كتب

المقدس والمجتمع.. محاولة لفهم معتقدات الشعوب وخصوصياتها 1من2

الإنسان كائن رمزي لا يعيش الواقع في ماديته بقدر ما يعيشه في بعده الرّمزي  (عربي21)
الإنسان كائن رمزي لا يعيش الواقع في ماديته بقدر ما يعيشه في بعده الرّمزي (عربي21)

الكتاب: المقدس والمجتمع
الكاتب: نور الدين الزاهي
الناشر: إفريقيا الشرق المغرب 2011

تتفاعل مختلف شرائح المجتمع وطبقاته، وفق قوانين معقدة، منها التكامل أو التحالف بينها ومنها محاولة احتواء بعضها لبعض بما يعني ذوبان كيان في آخر وتنازله عن وجوده الحر المستقل ومنها الصراع والصدام الرمزي أو المادي المباشر. وقد لا ننتبه إليها نحن فنعتقد أن مكونات المجتمع ساكنة هادئة. ولكن علم الاجتماع يدرس هذه الظواهر وكثيرا ما يكشف عن قوانين خفية شديدة التعقيد. ولأن مشارب الحياة كثيرة تعددت فروع هذا العلم. فعلم الاجتماع الديني مثلا، يساعد على تفكيك بعض ظواهر الحياة الدينية وفهمها، وهذا أمر على غاية من الأهمية، خاصة بالنسبة إلى المسلمين الذين فرضت عليهم الحداثةُ الانفتاحَ دون أن يكونوا جاهزين لذلك فوجدوا، تبعا لذلك، عسرا في التوفيق بين تصوراتهم الدينية الروحية ومنطق العصر الجديد.

1 ـ في دراسة الاجتماع الديني:

 يعمل علم الاجتماع الديني على دراسة القوانين المسيرة للسلوك الديني بحثا عن المشترك الذي يميز الأديان على اختلافها وسعيا إلى فهم معتقدات الشعوب وخصوصيات مقدساتها ووظائف شعائرها. ويوظف ذلك كله لدراسة دور الدين في حياة الأفراد وتوجيه سلوكهم. فيتسلح بترسانة من المفاهيم التي لا تفتأ تتجدد وتتعمق مفيدا من تقاطعاته مع مختلف العلوم الإنسانية كعلم النفس والفلسفة وكثيرا ما ينفتح على الأنتروبولوجي ويتقاطع معه فيستعير منه منهجه الذي يدرس المجتمعات البشرية والحضارات التي تؤسسها انطلاقا من ومعتقداتها. 

هذا شأن نور الدين الزاهي في أثره المقدس والمجتمع. فقد حاول الإفادة من خلفيات هذا العلم المعرفية أولا وتسليطها على حالة في الحياة الدينية المغربية بعينها هي "الموسم" أي تلك الزيارات الموسمية للزوايا والطرق الصوفية حيث يتجلى الطقوسي في أكثر من مظهر. فيبحث في وظائفه ويحاول أن يغوص فيه ليصل إلى مستويات من الحياة الاجتماعية والسياسية المغربية قائمة طيّه متسترة جاعلة من المقدس حجابا تتوارى خلفه لتمارس فعلها باسم النقاء الديني. 

ولا شكّ أنّ هذه الخلفيات المعرفية تصبح أكثر جدوى حين نحسن استثمارها لاقتحام المتخيّل وضبط دوره في فهم عديد الظواهر الطقوسية في مختلف المجتمعات العربية كما يرافق الاحتفالات الدينية في عاشوراء والحج الشيعي.. وغير ذلك. ونعرض في هذه الورقة مفهوم المتخيّل في الدراسات الغربية كما يقدمه الباحث ونخصص الورقة الثانية للبحث في الصلة بين هذا المتخيل والمقدس في  ظاهرة "الموسم" المغربية كما أسلفنا الذكر.

