كتاب عربي 21

مع بداية عقد جديد: هل تنجح القيم المشرقية في معالجة الأزمة الكونية؟

قاسم قصير
1300x600
1300x600
ننهي غدا عاما ميلاديا وندخل في عام جديد، كما ننهي عقدا من السنوات، وكل المرحلة السابقة كانت مليئة بالأحداث والتطورات السياسية والتكنولوجية والأمنية والعسكرية والحروب والصراعات بمختلف الأشكال وفي مختلف الميادين والساحات، مما جعل الكثير من المراقبين والمحللين والمؤرخين يعتبرون أن العام 2020 كان الأسوأ منذ عقود كثيرة. كما أن العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين (أي العشرين سنة الأخيرة ) كانت من المراحل الصعبة والخطيرة في تاريخ البشرية بسبب الحروب والصراعات. ورغم كل التطور العلمي والتكنولوجي والطبي، فقد جاء انتشار فيروس كورونا كي يشكل أحد أبرز التحديات الضخمة أمام البشرية بسب سرعة الانتشار والانعكاسات الخطيرة التي تركها على العالم أجمع.

وفي مواجهة هذه التحديات المختلفة يحاول عدد من المفكرين العرب تقديم أفكار ورؤى جديدة لملء الفراغ الفكري والسياسي، وللتمهيد لإطلاق مشاريع سياسية جديدة. ومن هؤلاء المفكرين الناشطين الأستاذ سعد محيو الذي عمد خلال السنوات الثلاث الأخيرة لإطلاق سلسلة مبادرات فكرية وعملية؛ انطلاقا من تشخصيه للأزمات التي يواجهها العالم أجمع والعالم العربي والإسلامي خاصة.
في مواجهة هذه التحديات المختلفة يحاول عدد من المفكرين العرب تقديم أفكار ورؤى جديدة لملء الفراغ الفكري والسياسي، وللتمهيد لإطلاق مشاريع سياسية جديدة. ومن هؤلاء المفكرين الناشطين الأستاذ سعد محيو

وكان كتابه التأسيسي الأول: "الخروج من جهنم: وعي بيئي- كوني جديد أو الانقراض"، وقد حاز على جائزة أفضل كتاب في الوطن العربي للعام 2019. وأما كتابه الثاني فكان بعنوان: "الأتراك والإيرانيون والعرب والأكراد: تكامل أم انتحار"، وكان هذا الكتاب التمهيد النظري لإطلاق مشروع منتدى التكامل الإقليمي ولدعم كل المبادرات الحوارية بين شعوب المنطقة.

ومؤخرا أصدر المفكر الأستاذ سعد محيو كتابه الثالث تحت عنوان: "من نحن؟ القيم المشرقية المتوسطية في مواجهة العولمة التكنو- رأسمالية"، وهو استكمال لمشروعه الداعي إلى التكامل بين دول وشعوب المشرق المتوسطي.

وأهمية هذا الكتاب الإشكالي والحواري أنه يستكمل سلسلة كتب ومشاريع فكرية برزت خلال السنوات الأخيرة، والتي تدعو لاستعادة دور المشرق أو الشرق على الخريطة العالمية، وتقدّم أفكارا وأطروحات وبرامج عملية حول كيفية مواجهة التحديات المختلفة اليوم في العالم العربي والإسلامي وعلى الصعيد الكوني.

وهذا الكتاب يمكن أن يشكل مدخلا أو استكمالا لحوارات فكرية وسياسية وعملية، نظرا لما يقدمه من أطروحات جديدة قد تكون مغايرة لما ساد من أطروحات طيلة المائة سنة الماضية ولا سيما منذ نهاية السلطنة أو الخلافة العثمانية، وفي ظل ما نشهده من متغيرات إقليمية ودولية وتطورات ومستجدات جيوسياسية وتكنولوجية وعلمية واقتصادية وأمنية وعسكرية.

ولا يمكن في مقال واحد اختصار كل المشروع الفكري والعلمي الذي يطرحه الأستاذ سعد محيو، لكننا نحاول تقديم بعض المداخل والتعريفات على أمل أن يشكل دافعا لحوار ونقاش أعمق.
ماذا يقصد بتعبير المشرق وما أفقه الجغرافي؟ وهل يعني ذلك التنكّر أو القفز فوق الهوية العربية والهويات الوطنية التركية والإيرانية والكردية والأمازيغية والانتماءات المسيحية واليهودية (غير الصهيونية) والعلوية والأيزيدية، وغيرها من المكوّنات الإثنية والدينية؟

فماذا يقصد بتعبير المشرق وما أفقه الجغرافي؟ وهل يعني ذلك التنكّر أو القفز فوق الهوية العربية والهويات الوطنية التركية والإيرانية والكردية والأمازيغية والانتماءات المسيحية واليهودية (غير الصهيونية) والعلوية والأيزيدية، وغيرها من المكوّنات الإثنية والدينية التي لطالما كان يعج بها هذا الإقليم من آلاف السنين؟ ولماذا إضافة المتوسطي إلى المشرق؟

ويجيب على ذلك بالقول: المشرق المتوسطي هو الإطار الحضاري- التاريخي التي وّلدَت في سياقه وتفاعلت في بوتقته كل الحضارات الفرعية المشرقية في كلِ من المثلث الذهبي المصري- الفارسي- الأناضولي، وفي بلاد كنعان، والتي شكّلت في النهاية منزل الحضارة المشرقية الواحد بغُرفه الثقافية المُتعددة. هذا التاريخ من التفاعلات، الذي اشتمل على كل شيء تقريبا من الأديان التوحيدية والعلم إلى الثقافة والعادات والتقاليد، مرورا بالتجارة والحروب، انضم إلى الجغرافيا الإيكولوجية الواحدة ليجعلا من هذا الإقليم بؤرة صهر وصقل وإدماج لشعوبه على المستويات الدينية والثقافية وأنماط الحياة طيلة آلاف السنين. فلا يمكن، على سبيل المثال، فصل الحضارة الفرعونية القديمة عن الحضارة السومرية أو البابلية أو الكلدانية عن الحضارة الكنعانية.

