مقالات مختارة

لبنان: الفساد هو الدولة!

راجح الخوري
1300x600
1300x600

رغم أنها تعرف جيدا أنها لن تتمكن في نهاية الأمر من استئصال سرطان الفساد السياسي الذي ينخر في لبنان، ويضرب عميقا في آخر مفاصل الدولة اللبنانية، فإن الإدارة الفرنسية تواصل الدفع في اتجاه انتشال هذا البلد من الغرق والدمار، ولكن تحذيرات وزير خارجيتها جان - إيف لودريان المتكررة، جاءت هذه المرة معطوفة على توافق عربي - أوروبي شامل، يدعو إلى تشديد الضغوط على عدد من المسؤولين اللبنانيين، ويحذرهم من عقوبات تشمل تجميد أموالهم، ومنعهم من السفر، بغية دفعهم إلى تشكيل حكومة كفؤة وجاهزة للعمل بمسؤولية وجدية، ولكن هذا لن يؤدي حتما إلى أي نتيجة على ما يبدو.


قبل أيام، قال الرئيس نبيه بري الكلام إياه، الذي سبق أن قاله الرئيس ميشال عون قبل عام ونيف، أي إن لبنان سيغرق مثل سفينة تايتانيك، إذا لم تتألف حكومة جديدة، وسنغرق جميعا بدون استثناء، ولكن ما الهمّ؟ فقبل أشهر قليلة سئل عون: إذا لم تشكّل الحكومة إلى أين نحن ذاهبون، فرد من دون تردد: إلى جهنم!

 

ومنذ ذلك الحين، يبدو لبنان وكأنه يسرع الخطى فعلا إلى جهنم؛ فبعد سبعة أشهر من الجمود والتعقيدات التي أفشلت مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون، بتشكيل "حكومة مهمة" من الاختصاصيين تنتشل البلد من الانهيار، يستمر القتال حول المواصفات والشروط والحصص في هذه الحكومة، وهو أمر يؤكد أن تايتانيك اللبنانية غاصت فعلا إلى القاع، وليس مهما أن يكون القاع جليدا أو نارا جهنمية، ربما لأن المسؤولين الذين يمسكون بدفة الجمهورية، يعملون بوحي من الأسطورة الرومانية التي تتحدث عن أقصى درجات اللعنة، أي إن الموت يبقى واحدا؛ فالجثة قد تتفتت كجليد أو كرماد، لا فرق!


هذه ليست المرة الأولى التي توجه التهديدات إلى المسؤولين اللبنانيين بفرض عقوبات قاسية عليهم، ولكن ما همهم من العقوبات، في حين ينام كثير منهم على المليارات والملايين، وهذه المليارات ليست بالضرورة في خزائن، ولا في مصارف يمكن دفعها إلى تنفيذ العقوبات، وعمليا، لقد قيل الكثير حتى الآن، ولكن ليس هناك مَن يريد أن يستمع أو يتحمل المسؤولية، ففي 20 ديسمبر (كانون الأول) 2019، أي شهرين بعد اندلاع ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، وجهت فرنسا والدول الأوروبية والولايات المتحدة، أعنف إنذار ضد المسؤولين والطبقة السياسية اللبنانية، وسمّتهم "مجموعة من الفاسدين والسارقين"، فماذا كانت النتيجة؟


لا شيء على الإطلاق؛ فالرئيس ميشال عون، الذي وصل إلى بعبدا قارعا طبول محاربة شرسة للفساد، عبر شعارات "الإصلاح والتغيير"، لم يتردد في القول لمجلة "باري ماتش" في أغسطس (آب) الماضي، أي بعد مرور أربعة أعوام على تسلمه المسؤولية والرئاسة الأولى، ومباشرة بعد كارثة انفجار المرفأ، وبالحرف؛ "إن الطبقة السياسية في لبنان هي التي تحمي الفاسدين، لأنها تستفيد من ذلك بطريقة مباشرة".


