مقالات مختارة

مجلة الفكر.. أسسها الاستقلال وقتلها الاستبداد!

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

المجلات الثقافية والأدبية فخر الأمم، وأحيي بهذه المناسبة قطر على استمرار صدور مجلة (الدوحة)، والكويت على تواصل صدور مجلة (العربي)، فهي منارات تعلم منها ملايين شباب العرب، ولكن أم هذه المجلات العربية بعد (الهلال المصرية)، هي مجلة (الفكر) التونسية؛ وهي المجلة الرائدة التي أوقفها نظام الاستبداد والجهلوت يوم انتصابه في تونس في تشرين الثاني/نوفمبر 1987، كأنما شعر أن الفكر عموما يهدد الطغيان.


لم ينس بعض المثقفين التوانسة هذا الشهر مجلة مجاهدة في ذكرى بعثها عام (1956)، هي مجلة (الفكر) التي أسسها وأدارها الوزير المثقف محمد مزالي - رحمة الله عليه - على مدى ثلاثين عاما. وهذه الذكرى نفسها هي أيضا - ويا لبؤس الثقافة - ذكرى موت المجلة سنة 1987، حين وصل زين العابدين إلى السلطة فتوقف إصدارها وإلى الأبد، وكنت أنا صحبة الصديق محمد مزالي في منفانا الباريسي بإرادة الحكام الجدد الذين أبعدونا وقتلوا المجلة، شعرنا في منفانا آنذاك أن صفحة نيرة من الفكر التونسي والعربي طويت بأيدي الذين أعطوا بعد نفينا للثقافة معاني أخرى، اقتصرت على الرقص والغناء ودق الطبول وهز البطون، حتى سمعنا عن الدكتورة فلانة في فنون الرقص والدكتور فلان في النوتة الموسيقية، وقلنا في منفانا إن زمننا نحن انقضى ومضى، ورحم الله امرئ عرف قدر نفسه وانسحب (أو سحبوه) خارج الوطن وخارج ثقافته الجديدة المبشر بها في عهد التحول.


كانت مجلة (الفكر) منارة بشهادة عدد كبير من الباحثين، احتضنت إنتاج الكتاب التوانسة والمغاربيين والعرب، وقامت بأداء رسالة تاريخية، هي تعريف المغاربيين بقضية فلسطين وبالكتّاب المشارقة، وتعريف أشقائنا المشارقة بالفكر المغاربي وبقضية تحرير الجزائر، ولم تكن الجزائر استقلت بعد، بل دشن المجاهدون فيها عهد المقاومة المسلحة المباركة، كما أن تونس والمغرب لم يستكملا بعد مقومات استقلالهما، فكانت (الفكر) رسالة شهرية جريئة في الوطنية والكفاح، إلى جانب دفاعها المستميت عن اللغة العربية وأصالة شعوبنا وأداة التعريف بأمجادنا والتبشير بتحررنا الكامل ثقافيا وحضاريا، رغم تصادمها مع توجهات التغريبة البورقيبية السائدة رسميا.


ثم إن (الفكر) لم تتردد في نشر النصوص الأدبية الأكثر طلائعية وإبداعا، رغم تصادمها مع التوجهات التقليدية السائدة أدبيا؛ فكسرت (الفكر) بعض أصنام القديم الموروث المتداول لتساند نصوص كتاب مجددين، ثبت مع الزمن أنهم يعبرون بصدق عن روح العصر وضمير أمتهم، أمثال: البشير خريف، وعز الدين المدني، والحبيب الزناد، وفضيلة الشابي، والطاهر الهمامي، وفريد غازي، وغيرهم كثيرون ممن لا أستطيع ذكرهم وتعدادهم، وهؤلاء هم آباء الطليعة الأدبية الراهنة التي ما تزال تبدع. ولا بد من القول؛ إننا عندما فتحنا عيوننا نحن جيل ما بعد الاستقلال، أدركنا أن خطر الذوبان في الثقافة الغربية الطاغية يهدد كيان لغتنا وحضارتنا.