ويدرك محيو أن هذا المصطلح سيثير الكثير من الإشكالات والأسئلة من مختلف الاتجاهات القومية والإسلامية والعروبية والقطرية فيوضح مسبقا: بالطبع، تعبير "الهوية المشرقية" يثير إشكالات جمّة أكثر مما يحّل أزمة أو يشكّل مخرجاً لتخبط العديد من سكان الإقليم في أزمات هوية عنيفة ترقص على إيقاع حروب الثلاثين عاماً الطائفية- الجيوسياسية الراهنة.

وعلى ضوء ذلك يدعو إلى الحديث عن: "قيم مشرقية مشتركة تنبع من تفاعل حضاري موحّد، وتكون هي المرجعية الحضارية التي تمحض موزاييك الهويات الوطنية والانتماءات الدينية في الإقليم ماضياً وحاضرا، قسماتها وسماتها الحضارية الجامعة والمشتركة".

والقيم المشرقية هي في الواقع مجالات ثقافية كبيرة تضم أمما ومناطق عدة، وهي تشكّل المرجعية الثقافية الأعم لشعوب الإقليم ومكوناته. إنها مجموعة القوى الاجتماعية والأفكار التي حققت قدراً من التجانس، لكنها تتغيّر باستمرار وتتطوّر (أو يجب أن تتطوّر) رداً على التحديات. وبهذا المعنى، القيم المشرقية تكمن في الداخل (العقل والنفس)، وتتكوّن من افتراضات مشتركة حول النظام الطبيعي للأشياء، وقيم الوجود، ونمط العيش. إنها في آن ظروف مادية ومعانٍ ذاتية، وديناميكيتها كانت تنبع دوما من الصراع بين هذين العاملين.
القيم المشرقية هي في الواقع مجالات ثقافية كبيرة تضم أمماً ومناطق عدة، وهي تشكّل المرجعية الثقافية الأعم لشعوب الإقليم ومكوناته. إنها مجموعة القوى الاجتماعية والأفكار التي حققت قدراً من التجانس، لكنها تتغيّر باستمرار وتتطوّر (أو يجب أن تتطوّر) رداً على التحديات

علاوة على ذلك، السمة الرئيس للقيم الحضارية المشرقية هي انطواؤها على التعددية واللامركزية، وبأنها ليست بمثابة هياكل أو أشياء، بل عمليات وعلاقات. وفي هذا الإطار بالتحديد يكمن معنى التعدّد في المشرق ضمن الوحدة الجيو- ثقافية. فالقيم المشرقية تُعزّز، على سبيل المثال، الهوية العربية بدل أن تقوم مكانها أو في مواجهتها، حيث أنها تشكّل العمق الحضاري الذي ترعرعت في كنفه الفكرة العربية واستقت منه مكوناتها الشخصية الذاتية، وطبيعة رؤاها العالمية، وإطلالتها الفلسفية على مسألة الوجود. وكذا الأمر بالنسبة إلى الهويات الوطنية الإيرانية والتركية والكردية والانتماءات الدينية والمجتمعية الأخرى.

وعلى ضوء هذه الرؤية الفكرية والحضارية يمكن إعادة التذكير بأنه في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدأت فكرة التكتل الإقليمي تنتشر على نطاق واسع في المشرق، من إيران إلى تركيا مروراً بالمنطقتين العربية والكردية (وقبل ذلك في سياق المشاريع الشرق أوسطية الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية) بفعل عامل رئيس هو التطوّر الذي طرأ على النظام الاقتصادي العالمي غداة الحرب العالمية الثانية (انظر الفصل الرابع)، والذي بدأ يتجاوز دور الدولة- الأمة أو الدولة القومية لصالح كتل اقتصادية إقليمية كبرى لا يجب أن يقل تعداد سكانها عن 300-400 مليون نسمة.

وفي الإطار نفسه يشرح محيو أسباب اعتماد مصطلح المتوسطية ولماذا إضافة إلى المشرقية، ويعتبر أن ذلك يعيد لهذه المنطقة مركزيتها العالمية في مواجهة الأطروحات الغربية والاستشراقية، ويجعل الشرق كله مركزا جديدا للعالم.

والحال أن عناق المشرقية مع المتوسطية له دافع آني ومستقبلي في آن. إذ هو يجيب على السؤال التالي: كيف يمكن لقيم الماضي المشرقي المتوسطي العريق الخمس: العالمية الحقّة، والضمير، والتوازن، والتسامح والتعددية، وحب الطبيعة، أن تكون حاضر القرن الحادي والعشرين؛ قرن العولمة التكنو- رأسمالية والثورة التكنولوجية الرابعة؟

هذه بعض الأفكار والطروحات التي يقدمها المفكر العربي سعد محيو في مشروعه الجديد، وهي تستحق الحوار والنقاش في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها العالم اليوم.

twitter.com/KassirKassem
التعليقات (0)

خبر عاجل