عظيم، ولكن من هي هذه الطبقة السياسية، ولماذا لم تتم معاقبة فاسد واحد من هذه الطبقة، التي تحمي الفساد خلال كل هذه الأعوام الأربعة، كي لا نتحدث عما سبقها؟ وما معنى أن يسلّم الرئيس عند حدود هذا الاستنتاج الذي قدمه للناس، أي إن السياسيين حماة الفساد، أو بالأحرى أنهم الفساد بعينه، ولكن كيف يمكن للمسؤولين في الدولة ألا يبادروا إلى معالجة هذا السرطان الخطير، عندما يقولون إن السياسة حامية للفساد… غريب؟

 

طبقاً لرأي عون، أن الفساد هو الدولة بعينها، على الأقل لأن السياسيين هم حماة الفساد، أوليس هذا معنى الكلام؟


وها هو حسان دياب رئيس الحكومة التكنوسياسية المستقيلة، التي تطالب اليوم المجلس النيابي بأن يشرح لها ما معنى وحدود دورها ووظيفتها في تصريف الأعمال، وهو ما اعتبره الرئيس نبيه بري "حكي تركي"، يبتلع كل ما سبق أن قاله عن الإنجازات الـ97 في المائة، في ذلك الاحتفال الباهر في القصر الجمهوري، ليقول لنا قبل أشهر؛ "إن الفساد أكبر من الدولة"، ولكن الأصح، طبقا لرأي عون، أن الفساد هو الدولة بعينها، على الأقل لأن السياسيين هم حماة الفساد، أوليس هذا معنى الكلام؟


تكرارا أمام سرطان الفساد الساحق، لسنا ندري ما معنى حديث لودريان قبل يومين عن تشديد الضغوط من أجل تشكيل حكومة جديدة، في حين يتراشق عون والرئيس المكلف سعد الحريري بالرسائل والمواقف والاتهامات، ويصير البحث في تفسير الدستور مثل البحث في تفسير تصريف الأعمال مجرد "حكي تركي" بين عون والحريري؟


لا معنى إطلاقا لكل هذا؛ فقد شبع اللبنانيون تلويحا فرنسيا وأوروبيا وأمريكيا بفرض عقوبات على الفاسدين السياسيين، فماذا كانت النتيجة؟ لا شيء تقريبا، وهو ما يعيدنا تحديدا إلى 20 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2019، عندما أصدر لودريان بيانا كان بمنزلة إنذار مهين إلى أعضاء الطبقة السياسية الحاكمة وغير الحاكمة، اتهمهم فيه بالفاسدين والسارقين الذين نهبوا الأموال من ضرائب الشعبين الفرنسي واللبناني، وبلهجة قاسية وبعيدة حتى عن الدبلوماسية التي يحرص عليها، أصدر بيانا على شكل إنذار إلى الطبقة السياسية اللبنانية جاء فيه: "ما لم تجرِ الإصلاحات بسرعة، وأنه في حال حصلت ثورة شعبية ثانية وقامت السلطة بقمعها، فإن فرنسا مع 54 دولة أوروبية و89 شركة دولية وعالمية، ستقاطع لبنان، وسيتم فرض حظر على مطار بيروت، وفرض عقوبات على لبنان، حتى تسقط الطبقة السياسية اللبنانية الفاسدة الحاكمة وغير الحاكمة ومجموعة الفاسدين".


في اليوم نفسه، وبعد ساعات، صدر بيان مشابه عن وزارة الخارجية في الولايات المتحدة، جاء فيه أن فرنسا والدول الأوروبية والولايات المتحدة و89 شركة عالمية ودولية، تدعو السياسيين اللبنانيين إلى الانخراط في إصلاح سريع للاقتصاد المتهاوي، ومنع السرقة والفساد وتنظيم المؤسسات، ومنع استغلال السلطة للنهب، من قبل الطبقة السياسية الحاكمة وغير الحاكمة، وتكرارا سماهم البيان المهين "مجموعة سارقين وفاسدين نهبوا أموال الشعب، يجب إزاحتهم وجلب الذين سرقوا أموال اللبنانيين إلى محكمة دولية، لاستعادة الأموال المنهوبة"!


