كتاب عربي 21

إنشالله استفدت..

طارق أوشن
1300x600
1300x600

فجأة، تحولت جريدة "وول ستريت جورنال" لمصدر موثوق للأخبار في المملكة العربية السعودية، تستقي منها قناة "العربية" وبقية وسائل الإعلام التقليدي منه والجديد المعلومة الصحيحة التي لا يرقى الشك إليها. لم تعد الصحف الأمريكية صحفا مأجورة تستهدف المملكة و"رموزها" بل صارت تستحق أن تسرب إليها "الحقائق" عن تحقيقات جارية لم ينظر القضاء فيها بعد. كل شيء جائز فالمستهدف "هارب" بأسرار، يقال إنها مهمة، جمعها من سنوات خدمته في أكثر المراكز الأمنية حساسية في مواجهة "الإرهاب". 

 

محاربة الفساد شعار

 
قد يكون سعد الجبري مذنبا وفاسدا لكن استهداف محمد بن نايف، الموعود بعرش المملكة، من خلاله يطرح أكثر من علامات استفهام عن الدوافع الحقيقية وراء التسريبات، وعن جدية المملكة في محاربة الفساد بالرغم من إسهال الأحكام التي أعلن عنها قبل يوم في حق قضاة وضباط بتهم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ للتربح الشخصي.

ليست هذه المرة الأولى التي ارتبط فيها اسم المملكة بقضايا فساد مالي لم تحرك السلطات أية متابعة بخصوصها. وحجم الأموال التي يتم الحديث عنها في حالة الجبري (11 مليار دولار) يظهر أن الهدر المالي، غير المعلن بالمملكة، بسبب غياب الحكامة وآليات الرقابة على المال العام، نتيجة حتمية للفساد الذي استشرى وصارت له أذرع في كل مكان وعلى كل المستويات. أما القضايا التي تظهر بين الحين والآخر مستهدفة صغار الموظفين فما هي إلا ذر للرماد في العيون.

لم يكن اسم المملكة العربية السعودية يوما بعيدا عن قضايا فساد عابرة للقارات. صفقة اليمامة ليست ببعيدة عن الأذهان بعد تفجرها في بريطانيا دون أن تجد لها صدى في الأوساط السعودية برغم ضخامة العمولات والرشاوي وحجم الفساد المنبعث منها. وعكس ذلك، اضطر مكتب تحقيقات الاحتيال الخطير ببريطانيا إلى وقف تحقيق بدأه في الصفقة بضغوطات من حكومتي المملكتين. قد تكون صفقة اليمامة جزءا من التاريخ لكن قضايا معاصرة جعلت المملكة في القلب من وقائعها. القضايا الجديدة تظهر مأسسة للفساد إذ أنها لا تدخل في نطاق الاغتناء الشخصي للأفراد أو الاختلاس.

 

نظرة سريعة على الطبقة السياسية المسيطرة على مقدرات الأوطان من الحكام إلى أحزاب الزينة الديمقراطية، تكشف حجم الفساد ودرجة تجذره في الممارسة منهجا لا حياد عنه، يجعل أي حديث عن محاربته ضربا من الخيال.

 



عندما سئل الرئيس السوداني السابق عمر البشير عن مصدر الأموال التي وجدت ببيته بعد إجباره على التنحي، رد أنها أموال تلقاها من السعودية ومن محمد بن سلمان بحجم إجمالي بلغ تسعين مليون دولار. وعندما سئل رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب عبد الرزاق، في تحقيقات اختلاسات الصندوق السيادي الماليزي، أجاب أن الأموال في حوزته هدية من السعودية. وقبلهما رد رفعت الأسد على المحققين الفرنسيين بادعاء كونه حاز ثروته بفضل هدايا حصل عليها من العائلة المالكة بالسعودية، وليس اختلاسا أو سرقة لمقدرات الشعب السوري أو تبييضا للأموال. لم تحرك أي من الأجهزة الرقابية والقضائية في الرياض ساكنا للتحقيق في تلك "المزاعم" أو نفيها. 