2 ـ في المتخيل: 

يصادر الباحث على عسر تعريف المتخيل. ويردّ ذلك إلى أسباب مختلفة، منها اتساع مجالاته. فهي تتعدد وتتقارب حتى تكاد فروقها الدقيقة تخفى عنّا. فلا ندرك الاختلافات الدقيقة بينها. ومنها توزعه على مجالات مختلفة كالمتخيل الأدبي والمتخيل الصوفي والفلسفي والسيميائي. ويحدد مجالاته فيجعل من كيفية إدراك الإنسان لعالمه وكيفية إكسابه الأشياءَ معنى، موضوعًا له. فبواسطته يتعالى عن الحسي ويعبر إلى الفكرة المجردة كإدراك دلالة "البركة" من خلال الماء "الذي يشفي من العاهات". ولكنه لا ينتج المعنى إلا وهو متأثر بعناصر من بيئته وثقافته.

ويمكن لهذا المسار أن يتخذ اتجاها معاكسا. فيكسب المتخيّلُ المجرد جسدا. فيرى في الأفعال العجيبة، كابتلاع الزجاج أو غرس الإبر في الأجساد في الطقوس المغربية، علامة تشف عن بركة الشيخ وقداسته وفعله المعجز.

ومن وجوه صعوبة تعريف المتخيل التي يعرضها الباحث حركية مكوناته. فإنتاج الصور والرموز والأساطير في ثقافة ما لا يتمّ دفعة واحدة ثم يتوقف فجأة. فهو يظل في عملية خلق للأشكال والرموز مستمرة. ومن هنا نفهم سمته الدينامية الخلاقة التي تمنح للأشياء في الأذهان وجودها الخاص. ويتساءل عن السبيل الأفضل لتعريفه. فهل نتعامل معه قاموسيا فنقدمه في شكل قائمة من الدلالات؟ فنقول مثلا إن المتخيل يفيد الدلالة كذا في الحالة كذا وفي سياق آخر يدل على الدلالة كذا، أم لا يجد ذلك مفيدا؟

فما يحدّ من جدواه اتساع دلالة المتخيل نتيجة لحركيته ولارتباطه بسيرورة الحياة في مستوياتها المختلفة وكشفه عن الذوات الفردية وعن صور المجتمع وأنواع قواه وصراعاته وكيفية تفاعله مع ماضيه وتفسيره للعالم من حوله. ذلك أنّ بين حركية المتخيل وحركية المجتمع ضربا من التوازي. وهذا ما يفتح على دراسة المتخيل الاجتماعي. 

ويبدو نور الدين الزاهي أميل إلى تصور أمبيرتو إيكو الذي يرى أن الاستناد إلى موسوعتنا الثقافية أفضل سبيل للتعامل معه، أي الاستناد إلى ذلك الإطار الذي تخزّن فيه تجاربنا ومعارفنا وتكون لنا عونا على فهم محيطنا. فهو يسعفنا بكفايات من السّياق الحضاري لتأويل الظاهرة المدروسة ويكشف لنا النظام الثقافي الذي ينهل منه الرمزي منها. وبفضل هذا النطام الرمزي تشكل المجموعات موسوعاتها المرجعية أو متخيلها وتجعله نواة صلبة لثقافتها. فتنشئ علاقة تعاونية بينهما. فالمتخيل يستعمل الرمزي ليجد لنفسه مكانا وليعبر عن ذاته. والرمزي يستثمر المتخيل ويقتضي مقدرة تخييلية ليرى في الشيء دلالة أخرى مخالفة له. وهكذا ينشأ المعنى المتخيل ثم يمنحه الرمزي مقابلا وجوديا. 

3 ـ المتخيل الاجتماعي

يتعلق هذا المتخيل بالأسئلة التي تطرحها المجتمعات لبناء هويتها وضبط علاقاتها الداخلية فيما بينها أو الخارجية مع المجتمعات المجاورة (صدام وتنافس، تحالف..) وعلاقاتها بالكون بأسره. وتكون هذه الأسئلة نحو: "من نحن"؟ فتجعله جسرا لضبط العلاقات بين أفراد المجتمع وشرائحه وجماعاته أو "ماذا كنّا في الماضي وماذا نريد لأنفسنا ولمجتمعنا في المستقبل" لضبط أهدافها. وعندما يمنحها المتخيل الأجوبة الممكنة يسهم في تحديد هويتها الجماعية. ولتوضيح كيفية إجراء هذه المفاهيم يطرح الباحث أسئلة نحو: ما الذي يجعل المتخيل مصدرا للإجابة عن الأسئلة الكبرى لكل مجتمع؟ أو ما صلة المتخيل بأنواع الوعي الاجتماعي الأخرى أو ما صلته بحضور الجماعات ماضيا وحاضرا ومستقبلا؟ وهل ننطلق مما تقوله المجتمعات عن أنفسها للوصول إلى حقيقتها في نشاطها الواقعي الحياتي؟ 

