مقالات مختارة

ماذا فعلت اللغة العربية بهذا الرجل؟

أسعد طه
1300x600
1300x600

نشأ بطل قصتنا في بيئة ريفيّة قلّ أن تجد فيها من يجيد القراءة، لكن والده كان حريصا على تعليمه وإخوته كلّ الحرص، فقد لاحظ تفوقه منذ صغره، فخصّه بالرعاية والاهتمام، وبفضله قرأ وهو في العاشرة من عمره لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وطه حسين ويحيى حقّي وغيرهم، وبلغ من عشقه القراءة أنه كان يسافر من قريته في قلب ريف دمياط إلى أقرب مدينة لشراء الجرائد يوميا، قاطعا ساعتين ذهابا وإيابا.


كان والده يدّخره للالتحاق بالأزهر الشريف، فاكتفى بإرساله إلى الكتّاب على أمل أن يلتحق بالأزهر في المرحلة الإعدادية مباشرة كما جرت العادة، لكن قلب الفتى كان معلّقا بالمدرسة،

 

يقول: "كان قلبي يتمزّق عندما أرى زملاء الطفولة يتّجهون إلى المدرسة يوميا، أما أنا فأتجه إلى الكتّاب، كنت أنظر إلى المدرسة على أنها جنّة سحريّة أسطوريّة حرمت منها".

 

ظلّ 3 سنوات يلحّ على أبيه أن يتخلّى عن حلم الأزهر، ويوافق على التحاقه بالمدرسة كأصدقائه، فكان له ما أراد، والتحق بالصف الثالث مباشرة وهو في الـ9 من عمره، لكنّ وزارة التعليم اشترطت خضوعه لاختبار يثبت أهليته للالتحاق بالصف الثالث، فأجاب عن كل أسئلتهم في ثوان وأثار انبهار لجنة الامتحان.

في هذه السن المبكرة، وفي هذه المرحلة بالذات، وقع قلب الفتى في حب من أول نظرة مع "النحو"، لقد كان طالبا متفوقا في جميع المواد، لكنه تميز بصورة خاصة في اللغة العربية والنحو تحديدا.

 

وفي أحد الأيام - إبّان عمله بالتدريس- فوجئ الرجل بزميلة في المدرسة التي يعمل بها تستنجد به قائلة "(الحقني) ابني منذ درّسته النحو وهو لا يفتح أي مادة أخرى، وهو شديد الضعف في اللغة الإنجليزية، لكنه يرفض أن يذاكر إلا النحو"، ولأن مستوى الأستاذ جيد في اللغة الإنجليزية كذلك، فقد تطوع بمساعدة ابنها، وبدأ يتردّد على منزله ليشرح له اللغة الإنجليزية نصف ساعة يوميا.

 

وبعد أيام عدّة، فوجئ بالزميلة نفسها تستنجد به مجددا "(الحقني) ابني منذ بدأت تشرح له اللغة الإنجليزية وهو لا يفتح أي مادة أخرى"، فاستقر في يقين الرجل أن السبب الوحيد لكراهية الطلاب النحو ونفورهم منه هو طريقة التدريس، فإذا أحب الطالب المادة تفوق فيها.

قرّر صاحبنا تبنّي رسالة (تيسير النحو على المتعلمين) وتفريغ حياته لهذه المهمة، مستغلا في ذلك ما عرف عنه من مهارة في تحبيب هذه المادة إلى الطلاب.

وأول ما خطر بباله وقتئذ، أن يبدأ بإنشاء موقع متخصص في النحو، فكان موقع (نحو دوت كوم) الذي بدأ عام 2005 كفكرة، ثم انبثقت عنها عشرات الإصدارات والتطبيقات والبرمجيّات التي عمل الرجل على إنجازها جميعا بجهوده الخاصة.

يقول: "كل إصدار استغرق مني سنوات لإعداده وبلورته وتجهيز مادته العلمية كاملة، ثم مراجعته، ثم التواصل لعشرات الساعات مع المبرمجين، ثم إدخال التعديلات والإضافات حتى يخرج التطبيق في صورته النهائية".

 

يحلّ عام 2011، ليتوقف الماضي في حياة الرجل، ويبدأ حاضر من الألم الممتد وإحساس الخذلان، يصاب بقرحة وريدية مزمنة في الساق، وبسبب المرض يتحول إلى شخص عاجز يعاني آلاما مروّعة ليلا ونهارا، لا يخرج من منزله إلا نادرا، لصعوبة حركته من ناحية، وبسبب المعاناة التي يقضيها إنسان مثله في التنقل بين وسائل المواصلات العامة.

