قضايا وآراء

البابا شنودة في ذكراه.. ممرات التاريخ ومسائله المثيرة

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
تسع سنوات مرت هذا الشهر (17 آذار/ مارس 2012م) على تنحي أحد أهم البطاركة الذين جلسوا على كرسى مرقس الرسول، إذا استثنينا بالطبع الأنبا إثناسيوس، البابا العشرين والملقب بحامي الإيمان (293- 373م)، والذي يعد من أساطير التاريخ المسيحي لوقوفه القوي ضد الأريوسية وانحرافاتها وقتها، ووقوفه في وجه الإمبراطور الروماني قسطانطينوس باستقلال الكرازة المرقسية الأرثوذكسية في الاعتقاد.

إنه البابا شنودة الثالث (1923- 2012م) البابا الـ117 في تاريخ الكرازة المرقسية منذ تأسيسها عام 62م، وهو قد جلس على هذا الكرسي 41 سنة (1971- 2012م) بدأت مع بداية حكم الرئيس الأسبق أنور السادات (1916- 1981م) واستمرت حتى عزل مبارك. استمر غبطة البابا الآمر الناهي في الملف القبطي وحيدا أوحد أربعة عقود كاملة، وفي فترة هامة من تاريخ مصر المعاصر.

تقول الحكاية إن البابا شنودة الثالث جاء ومعه تنظيم وملف وأهداف، بعد أن تم التجهيز لذلك بدقة شديدة، وبعد تجربة عام 1953م في فشل عزل الأنبا يوساب البطريرك الـ115 للكرازة المرقسية (1946- 1956م)، والذي كان يسير على نهج سابقيه في الفصل ما بين الزمني والروحي. كانت تلك المحاولة البائسة توقعا لحالة خلخلة تمر بها البلاد بعد عزل الملك فاروق الأول واشتداد صراع السلطة بين الضباط الشبان.

مصر كانت في هذه الفترة تعج بالتنظيمات السرية من كافة التيارات، وكان طبيعيا أن ينخرط الأقباط في هذه التنظيمات بحسب الأفكار التي يحملونها، وقد كان ذلك بالفعل، لكن كان هناك من ينظر إلى تجربة جماعة الإخوان وبنائهم التنظيمي والأفكار، تقطع رأسه جيئة وذهوبا. وسرعان ما تكون تنظيم داخل الكنيسة عُرف باسم "جماعة الأمة القبطية"، والتي كان الشاب الواعد "نظير جيد روفائيل"، والذي سيصبح البابا شنودة الثالث والممتلئ بالمواهب التنظيمية والفكرية والزعامية، أحد نجومها الكبار.

لكن طوفان حركة الضباط الأحرار كان كاسحا إلى حد أنه كاد أن يكتسحهم تماما من داخل وخارج الكنيسة، فهرب من هرب واختفى من اختفى وكمن من كمن في ترقب وانتظار. نظير جيد ومجموعته كانوا ضمن الحالة الأخيرة ودخلوا الأديرة وسلكوا طريق الرهبنة، وقد أدركوا جميعا أنهم بعملهم السابق كانوا قد وضعوا السلم على الحائط الخطأ، وأن عليهم أن يسيطروا على الكرسي البابوى من الداخل لا من الخارج.

لكن الرحلة كان بها ما بها من صراعات الذات والموضوع والنفس والمجموع، إذ تخللت ذلك صعوبات وخصومات مثيرة، كان أشهرها تلك الخصومة بين "أنطونيوس السرياني" (البابا شنودة الثالث فيما بعد) وبين الأب متى المسكين (1919– 2006م) والذي كانت شهرته ومكانته خارج المنافسة. وتطور هذا الصراع إلى حد أن البابا شنودة حاول تسميم بئر المياه التي يشرب منها الأب متّى المسكين ورهبانه بالزرنيخ، على ما حكى الأستاذ كمال غبريال في كتابه المهم "الأقباط والليبرالية". وأضاف أن "غبطة البابا شنودة كان يتدخل مع رهبانه في حياة القرى المحيطة بديره (دير السريان) وقت أن كان راهبا تحت اسم أنطونيوس السرياني، مستخدما العنف بطريقة مفرطة وعنصرية وكأنه قائد كتيبة مقاتلة وليس قائد نسّاك ماتوا عن العالم، ما حدا ببعض مؤرخي الرهبنة الأجانب إلى أن يأبوا إدراجه في عداد آباء الرهبنة القديسين"..

كان الكرسي البابوي هو موضوع الصراع، الأب متّى المسكين صاحب كتاب "حياة الصلوات الأرثوذكسية" لم يكن مشغولا بذلك، لكن أنطونيوس السرياني ورهبانه كان الكرسي البابوي يمثل لهم أهمية قصوى في مشروعهم الواعد، وقد كان.

