلس الأمن الدولي بسبب هذا الصراع ويتمكن من مواجهة ما يطرح فيه وعليه من قضايا ويصبح مؤثراً وفعالاً وصاحب موقف موحد وقرار نافذ وقيمة فعلية وينتهي تعطيله ويمارس دوراً في كل ما يقتضي تدخله من قضايا وأزمات..؟! أم يستمر كل ما يهدد بصراعات تتفاقم وتنذر بحروب وكوارث كتلك التي كانت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما تلاهما من صراع بار وساخن، مباشر أو بالوكالة؟! 

إن مصالح معظم دول العالم وشعوبه تقتضي خفض التصعيد، والتعاون البناء على أسس أخلاقية وإنسانية تنشد العدالة وتدعمها، وتحترم استقلال الدول وسيادتها ومصالح الشعوب وحقوقها، وإعلاء شأن الحرية والعدل والحكمة والتوافق والاتفاق بالحوار المسؤول البناء لإيجاد حلول مناسبة للأزمات والمشكلات والضائقات ليتوطد الاستقرار ويستتب الأمن والسلم ويبدأ الإعمار والازدهار في مناطق كثيرة من العالم خربتها الصراعات الدامية والحروب.. وهو ما تستدعيه ضرورات الدولتين والمعسكرين والعالم والأمن والسلم الدوليين، وما تريده الشعوب في كل بلد من البلدان، فالشعوب تريد الأمن والسلم ولا تريد الحروب، فالحروب لا يتمناها أحد سويٌّ، ولا تؤدي إلى سلم بل تعمق الجراح، وتفتح أبواب الثأر والمآسي وتجديد الحروب والكوارث.. 

ومن أسف أن عالمنا أخذ يميل إلى "اللاسُويَّة"، ويزداد فيه نفوذ من تحكمُهم أمراضهم وعنصريتهم وأطماعهم ومصالحهم الضيقة وعدوانيتهم التاريخية، والتحديات والاستفزازات والمكابرة، فيتصرفون بما يمكن أن يندرج في باب الحماقة البالغة، ويلعبون بالنار ويتفرجون على من يحترقون بها، ويعبثون بالدماء والأرواح البشرية، ويستثمرون في الأمراض والمجاعات وفي الحروب والكوارث.


التعليقات (0)