كتب

الفقه الإمامي ومدارسه.. النشأة والأصول والمفاهيم (1من2)

كتاب يعرض لأصول ومدارس الفقه الإمامي في المدرسة الشيعية- (عربي21)
كتاب يعرض لأصول ومدارس الفقه الإمامي في المدرسة الشيعية- (عربي21)

الكتاب: "نشأة الفقه الإمامي ومدارسه" 
الكاتب: جعفر المهاجر
دار النشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت 2017 
عدد الصفحات:  466 صفحة

1 ـ الكتاب وسياقه

يعرَّف الفقه بكونه الأحكام التشريعيّة المستمدّة من القرآن الكريم والحديث النبوي ويفرّع إلى فقه العبادات وفقه المعاملات. لا اختلاف ذا شأن في ذلك بين مختلف المراجع. ولكن موطن الاختلاف الكبير بين مذهب وآخر يكمن في جوهر هذه الأحكام نفسها وفي ما يمكن أن نصادق عليه باعتباره حديثا صحيحا. 

وها هو محمد جعفر المهاجر العاملي، عالم الدين الشيعي والباحث والمحقق الأكاديمي، يأخذ على عاتقه أن يحكي لنا "القصة الرائعة لحركة الفكر الإمامي، انطلاقا من الشريعة باتجاه الفقه" وفق ما جاء في الصفحات الأولى من أثره. 

وجدير بالتذكير هنا أن مصادر التشريع تختلف بين المذاهب الشيعية والمذاهب السنية اختلافا بيّنا. فقد صنف السنة الأدلة إلى أدلة شرعية أصلية، يرد القرآن على رأسها وترد السنة في المقام الثاني أما الإجماع، وهو  مبدأ نظري أكثر مما هو حقيقة علمية تاريخية فيرد في المرتبة الثالثة. ومثل القياس الدليل الشرعي الأصليّ الرابع وفُهم على معنى "إثبات حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في علة الحكم" وأدلة شرعية تكميلية أو تبعية كالمصالح المرسلة وأقوال الصحابة والاستحسان وشرع من قبلنا وسد الذرائع والاستصحاب والعرف.
 
أما مصادر التشريع عند الأصولية الشيعية الإمامية فهي أربعة أولها القرآن باعتباره دستورا إلهيا خالدا  وثانيها السنة المأثورة عن الرسول عن طريق أهل بيته أو العترة الطاهرة دون غيرهم، وثالثها الإجماع والمراد منه إجماع الشيعة الامامية ، خاصة ورابعها العقل ويريدون منه الإدراكات القطعية العقلية التي لا يتردد فيها و لا يشك في صحتها. 

وعلى خلاف الأصوليين السنة رفضت الشيعة القياس والاستحسان وسدّ الذرائع لأنّ دليلا لم يقم على حجيتها وفق تصورهم. وعمليّا ارتكز اعتمادهم القرآن والروايات والأحاديث الواردة في "الكافي" للشيخ الكليني و"تهذيب الأحكام" و"الاستبصار" للطوسي. و"من لا يحضره الفقيه " للشيخ الصدوق خاصّة.
 
وعلى خلاف الفرقة الزيدية التي لا تشترط أن يكون الإمام من البيت أو الإسماعيلية التي اختارت، بعد وفاة الإمام جعفر (765 ه) أن تتبع ابنه إسماعيل لا الإمام موسى الكاظم، يرى الشيعة الإمامية أنّ عليّا هو الأحق في وراثة الخلافة وأنها، نقصد الخلافة، من حق أهل البيت من بعده. وأهل البيت في هذا الاعتقاد هم علي وزوجته فاطمة وأحد عشر إماما من أبنائهم. 

وهذا التمييز مهم فعندهم أن الله انتخبهم وأنهم وحدهم يعلمون كل الحديث ناسخه ومنسوخه، على خلاف الصحابة الذين لا يعرفون منه إلا القليل لبعدهم من الرسول و"لافتقار بعضهم للعدالة" ويستثنون منهم من أقروا بولاية علي مثل أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر.. وسموا بالإمامية لأنهم جعلوا من الإمامة القضية الأساسية التي تشغلهم وتوجّه فكرهم. ويعدّهم الباحثون في المذاهب الإسلامية الطرف المقابل لأهل السنة والجماعة في فكرهم وآرائهم المتميزة. 