ينتهي إلى أن اتباع تمش معاكس يكون أسلم. فعلى الباحث أن ينطلق من سيرورة حياة المجتمعات الاجتماعية والواقعية ليصل إلى تمثيل تطور الانعكاسات والأصداء الإيديولوجية لهذه السيرورة الحياتية على مستوى الدين والأخلاق وعلى مستوى أشكال الوعي. فليس الوعي من يحدد الحياة، بما فيها من الممارسات الرمزية والتخييلية وإنما الحياة (بما فيها من الصراع داخل المجتمعات) هي التي تحدد هذا الوعي وتبلور ديناميته. فعلى خلاف ما تعتقد الماركسية، ليست رهانات الصراع الاجتماعي اقتصادية محضا. ومفهوم الرأسمال الرمزي الذي طوره علم الاجتماع حديثا وحقل الإنتاج الرمزي بكل تفريعاته (المصالح الرمزية، العنف الرمزي..) يكشفان ذلك بجلاء. 

ما دور الطقوس ووظائفها إذن؟

 

يحضر المتخيل والإنتاج الرمزي بقوة في الصراعات بين المجموعات. والدراسات الميدانية والتجارب الواقعية تثبتان أنّ الصراع حول الهوية يكون مقدما على الصراع حول المصلحة المادية أو حول هيمنة طبقة على أخرى اقتصاديا. وانطلاقا من هذه المعطيات أحدث بورديو قطيعة مع مقولة الحتمية التاريخية التي مدارها على تحكم المعطى الاقتصادي في الوعي. وقدم تصورا جديدا للهوية في المجتمع يحتل فيه الثقافي موقعا أساسيا. فلا ينتج المجتمع ذاته باعتباره مجتمعا متناغما قادرا على التعايش وفق تصوره إلا بمقدار قدرته على إنتاج حقله الاجتماعي والثقافي والتاريخي الخاص. ويتوسع الزاهي في هذا الأمر فينقل عن ألان توران اعتقاده بأن المجتمع ينتج ذاته وبضبط علاقاته بناء على ثلاث مكونات، مترابطة و مختلفة ومتمايزة في الآن نفسه. 

 

يحضر المتخيل والإنتاج الرمزي بقوة في الصراعات بين المجموعات. والدراسات الميدانية والتجارب الواقعية تثبتان أنّ الصراع حول الهوية يكون مقدما على الصراع حول المصلحة المادية أو حول هيمنة طبقة على أخرى اقتصاديا.

 



يكون أول هذه المكونات ذا بعد اقتصادي. إنه ذلك التراكم الذي يحصل نتيجة للعمل المنجز تحت رقابة الطبقة المهيمنة ويكون ثانيها متعلقا بمجموع المعارف العملية. أما ثالثها فعلى صلة بالنموذج الثقافي أو بصورة المجتمع حول إبداعاته ومجموع معارفه الاجتماعية والرمزية. 

إذن لا تتعلق رهانات الصراع بإدارة الملكية في المجتمعات فحسب، كما تعتقد الفلسفة الماركسية، وإنما تتصل خاصّة بإدارة الرصيد الرمزي وبمراقبة الفعل الذي يمارسه المجتمع على ذاته وعلى اختياراته الثقافية والاجتماعية. 