في العام الماضي، تلقى لبنان مذكرة فيها مجموعة من أربع نصائح من "صندوق النقد الدولي"، تقول الثالثة منها؛ "إن المطلوب إعادة نظر جذرية من قبل لبنان على كل المستويات، انطلاقا من مسألة أساسية وشديدة الأهمية، تتعلق بتأكيد استقلالية القضاء اللبناني"، ولكن أين التشكيلات القضائية الإصلاحية التي أقرها مجلس القضاء الأعلى؟ إنها تنام منذ عام في درج رئيس الجمهورية الذي لا يوقعها!


وتقول النقطة الرابعة؛ "إن اقتصاد لبنان مكبّل بمجموعة قيود خطيرة؛ مكبل بالسياسة ومكبل بالهدر، ومكبل بالفساد، ومكبل بمجموعة قوانين تحتاج إلى تحديث شامل، ومكبل بالاحتكارات، ومكبل بمنظومة إدارية غير كفؤة"، والخلاصة بسيطة وواضحة؛ هي أن الشعب اللبناني الذي يموت في أعماق التايتانيك أو في جهنم لا فرق، يعرف تماما أن الذين نهبوا البلد ودمروه لن يعمدوا إلى إصلاحه، وأن الطبقة السياسية الفاسدة لن تنبت على أكتافها أجنحة الملائكة، مهما علت التهديدات الدولية والعربية بالعقوبات وغيرها.


يوم الاثنين الماضي، أقر مجلس النواب إعطاء سلفة قيمتها 200 مليون دولار ثمن "فيول" لشركة الكهرباء، لمدة شهر ونصف الشهر، ومن أموال المودعين طبعا؛ لأن الدولة مفلسة ولا ليرة، بعدما أهدرت شركة الكهرباء 44 مليار دولار في عشرة أعوام، كان يمكن أن تنير قارة آسيا، والمؤلم ليس هنا، بل في قول الرئيس بري: "حسنا فعل المجلس النيابي بإعطاء السلفة؛ كي لا يقال إنه أوقع البلاد في العتمة"، ولكن العتمة كانت أصلا نتيجة تغاضي السياسيين عن النهب في الكهرباء وغيرها، وستكون العتمة سريعا، نتيجة السطو على آخر فلس من ودائع الناس في المصارف، وكل هذا ليس خافيا على الوزير لودريان، الذي يهدد بفرض عقوبات على الذين كدّسوا المليارات المنهوبة في بيوتهم، وفي مصارف العالم!


لقد سقط لبنان، مسيو لودريان، ولن يسقط فاسد من هذا الجنس السياسي اللبناني العاطل!

 

 

التعليقات (1)
محمد ماضي
السبت، 03-04-2021 02:35 م
الفساد هو الدستور اللبناني و عقلية شعب ما زالت عقول أفراده تحيا في نوستالحيا و فانتازيا مدمرتين. أضف إلى أسباب الأزمة اللبنانية التي بدأت فعليا سنة 1956 مصيبة كبيرة و هي العروبة و القضية الفلسطينية. الأولى هي سرطان لا علاج له و الثانية هي من دفع فيها لبنان الثمن غالبا و لا حياة لمن تنادي. الحل يكمن في يد الشعب إذا ما اراد الحياة و الكفر بالعروبة و القضية الفلسطينية. لا بد من الرجوع إلى هوية لبنان الأصلية و هي الفينيقية و إلتزام الحياد التام من صراع وهمي أدى بالبلاد إلى نفق مظلم لا خروج منه ابدا. عاش لبنان حرا ابي من دون إحتلال عربي و فارسي و من دون العروبة.