وعملت الإمامية على نشر مذهبها في مختلف أرجاء العالم الإسلامي فنشأت مدارس فقهية متعددة مختلفة من جهة التصورات والمناهج وارتبطت أساسا بمدن العراق وإيران ولبنان خاصّة، كمدرسة قم والري والكوفة وبغداد والنجف والحلة وجبل عامل وجزين وأصفهان وكربلاء وقم المعاصرة. والكتاب محاولة من الباحث جعفر المهاجر للتأريخ لهذا الفقه وإبراز ظروف نشأته من منطلق اعتقادي بعينه.

2 ـ الكتاب ومفاتيحه

جعل هذا الاتفاقُ في تعريف الفقه والاختلافُ في دقائقه ومصادر تشريعه المسلمين يستعملون المصطلحات نفسها ولكن بمفاهيم مختلفة حينا متباعدة أو متقابلة حينا آخر. لذلك بنى الكاتب خطته على تحديد المصطلحات المركزية في هذا الأثر وضبط مفاهيمها في المراجع الشيعية الإمامية. ثم انصرف في باقي الأثر إلى عرض تطور الفقه في المدارس الإمامية الرئيسية منطلقا من الكوفة فقم فبغداد فالحلة، متتبعا التطور التاريخي لهذا الفقه. وتتمثل هذه المصطلحات في الشريعة والسنة والحديث والفقه.

أ ـ الشريعة
 
يعرّفها بكونها مجملَ الأحكام المُنزلة على النبي. ورغم وسمها بالإطلاق والثبات، يعرضُ حالات يمكن أن تتغير فيها الأحكام. فلما كانت الحياة متحركة متطورة باستمرار، يحدث أن يطرأ تبدل ينال موضوع هذه الأحكام يُوجب تبدّل الحكم نفسه. ويضرب على ذلك مثلا. فآية القوامة الواردة في الآية 34 من سورة النساء ونصها "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ " تعتبر الرجالَ قوامين على النساء في القرآن وفق حكم مشروط بتفرد الرجل بالإنفاق. أما وقد تغيّر السياق الحضاري والموضوعي اليوم واقتحمت المرأة مجال العمل وأضحت تسهم في دخل الأسرة، فقد طرأ تبدّل طال موضوع الحكم ممّا يجعله محل نظر. ويرد ذلك إلى أنّ التشريع القرآني إلهي، عابر لحاضر التنزيل زمن الرسالة المحمدية، ناظر إلى المستقبل وما قد يحمله من صيغ مختلفة عن تلك التي كانت زمن التنزيل. وهكذا تكون الشريعة ثابتة ومطلقة ولكنّ أحكامها تظل متغيرة مرنة.
 
ويحاور هذا الفهم للشريعة ضمنا التصور السني فيشير إلى أنّ إطلاق صفة الشريعة على كل ما كتب في الأحكام الفقهية من الأوامر والنواهي والحلال والحرام أمر يفتقر إلى الدقة لأن أكثرها ناتج عن اجتهاد بشري مفتقر للقطعية.
 
ب ـ السنة

تتمثل في الاستعمال الرسالي ويريد به ما جاء على لسان النبي وجرى على لسان صحبه  وما أعلنه إعلانا عاما على سبيل القصد وعمل به عامة المسلمين. وحتى يأمن الشيعة الأمامية من خطر حدوث تحريف على هذا الاستعمال الرسالي اشترطوا في الحديث أن يكون معلوما عند كافة المسلمين ومعمولا به عند عامتهم لا اختلاف فيه بينهم. ويجد أن المقابل للسنة هو البدعة في مستوى دلالي أول، وهو الفرض في مستوى دلالي ثان، وقد ظهر بعد التطور الألسني للمصطلح. 

ولكن ما يميّز الفقه الإمامي خاصة اعتبار الأحاديث النبوية بابا من أبواب العلم بالدين تراخى الخلفاء في ضبطه ومنعوا تدوينه بعد موت الرسول. "فقالوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه". وهذا ما أفضى في تقديره إلى تجهيل المسلمين بالسنة الحقيقية تحت شعار الخشية من ترك القرآن. ويرد ذلك إلى حرصهم، لعوامل أساسية، على الفصل بين المسلمين وما تركه الرسول وعملهم على إغراق العقل والوجدان بالولاء لمشروع سلطوي مهيمن. ثم أضحت هذه الممارسة وسيلة ثبّت بها القريشيون أولا ثم الأمويون ثانيا سلطة سياسية استعادت بها قريش مكانتها التي خسرتها بظهور الإسلام. 

