مقالات مختارة

ماذا بقي من روح الحَراك؟

عبد الحميد عثماني
1300x600
1300x600

نسترجع اليوم ذكرى الهبَّة الشعبية المباركة، بعد عامين من الإطاحة بعصابة جثمت على صدر الوطن، وتصرفت في خيراته ومؤسساته كملكيّة خاصّة، ليستحضر الجزائريون بفخر كبير منجزهم الحضاري، ويحدوهم التطلع الجامح إلى مراكمة مكاسب 22 فبراير2019.

ندرك تماما أن التغيير النهائي عمليةٌ ثقافية سياسية اجتماعية نضالية مركّبة ومعقدة، في سياق وطني محكوم بخصوصيات تاريخية حساسة، ونطاق دولي يتعامل مع ثورات الشعوب وفق منطق الربح والخسارة، بعيدا عن المبادئ المثلى والشعارات الرنانة، لذلك سنتجاوز الجدل حول ما حققه حراك الجزائر في مستوى الانتقال الديمقراطي، لإيماننا العميق بأنّ الطريق نحو الهدف طويلة ومحفوفة بالمكاره، لكن إرادة الخيّرين ستنتصر في نهاية المعركة، حين تتوفر لها شروطُ التفوُّق السياسي وفق نواميس التدافع الاجتماعي.


غير أنّ ما يجب الوقوف عنده في ذكرى الحراك هو ضرورة تفعيل المكاسب المعنوية وإحياء الرمزيات التي جمعت الجزائريين طيلة أشهر من التظاهر، وفي مقدمتها تلك الروح الجمعيّة المتوثبة نحو التغيير، لإنقاذ بلادهم بعد عقود من الإحباط والانسحاب شبه الجماعي من الانخراط في العمل لصالح الشأن العام، لأسباب كثيرة ليس مجال التفصيل فيها الآن.


إنّ استعادة المبادرة الشعبية في مواجهة التسلط واحتكار الحكم كان أكبر مكسب سياسي حققه الجزائريون من خروجهم في 22 فبراير2019، وينبغي البناءُ عليه اليوم في تجسيد مشروع الإصلاح، بانخراط القوى الحيّة المؤمنة بالتغيير في كل الورشات والفضاءات والاستحقاقات، وعدم الانهزام أمام سلوكات الإقصاء أو الاستجابة لخطابات التثبيط، لأنّ ذلك سيفتح المجال لفائدة الانتهازيين الجدد وتمكين لصوص الثورات من التفاوض السرّي لتنفيذ أجنداتهم الضيقة.


ليس مقبولا أبدا أن يستريح المخلصون في منتصف الطريق، لا بداعي الاطمئنان للواقع ولا قنوطا منه، وستكون هذه السنوات للفرز والتمحيص، لأنّ الطموح نحو التغيير ليس مجرد موجة تُركب ضمن التيار الشعبي العارم ثم ما تلبث أن تنطفئ شعلتُها بمغادرة الجماهير، بل هو رؤية بعيدة المدى ومشروع متكامل الأبعاد وإستراتيجية عمل محكمة التخطيط، لمن رام بلوغ الهدف الأسمى.


لذا، فإنّ تهيكل رواد الحَراك من النخب الشبابية على وجه الخصوص في الأحزاب والجمعيات الفاعلة أو حتى الشبكات الافتراضيّة من لوازم الحفاظ على روح 22 فبراير، لمواصلة المسار الانتقالي نحو الإصلاح الكامل، حتى لا تضيع الجهود سُدى في مهبّ التشتّت والبطولات الفرديّة الواهية.


لقد شكّل حراك 2019 لحظة استثنائية لإجماع الجزائريين حول نهاية الوصاية السلطوية واسترجاع الشعب لسيادة القرار كمصدر وحيد للشرعيّة، فكانت قيمُ الحرية والكرامة هي عنوان الوحدة والتآزر المبهر، دون تمييز سياسي ولا إيديولوجي ولا عرقي ولا جهوي، بعيدا عن كل نزعة نحو المطالب الفئويّة واللافتات المشبوهة.


إنّ أداء أمانة الحَراك التي أودعها الشعب في رقاب النخب توجب العودة مجددا إلى العناوين الجامعة وتجاوز الرؤى الحزبيّة والأجندات الخاصّة، لأنها عمادُ وجوده، وسرّ قوته وصلابته، وما ترهّل إلا حين نجحت أطرافٌ عديدة في بث الفرقة بين أطيافه، باللعب على وتر الأيديولوجيات والطوائف، بعد أن وجدت في تصرفات خاطئة فرصة لإثارة الخوف من “الآخر”، بينما انطلق الجزائريون يوم 22 فبراير مثل البنيان المرصوص في صورة “الأنا الواحد”!

أمّا الوطنيون في مواقع القرار، فإنَّ مسؤوليتهم جسيمة في صيانة مكتسبات الحَراك الشعبي الذي تحول إلى قلب الديباجة الدستورية، ولم يعد التعاطي مع مطالبه مجرّد موقف سياسي أو أخلاقي.
لقد تعاملوا بحكمة وصدق مع أشواق الشعب الجزائري يوم انتفض انتصارا لشرفه المهدور، فصنعوا مع بعض تلاحما وطنيّا تكسّرت على جداره مؤامرات حيكت لتأزيم الشارع، بهدف تحصين المراكز غير الدستوريّة.


وصار المطلوب اليوم، خاصة في ظل تطورات المشهد الإقليمي، هو تقوية تلك اللحمة الشعبية المؤسساتية، من خلال استكمال تجسيد مشروع الإصلاح الفعلي، وعلى رأسه إرجاع الكلمة للشعب في اختيار ممثليه بمناسبة الموعد الانتخابي المقبل، وتحرير الفضاء العامّ ضمن قوانين الجمهورية، مع مواصلة الحرب النزيهة على رؤوس الفساد، لتطهير القطاع الاقتصادي وفتح الآفاق أمام المنافسة الشريفة…


لن تكون الانتخابات المنتظَرة ولا الهيئة التشريعية القادمة ولا الحكومة الجديدة ذات قيمة سياسية، ولا أثر بِنائي في الواقع، إلاّ إذا جاءت معبِّرة عن الإرادة الشعبيّة الحرّة، لأنها ضمانة الرقابة الفعلية على أعمال السلطة التنفيذية، ومن دون ذلك لن ينفع تحويرُ الأشخاص في شيء، سوى التداول على الترقية الاجتماعية.

(الشروق الجزائرية)

0
التعليقات (0)