يُحال إلى التقاعد الإجباري من العمل بالتدريس بداعي العجز الطبي، فيصبح في ضائقة مالية شديدة تضطره إلى الاقتراض مرارا، بل يلجأ أحيانا إلى تأجيل العلاج لتلبية احتياجات أسرته، ويصبح في سباق محموم مع الزمن لإنجاز أكثر ما يمكن من مشروعات ومبادرات لتيسير النحو، تلك التي لا يكلّ ولا يملّ من إطلاقها.

ينام 5 ساعات على الأكثر، وهي أقصى مدة تمنحه إياها الحقنة المسكّنة التي لا ينام من دونها منذ 4 سنوات، ثم يمضي بضع ساعات أخرى في أعمال إضافية من أجل مصدر آخر للدخل بجوار معاشه الهزيل، مثل التدقيق اللغوي، أو إعطاء بعض دروس النحو في منزله، ومن ثمّ يقضي 15 ساعة على الأقل في العمل على مواقعه وإصداراته، تمضي الساعات وهو جالس على مكتبه يعمل ولا يتوقف إلا للصلاة جالسا وتناول الطعام.

الرجل لا يتوقف عن العطاء حتى في أحلك لحظاته، يدفعه شغفه دفعا إلى إنجاز ما يمكن إنجازه، تتملك أحلامه اللغةُ العربية، وعندما كان يعمل على تطبيق جديد للإملاء، كان التفكير في التطبيق يسيطر على عقله، لدرجة أنه حتى في اللحظات التي كان يغفو فيها، فإن كل أحلامه كانت تدور حول هذا التطبيق وإمكانية تطويره.


وعندما يحين موعد استيقاظه وقبل أن تضع ابنته الحذاء في قدمه عند نزوله من السرير، إذ لا يقوى على ارتدائه بنفسه، كان يطلب منها ورقة وقلما بسرعة، ليخط ما خطر بباله طوال الليل من أفكار قبل أن ينساها.

يعتمد الرجل في تمويل التطبيقات والمبادرات المختلفة على الاستدانة أو دعم المهتمّين بالنحو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويمر في سبيل ذلك بمحنة مادية قاسية عليه وعلى أسرته التي تضمّ زوجته و4 أبناء، لكن هذه المعاناة اليومية ليست ما يشغل باله، فقد يئس من توفير تكاليف العلاج، أو حتى تأمين حياة كريمة لأولاده، كما تعوّد العمل تحت وطأة آلام المرض المبرحة منذ سنوات، وإنما يشغله مصير تجربته.

يقول: "أنا في الحقيقة كمن يسير على الحبل، وسيقع في أي لحظة، وكذلك تلك المواقع ستتوقف في أي لحظة، وستندثر تجربتي المتفرّدة ويطويها النسيان، سيموت كل شيء بموتي".

أتفحص المواقع التي عمل عليها لسنوات، وأهمها موقع النحو الذي يقدم مقاطع مصورة تعليمية وكتبا مجانية ومسابقات وألعابا وشروحا في النحو، هو وغيره مهدد بالتوقف، فقد كان أحد المسهمين يتبرع بالتكلفة السنوية لاستضافة المواقع وتجديد الـdomain، لكن ظروفه لن تمكّنه من الإسهام مجددا، مما يجعل استمرار هذه المواقع في مهبّ الريح، ما لم يعثر على مموّل آخر.

أدرك أن مشكلاته لا تتوقف عند هذا الحد، فبعد أن أنهى العمل على لعبة نحوية جديدة لنظام الأندرويد، لم يستطع الوفاء بمستحقات المبرمج، وأصبحت اللعبة رهينة حتى يتسلّم المبرمج كامل أجره، أما تطبيق الإملاء الذي حرمه النوم أياما، فما زال يدين بجزء من تكاليفه للمبرمج الذي قام بتطويره.

وهذا هو حاله منذ سنوات، يعمل بحماسة على إصدار معين، وعندما يبلغ خطوة تسلّم العمل ونشره ودفع مستحقّات المبرمجين "يبدأ كابوس اليأس" كما يقول، حينئذ يعلن على مواقع التواصل الاجتماعي حاجته إلى مموّل لإصدار تطبيق معين، يعيد النشر مرات ومرات، أحيانا يجد مموّلا أو من يسهم بجزء، وغالبا لا يجد إلا خيبة الأمل.

هل تعرفون ماذا أفعل الآن؟ أعيد ترتيب ذاكرتي وتنظيفها، أمحو منها كل أصحاب الطاقات السلبية، كل الشكّائين، كل المتشائمين، وأثبت فيها هؤلاء البسطاء ذوي المبادرات الإيجابية، الذين يصرّون على الإنجاز مهما كانت الظروف، الذين يضيفون إلى رصيدهم كل يوم عملا جديدا، حتى وإن كان بسيطا، افعلوا مثلي واحفظوا أسماءهم، ومنهم هذا الرجل "يسري السلال".

 

(عن الجزيرة نت القطرية)

التعليقات (0)