 

مصادر التشريع عند الأصولية الشيعية الإمامية فهي أربعة أولها القرآن باعتباره دستورا إلهيا خالدا وثانيها السنة المأثورة عن الرسول عن طريق أهل بيته أو العترة الطاهرة دون غيرهم، وثالثها الإجماع والمراد منه إجماع الشيعة الامامية ، خاصة ورابعها العقل ويريدون منه الإدراكات القطعية العقلية

 



وليعضد تصوره هذا بالحجة ينطلق من فكرتي التوكل والصبر. فيجد أنهما فكرتان أصيلتان في الفكر والأخلاق ولكنهما لا يتنافيان مع السعي إلى العمل والإصلاح. ولكن معاوية عطل السعي البشري والسياسي وأغرى بالقعود في الملمات وانتظار الفرج من عند الله. وأشاع منع الخروج عن الجماعة واعتبار ميتة الخارج عنهم ميتة جاهلية. وكان ذلك كله توظيفا للسنة لخدمة الحاكم الأموي والسني عامة. 

ويخلص إلى أن التاريخ الإسلامي الرسمي أحدث تحويلا للسنة عن معناها الأصيل لتشمل كل ما بدأ بـ "قال رسول الله" للاستفادة من قوة كلمة السنة لغايات سياسية أساسا. ويعمل من خلال هذا التمشي إلى الدفاع عن فكرة تخطيط معاوية لإقصاء أهل البيت من الحكم. وضمن هذا الأفق ينسب إليه، وإلى رجال الدين الدائرين في فلكه اجتراح اصطلاحين سياسيين. فقد أشير إلى من ساروا على نهجه بـ"ـأهل السنة". أما الذين أبوا نهجه ورفضوه فاعتبروا من "الرافضة". وهو مصطلح تهجيني.

ت ـ الحديث 

يخرج بالمصطلح على معهود الاستعمال في المرجعيات السنية، كما فعل مع الشريعة والسنة. فيذكر أن المسلمين كانوا يُجمعون حول مفهوم الحديث ويعتبرون أن كل ما أتاهم عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، ينطوي على حكم بحسب منطوقه أو مؤداه. ولأسباب سياسية وقع الانحراف في المعنى لاحقا. فقد أقرّ الرسول لأحقية علي بالخلافة وفق "ما أعلنه إعلانا مقصودا مدبرا بحيث يصل علمه إلى كل مسلم بالمباشرة أو بالوساطة" كان ذلك يوم الغدير عندما قال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه" تأكيدا لموقف سابق حين قال "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا بعدي". فجعل أهل البيت عدلا للكتاب وهو ما يعني أن الانحراف عنهم إلى مفهوم السنة الذي يعني عدالة الصحابة أجمعين ضلال معادل للانحراف عن الكتاب. ومعلوم أن عديد المصادر السنية تذكر حديث الغدير مثل مسند أحمد بن حنبل، وسنن ابن ماجة وسنن الترمذي، والنسائي ولكنها تختلف في تأويلها لتلك الحادثة عن تأويل الشيعة.

ث ـ الفقه

يُعرِّف جعفر المهاجر الفقه من زاويتين، من زاوية المادة التي يجب أن تبلّغ أو الأحكام ما تعلّق منها بالعبادات أو المعاملات ومن زاوية مُبلّغ هذه المادة ويعني المتفقهين في الدين كما تحددهم الآية  122 من سورة التوبة ونصها (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). فلابد لهم من الخضوع للإعداد الدقيق. ومن لم يصل إلى درجة التفقه "ليس له أن يتلبّس هذه الصفة". 

ويصادر الباحث على أنّ السلطات الدينية والسياسية، بعد موت الرسول، منعت [من تفقهوا بالنقل عليه] من أن يواصلوا المهمة، ويريد ترعة الرسول وآل بيته. ويقدر أن المسلمين انفصلوا بذلك عن المصدر الأساسي للتفقه فسادت الفوضى. ولتسدّ هذه الثغرة، عمدت السلطة الدينية والسياسية إلى القول بأنّ الصحابة جميعهم مجتهدون بالفعل لا بالقوة. فاستوى عندهم الذين يعلمون والذين لا يعلمون لذلك فـ"ـالمتأمل البصير ببعض اجتهادات تلك الفترة يرى فيها تأثير الرواسب الجاهلية واضحا وجليّا، وذلك على كل حال من طبيعة البشر".
 
