قضايا وآراء

نظام السيسي وجريمة السطو على الوقف الخيري

عصام تليمة
1300x600
1300x600

في الخامس من نيسان (إبريل) 2021م أصدر مجلس الشيوخ المصري قرارا بمنح وزير الأوقاف حق التصرف في الوقف الخيري، رغم اعتراضات بعض الأعضاء على ذلك، وأنه يفقد صناديق الوقف الخيري استقلاليتها، ومن الواضح من القرار أنه إكمال بقية إجراءات السطو على الوقف الإسلامي في مصر، والذي لم يترك الحكم العسكري فرصة لمصادرته، والسطو على ممتلكاته، إلا وقام بها، والأمر مرفوض شرعا ويعد جرما شرعيا.

لأن الوقف في الإسلام مؤسسة مستقلة عن مؤسسات الدولة، أو النظام الحاكم، فهو مؤسسة تتعلق بالأمة والمجتمع، والدولة فقط تنظم قوانين عملها، وفقا للضوابط التي وضعها الشرع للوقف. وأساس الوقف هو خروج الأمة عن سيطرة الحاكم والدولة، وهو تفكير مبكر من الأمة لاستقلال الشأن العام عن سيطرتهما، فالمتأمل للأحكام التي تتعلق بالوقف، يجدها جميعا تحميه بسياج شرعي، من أن يقع خارج دائرة مؤسسات الأمة، بل تبتعد به عن سلطة الحاكم والحكم، ولذا كانت المحاولات المستمرة طوال التاريخ من الحكام المستبدين والاستعمار الغربي للتضييق على الوقف، أو إضعافه.
 
وقد أصل الدكتور إبراهيم البيومي غانم لهذه المسألة في أكثر من كتاب له، للإلحاح والتكرار على فكرة: أن الوقف من مؤسسات الأمة لا الدولة، ودلل على ذلك بالأحكام المتعلقة بالوقف، وهي:

1 ـ من حيث شروط الوقف: فقد احترم الفقه الإسلامي شروط الواقف، واعتبر إرادته فيما يريد في وقفه، ما دام وفق شروط الشرع، فالإرادة الحرة للواقف هي حجر الزاوية في بناء نظام الوقف كله على صعيد الممارسة الواقعية. ولم يكن لهذا النظام أن يظهر وينمو وتتنوع وظائفه دون تلك الإرادة، التي كفلت له أحد عناصر فاعليته؛ ولذلك فقد أضفى عليه االفقهاء صفة الحرمة، وأكسبوها قوة الإلزام. وهو ما عبر عنه الفقهاء بقولهم: (شرط الواقف كنص الشارع).
  
وتشدد الفقهاء في هذا الشرط، احتراما لإرادة الواقف، وتنفيذا لها، ما دامت لا تتعارض مع ثوابت الشرع، وهذا الموقف الفقهي كان واضحا لدى الفقهاء، ولعل نموذجا لفتوى أحد الأئمة الكبار، يدلل على ذلك، فقد سئل الإمام النووي عن مقبرة مسبلة للمسلمين بنى بها إنسان مسجدا، وجعل فيه محرابا، هل يجوز له ذلك؟ وهل يجب هدمها أم لا؟ فأجاب: لا يجوز له ذلك، ويجب هدمها.

 

الأوقاف تصير كالمساجد التي هي بيوت الله، تستعمل ويستفاد منها، ولا يملكها أحد، لا محبسها، ولا بانيها، ولا القيِّم عليها. وهو ما جعل الفقهاء المعاصرين يجعلون للوقف شخصية اعتبارية، أو معنوية، وهذا معناه أن المعني بإدارته مؤسسات الأمة، وليست مؤسسات الدولة أو النظام.

 


ولكن الفقه الإسلامي احترم إرادة الواقف فيما لا يتعارض مع الشرع، وإن نص الفقهاء على قاعدة: (شرط الواقف كنص الشارع)، إلا أنها ظلت دائمة مرتبطة بضوابط الشرع، فوضعوا ضابط: القربة في الوقف، وألا يكون في معصية، فلو اشتمل شرط الواقف على معصية، أو تعطيل فريضة، أو واجب، عندئذ لا ينفذ.
  
2 ـ ولاية الوقف: كما أن ولاية الوقف ليست للسلطة التنفيذية في الدولة، بل إن الولاية على الوقف تكون بالأساس لصاحب الوقف، فهو الواقف والقيم على وقفه، فقد قسم الفقهاء الولاية إلى نوعين:
 
أولا ـ ولاية أصلية، وتثبت هذه الولاية، للواقف، أو للموقوف عليه، أو للقاضي ، على خلاف بين العلماء في ثبوتها.
   
ثانيا ـ ولاية فرعية: وهي التي تثبت بموجب شرط، أو تفويض، أو توكيل، أو إيصاء، أو إقرار ممن يملك ذلك.
  