وكما يقول الشاعر الإنجليزى إليوت (1888- 1965م)، إن للتاريخ ممرات ماكرة ودهاليز محتالة ومسائل مثيرة للجدل.. فقد كان توقيت مجيء البابا الـ117 ليكون هذا الرجل وفي هذا العصر وفي هذا التوقيت بالفعل مثيرا للجدل والاهتمام.. لذلك فإن السؤال التاريخي الغارق في الافتراضية المعكوسة: ماذا كان حال الأقباط والكنيسة القبطية لو لم يكن البطريرك الـ117 هو البابا شنودة الثالث؟

لكن ما حدث هو أنه وفي 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1971م جاء البابا شنودة ورجاله، وهم يحملون داخلهم كما ذكرت أولا؛ مشروعا ضخما بتنظيمه وملفاته وأهدافه، أو إن شئت قل: "زمنيا- سياسيا- طائفيا"، في مخالفة صارخة لما استقرت عليه الكنائس الشرقية في التزامها برسالة النصرانية التي تقوم على خلاص الروح والوقوف عند ما لله، تاركة ما لقيصر لقيصر.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1972م كانت القيادة الجديدة للبلاد تمر بمرحلة حساسة، فما بين الضغوط الداخلية من مظاهرات نتيجة لحالة اللاسلم واللاحرب، وما بين التحضير لحرب أكتوبر، وما بين الصراع الداخلي مع مجموعة ما عرفت بمراكز القوى، اختار البابا الجديد لحظة مواجهته، والإعلان عن الاستراتيجية الجديدة للكنيسة. وكانت أحداث الخانكة الشهيرة، وسيمررها السادات الداهية بهدوء من جانبه؛ إذ كانت وراءه مسؤوليات جسام، لكنه لم ينسها لغبطته، وكان أن عزله في أزمة أيلول/ سبتمبر  1981، ليستقر غبطته في دير الأنبا بيشوى 40 شهرا، ويعود بعدها بقرار من الرئيس الأسبق مبارك في كانون الثاني/ يناير 1985م.

اعتمد غبطة البابا في بسط نفوذه وسيطرته على بناء تنظيم صلب وقوي داخل الكنيسة، واعتمد على القوة التأثيرية النافذة للمال، والذي جاء مع توكيلات ضخمة في سياق الانفتاح الاقتصادي، وذهبت كلها من خلال مكتب البابا إلى أسماء بعينها وعائلات بعينها. وحاز البابا بذلك في يديه السلطة الدينية ممثلة في الإكليروس، والسلطة المدنية ممثلة في المجلس الملي الذي سيطر عليه رجاله من الأثرياء الجدد.. يضاعف من قوة كل ذلك "تنظيم هرمي" محكم ممتد بطول البلاد وعرضها، موصول بـ"تنظيم دولي" أقباط المهجر.. تسير عبره التوصيات والتوجيهات بانسيابية ودقة وولاء كامل (600 كنيسة و120 ديرا موزعة على 60 دولة).

قامت على إثر ذلك علاقة مليئة بالمداهنة والممالأة بين نظام مبارك والبابا شنودة الثالث، وكان ذلك على حساب التماسك الاجتماعي ومصالح الوطن الكبرى. وحين بدأ التمهيد لمشروع التوريث قال غبطة البابا إنه لا يرى في مصر أصلح من جمال مبارك لحكم مصر في المستقبل! وحين قامت ثورة يناير دعا البابا جموع الأقباط إلى عدم المشاركة فيها لأسباب خفية في علاقته بالنظام السابق، ولأسباب معلنة؛ أنه ليس في الأدبيات المسيحية خروج على الحكام!

لقد ترك غبطة البابا شنودة الثالث ميراثا كنسيا هائلا تتداخل فيه الدنيا بالدين، على نحو لم يكن موجودا قبلا في تاريخ الكرازة المرقسية، وبعد تنيحه بتسع سنوات ما زال الضباب والغيوم تلف وتحوم حول الحالة القبطية من داخلها قبل خارجها.

سنتذكر هنا أن السيد المسيح قال في عظته على الجبل: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعينيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. ويكمل: "إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ أليس العشارون أيضا يفعلون ذلك؟". وجاء أيضا في إنجيل يوحنا: "من لا يحب أخاه يبقى في الموت.. كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس.. وأنتم تعلمون أن قاتل النفس ليست له حياة أبدية".. لكن هذا لم يكن مما تركه غبطة البابا للكنيسة وللوطن ولنا.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)

خبر عاجل