ولا يستثني الشيعة من الوقوع في فوضى التفقه، حتى نشأ عمل تطوري يصنف الأحاديث ويبوبها بحسب موضوعاتها ويستنبط الأحكام بظهور الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ثم ابنه الصادق. وانطلاقا من هذا العمل وبناء عليه سيكتسب الفقه هويته وسيستند إلى الحديث المُجتنى من أفواه ترعة الرسول دون غيرهم وسيعرف بأنه "نصّ بشري خاضع في صدوره وثباته لتطور البحث الفقهي، ولتغيّر بيئة الحكم، وقد يتبدّل وفقا لمنظور الفقيه واجتهاده، أي أنه بالنتيجة الوجه الآخر للشريعة، التي لا تتبدّل إلا بتبدّل ينال موضوعها".
 
3 ـ ظلال نظرية الإمامة على المادة الفقهية

من المهم جدا إذن لقارئ المدونات الفقهية الإسلامية عامة أن يكون على بيّنة من الاختلافات الدقيقة بين هذه المفاهيم الرئيسية التي تستند إليها المذاهب المختلفة وأن يرد المصطلحات إلى مرجعياتها حتى ينتهي إلى تنزيلها ضمن تصورتها للوجود وللعالم والعابد ويقع على المعنى المقصود من ورائها.

ولعلّ الاختلاف الأبرز بتمثل في دور العالم وفي هويته أيضا. فالفقه السني يؤكد أهمية الاجتهاد. ويمنح المجتهد، على المستوى النظري على الأقل، دورا مركزيا في التشريع الإسلامي ويسن تشريعاته في ضوء الانسجام مع ما يراه مقاصد للشريعة. أما الفقه الإمامي فيجعل من قضيّة الإمامة المحدد لكل اتجاهات الدين ومبادئه وأحكامه. 

ويعتقد أن الحديث مصدر من مصادر العقيدة الإسلامية وأصل من أصول الشريعة المُحمَّدية ويجد في إِهماله إهمالا للدين ومبادئه. ولأنهم ينطلقون من مصادرة مدارها على أنّ ترعة الرسول كانوا الأقرب إلى منابع العلم الصحيحة وأعلم بجوهر الدين وأن البعض من صحابة الرسول تواطأ لحرمان علي من حقه المشروع في الخلافة قصروا الحديث ـ ومبادئ الدين بالنتيجة ـ على ما جاء في المدونة الشيعية وأقصوا كلّ ما لم يوافقها. 

 

الفقه السني يؤكد أهمية الاجتهاد. ويمنح المجتهد، على المستوى النظري على الأقل، دورا مركزيا في التشريع الإسلامي ويسن تشريعاته في ضوء الانسجام مع ما يراه مقاصد للشريعة. أما الفقه الإمامي فيجعل من قضيّة الإمامة المحدد لكل اتجاهات الدين ومبادئه وأحكامه.

 



ويصادرون على أن الأمر ازداد فداحة مع الأمويين. فقد زوروا الحديث النبوي. فعبد الملك بن مروان، على سبيل المثال، استخدمه لتثبيت حكمه فقد كان يعقد الجلسات شبه اليومية هو وابن شهاب القرشي الزهري وكاتب له. فلتكييف عقول المسلمين وفق مقتضيات سياساتهم كان يحدد حاجاته ويملي البيانات وكان الزهري يصوغها على أنها حديث نبوي. ثم ينشره الرواة في الأصقاع بتلك الصفة. 

لقد سبق أن أشرنا إلى أن الشيعة الإمامية جعلوا من قضية الإمامة جوهر تفكيرهم في مختلف القضايا، لذلك يتقاطع السياسي والفقهي في منجزهم ويعسر الفصل بينه فصلا صارما. وسيكون هذا التداخل العنصر المميز للمدارس الإمامية والمحفز لها أيضا وهذا ما سنجعله مادة حلقتنا الثانية من تقديم هذا الكتاب.


التعليقات (0)