والصراع في المجتمع بالنتيجة ليس صراعا طبقيا موضوعه الهيمنة على وسائل الإنتاج فحسب وإنما هو صراع حول التحكم السياسي والاجتماعي في هذه التاريخية موضوعه السيطرة على الرموز، على امتلاك حق تأويلها ونشرها بين الناس للاستفادة منها. فيغدو هاجس الفئات المهيمنة محو التمايز بين تمثلاتها هي الخاصة وتمثلات المجتمع الكلية لمختلف مناحي الحياة من متخيّل ورموز وقيم. 

ويعدّ النجاح في هذا المسعى نجاحا:

ـ على مستوى الإيديولوجيا، باعتبارها منظومة من التمثلات تتجلي في الصور والأساطير والأفكار، والمفاهيم وتتسم "بنوع من الوجود وبدور تاريخي" وفي التصور الماركسي، كما يعرض الأثر، هي وعي خاطئ وزائف ومقلوب لا يعي دور الانتماء الطبقي في تشكيل الوعي وضرورة الانتصار إلى الجماهير، ويؤشر عن عجز أفراد المجتمع على حل مشاكله الواقعية والمادية. وتتمثل وظيفتها في الحفاظ على الوضع الاجتماعي. لذلك فهي تتجه صوب الماضي باستمرار.

ـ نجاحا على مستوى اليوتوبيا أيضا، ذلك الوعي الذي يتجه صوب المستقبل فيكون عاملا ثوريا. غير أنه يظل تجليا من تجليات الوعي الزائف، كالإيديولوجيا، باعتباره حلما باللاممكن، متعاليا عن الكائن الاجتماعي.

وعامة ينتهي نور الدين الزاهي إلى أنّ الدراسات الاجتماعية قطعت اليوم مع التصور التقليدي للرمزي والمتخيل. فلم تعد ترى فيهما استيهامات متعالية عن التاريخ والمجتمع أو عنوانا للضعف والعجز عن الانخراط في الواقع أو أفيونا. وغدت تراهما  تعبيرا عن علاقات اجتماعية متناقضة ومتحركة وقابلة للوصف والفهم والتحليل. وهذا ما أعاد الاعتبار للمجتمع بما هو جملة من العلاقات الاجتماعية تحكمها سيرورة المتخيل الدينامية ومنح رهان القوة فيه لمن امتلك، في آن معا، وسائل الإنتاج المادي ووسائل إنتاج المعنى بمستوييه الرمزي والثقافي.

4 ـ مفهوم المتخيل.. كاسيرير الغائب الحاضر

يحضر الإنسان في عمل فريد الزاهي بما هو ذات، لا تحقّق أيّ تواصل مع العالم الخارجيّ، بشكل مباشر. وإنّما تحتاج دائما إلى وساطة المتخيل، فتمثّل العلامة بالنّسبة إلى الوعي المستوى الأوّل من تمثل محيطه. ولا تعبّر الأنظمة الرّمزية التي يعتمدها المتخيّل بطريقة سلبية على حضور الظّواهر المحض وإنّما توردها مفعمة بضروب من الوعي الرّوحاني والحسيّ فيتمّ المرور إلى الشّكل بطرق مختلفة وحسب مبادئ تكوين متغايرة في العلوم واللّغة والأسطورة. 

وكثيرا ما تتماثل هذه الطّرق والمبادئ في كون الحاصل النّهائي لنشاطها لا يتشابه في شيء مع المواد البسيطة التي صدر عنها في الأصل. لذلك لا نتبيّن مميّزات الوعي الرّوحانيّ والوعي الحسيّ إلاّ في الوظيفة الأساسية للتّرميز وفي مختلف اتجاهاتها وفي هذا كلّه يرنّ صوت الفيلسوف أرنست كاسيرير بقوة في ملفوظ الباحث، خاصة في أثره "فلسفة الأشكال الرمزية" حين عرّف الإنسان بكونه كائنا رمزيا لا يعيش الواقع في ماديته بقدر ما يعيشه في بعده الرّمزي. ولكن هذا الصوت يتسرب عبر المراجع التي يعتمدها ولا يحضر بصيغة مباشرة ولا ينتبه الزاهي لمصدره أصلا. ففوت على أثره خلفية فلسفية كانت ستعمّق عمله بكل تأكيد.

التعليقات (0)