بل قرر الفقهاء أن الولاية العامة على الأوقاف هي من اختصاص السلطة القضائية وحدها، دون غيرها من سلطات الدولة. وقد كان بقاء نظام الوقف تحت الاختصاص الولائي للسلطة القضائية كان أحد عناصر ضمان استقلاليته واستقراره وفعاليته خلال المراحل التاريخية التي مر بها.
 
3 ـ الشخصية الاعتبارية والمعنوية للوقف: بناء على أحكام فقه الوقف وتفريعاته ـ لدى جميع المذاهب الفقهية ـ فقد أصبح الوقف محلا لاكتساب الحقوق، وتحمل الالتزامات متى انعقد بإرادة صحيحة صادرة من ذي أهلية فيما يملكه، ومتى كان متجها لتحقيق غرض مشروع من أغراض البر والمنافع العامة أو الخاصة. وينطبق ذلك على أعيان الوقف، وعلى المؤسسات والمشروعات التي تنشأ تحقيقا لأغراض الوقف وشروطه.
  
فجمهور الفقهاء يضع الوقف في باب: حق الله، أو ما يطلق عليه: الحق العام، فبعد أن يوقف الواقف وقفه، تنزع عنه ملكيته له، وبخاصة في الأوقاف الخيرية العامة، فلم يعد الواقف مالكا له، بل انتقلت ملكيته للأمة، وصار ملكية عامة.

فجمهور الفقهاء على أنه إذا صح الوقف زال ملك الواقف عن الوقف، قال بذلك: الأحناف، والشافعية، والحنابلة. واستُدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث". وقال الشوكاني: (فالحق أن الوقف من القربات التي لا يجوز نقضها بعد فعلها، لا للواقف ولا لغيره).
  
فالأوقاف تصير كالمساجد التي هي بيوت الله، تستعمل ويستفاد منها، ولا يملكها أحد، لا محبسها، ولا بانيها، ولا القيِّم عليها. وهو ما جعل الفقهاء المعاصرين يجعلون للوقف شخصية اعتبارية، أو معنوية، وهذا معناه أن المعني بإدارته مؤسسات الأمة، وليست مؤسسات الدولة أو النظام.

وليس المقصود باستقلال الوقف عن الدولة، أنه فوق المراقبة والقانون، بل المقصود هنا: كف يد الأنظمة عن هذه المؤسسة، وأن دور الدولة معه: هو التقنين لأوضاعه بما لا يتعارض مع رسالته، ورقابته بمؤسسات الرقابة التي تضمن سيره وفق شروطه ومقاصده الشرعية، لا وفق الأنظمة التي تريد إنهاءه. فهو مؤسسة أمة ومجتمع، وليس مصادما للدولة، ولا للأنظمة.

وهذا ما يتعارض تماما مع ما قرره مجلس الشيوخ المصري، بمنح وزير الأوقاف التصرف في الوقف الخيري، فهو قرار مخالف للتشريع الإسلامي في الوقف، ومخالف لرغبة أصحاب الأوقاف، وما هو إلا استمرار لنفس المنهج الذي بدأه الحكم العسكري منذ عبد الناصر مع الوقف الإسلامي، إذ رأوا فيه مصدرا لاستقلال المؤسسات الدينية والمجتمع.

والآن السيسي يعاني من مشكلات مالية، والأوقاف مصدر مالي كبير ليس له صاحب، ومن قبل أصدرت الأوقاف على عهد وزيرها مختار جمعة قرارات بتمكين مؤسسات عسكرية من الأوقاف، كما أن الأوقاف يديرها فعليا عسكريون، وهو ما أوجد صداما في فترة تولي الدكتور طلعت عفيفي للوزارة في عهد الرئيس الشهيد محمد مرسي، حيث وجدوا كمًّا هائلا من العسكريين في مناصب وإدارات الأوقاف الكبرى.

لقد حاول العسكر على مدار تاريخ حكم مصر السطو على الأوقاف، بدأت بعهد الظاهر بيبرس، ولكن وقف له الإمام النووي بالمرصاد، ثم بدأ ذلك محمد علي باشا، ثم جاء حكم العسكر في تموز (يوليو) 1952م ولا يزال يمارس في كل مراحله السطو والتدمير للوقف في مصر، في تفاصيل تاريخية موثقة ومهمة لا يتسع المقام لذكرها، وقد فصل فيها معظم من تناولوا الوقف في مصر، ومراحله التاريخية.
 
فقرار مجلس الشيوخ ما هو إلا مرحلة جديدة من تخريب الوقف، والسطو عليه لصالح النظام العسكري الحاكم في مصر الآن. والعجيب: أن كل من حكموا مصر، ومن حولهم من رجال السلطة على مدار التاريخ رصدت لهم أوقاف، عدا حكم العسكر منذ 1952م لا يوجد أي وقف لعسكري واحد من أهل الحكم، أو من الدائرة التي تعمل معهم، فهم فقط يصادرون ويسطون على الوقف الإسلامي، ولا يوقفون مليما واحدا!!

[email protected]


التعليقات (0)