 

فوعينا بهذا الخطر المحدق منذ فجر الاستقلال فأسسنا تيارا تأصيليّا ينادي بالتعريب، ويرفض التغريب داخل الحزب الدستوري، إذ لم يكن متاحا تأسيس أحزاب أخرى، وكان زعيم هذا التيار هو المناضل الوطني محمد مزالي - رحمة الله عليه - وقد اجتمعنا حوله في مجلة الفكر التي ظلت تصدر لواحد وثلاثين عاما من 1956 إلى 1987، اغتنمنا شخصية محمد مزالي وهو المولود في مدينة المنستير مسقط رأس بورقيبة، وتاريخه حافل بالإنجازات وخدمة الدولة في عهد بورقيبة بوزارة التربية ثم الدفاع الوطني ثم الصحة، فبادرنا على مدى خمسة أعوام إلى ما سميناه تعريب التعليم، حيث أعلينا من شأن اللغة العربية، وأثرينا برامج التعليم في كل المراحل بعباقرة الإسلام في العلوم والآداب والفنون والفلسفة والسياسة، بينما لم يتعلم جيلنا نحن سوى جون جاك روسو وفولتير وفيكتور هيغو، إمعانا في تغريبنا وتقليص معرفتنا لتاريخنا.

 

وعليه، نشأ جيلنا وهو جاهل تقريبا بكل ما ومن صنع هويته، وأسس حضارته؛ فقد غادر الاستعمار أرضنا وظل مستعبدا أرواحنا ووجداننا، وشاء الله أن يعين محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فبدأت السيوف الاستعمارية الجديدة تشحذ لذبحنا بإعانة أعوان الاستعمار الثقافي والاقتصادي في الداخل، فنالنا ما نال كل صاحب مشروع تحريري من الاضطهاد والملاحقات والمنافي والسجون، غفر الله لمن شردنا وأجهض رسالة التغيير والتأصيل.


وفي الحقيقة حين نقرأ الواقع الراهن في بلادي، نعتقد اعتقاد المؤمنين بأن هذه الرسالة لم تجهض، حيث عادت مشكلة الحضارة تطفو على سطح الخطاب السياسي، وهذه اللحظة التاريخية من حياة الشعوب وصفها محمد عابد الجابري بأنها فرصة التقاء الماضي بالمستقبل، حين نوظف تراكم التجارب القومية لصناعة المستقبل على ضوئها لا بمعزل عنها ولا ضدها وهو الخيار الأخطر، ليس من الأمانة العلمية أن نعلن انفرادنا نحن العرب باستعادة الوعي بقضية الحضارة وملف الهوية، فالعالم من حولنا شرقا وغربا أصبح طارحا لهذه المعضلات الإنسانية، مع اختلاف المنطلقات وتباين الأهداف.

 

فالغرب المنتصر عسكريا وسياسيا، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، طرح قضية الحضارة من زاوية حماية مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية، وضمان مناطق نفوذه السياسي، وتوسيع تأثيره الثقافي أي الحضاري في النهاية، وذلك بالترويج لنظرية تفوق الحضارة الغربية الليبرالية العلمانية على ما سواها، ودعوة الأمم الأخرى للاستسلام الحضاري والتسليم بأن حضارة الغرب هي الأعلى.

 

(عن صحيفة الشرق القطرية)


1
التعليقات (1)
احمد الفراتي
الجمعة، 19-03-2021 02:13 م
سي محمد مزالي - رحمة الله عليه الف رحمة ورحمة. وقف ضد الاختراق الثقافي وليس ضد تعلم اللغات ، وقف ضد التبعية الاقتصادية ، ضاعف ميزانية الزراعة ، وجلب المستثمرين العرب. ومع ذلك ، فإن النخبة المفرنسة والمافيا المحيطة ببورقيبة وقفت ضده. نفس النخبةركب ظهرهم بن علي ومجدوا احتلال صدام للكويت ، حيث كانت الكويت المستثمر الرئيسي والداعم والمعجب بتونس ، وقف مزالي بنفسه ضد تشويه سمعة الكويت وتمجيد صدام. لسوء الحظ ، هذه النخبة هي نفسها المكونة من اليساريين والعلمانيين والحداثيين والقوميين لا تزال تلعب نفس اللعبة ، هذه المرة ضد قطر الداعم الاول و الصامد لتونس و ثورتها. احمد الفراتي