الإمارات، الحليف الرسمي للمملكة في كل الملفات، كانت أكثر صراحة مع الذات والآخر فقامت بترقية من جاء اسمه في تسريبات متعلقة بالصندوق، على لسان نجيب عبد الرزاق ومحمد بن زايد، وعينته رئيس مجلس إدارة المصرف المركزي، أياما فقط بعد تحقيقات لقناة الجزيرة الفضائية أظهرت تورط منصور بن زايد في قضية الفساد المتعلقة بهروب رجل الأعمال الهندي بي آر شيتي. الكفاءة لها ثمن في دولة الإمارات ولو كانت في مجال الفساد والتستر عليه.

أما في إسبانيا، فلا تزال الحكومة المنتخبة هناك تضغط على الملك فليبي السادس لطرد والده الملك خوان كارلوس من القصر ومن عضوية العائلة الملكية التي يتمتع فيها بلقب أقرب إلى "الملك الشرفي". لم يكف الحكومة والشعب الإسبانيين ما صدر عن الملك الجديد من تنازل عن ميراثه من والده وقراره وقف المخصصات الرسمية له. الاتهامات الموجهة للعاهل الإسباني السابق كانت تلقي "هدايا" من المغرب والبحرين وبالأخص من السعودية على خلفية إبرام صفقة قطار يربط المدينة المنورة بمكة المكرمة بلغت مائة مليون دولار كعمولة محتملة. لم يشفع للملك خوان كارلوس قيادته للبلاد من ديكتاتورية فرانكو إلى رحابة الديمقراطية، ولا شفعت له شعبيته لدى الإسبان، فالارتشاء أو تبييض الأموال أمر مشين. الإسبان يريدون ملكية "خالية من الفساد" فهم في الأول والآخر مواطنون ودافعو ضرائب لا رعايا أو عبيد.

محاربة الفساد شعار تتغنى به الأنظمة العربية جيلا بعد جيل. لكنها تدعي "فعل" ذلك بنفس الأشخاص والآليات و"القوانين". والحقيقة، أن الأمر لا يعدو أن يكون تصفية حسابات أو حملات موسمية تستهدف بعضا من الصغار أو "حيتان" تستحق التأديب دون إخراج من نعيم الصفقات المشبوهة وصنابير المال العام الذي يصرف بلا حسيب أو رقيب. لقد صار الفساد رياضة قومية تمارس ممن استطاع إليها سبيلا برعاية القوانين البالية وفساد النخب الحاكمة وغياب الشفافية وإعمال المحاسبة طريقا أوحد لاستعادة الحقوق.

 

فساد في صلب أجهزة الدولة

في فيلم (رمضان فوق البركان ـ 1985) للمخرج أحمد السبعاوي، يختلس رمضان رواتب الموظفين الشهرية، ويعترف بالأمر أمام المحققين.

وكيل النيابة: انت ليه عملت كده يا رمضان؟

رمضان: البواعث يعني يا بيه. واحد تحت إيده 400 ألف جنيه. حسبتها. لقيت نفسي عقبال ما اخرج ع المعاش حاخذ ستة آلاف جنيه نقطة نقطة. طب خليك انت مكاني.

وكيل النيابة: انت واخد الحكاية ببساطة أوي.
 
رمضان: ماهو لو كان قانون العقوبات يقول إن المختلس يعدم، كنت فكرت وشاورت عقلي لأن العمر مش بعزقة. وحتى لو غيرتو القانون دلوقتي مش حيطبق عليا. ليه بقا؟ لأن الجريمة حصلت في ظل القانون القديم. مش كده؟

بعدها بثلاثين سنة كاملة، لا يزال الحال على ما هو عليه، بل صار التطبيع الشعبي، بعد الرسمي، مع الفساد أمرا واقعا.

 

لم يشفع للملك خوان كارلوس قيادته للبلاد من ديكتاتورية فرانكو إلى رحابة الديمقراطية، ولا شفعت له شعبيته لدى الإسبان، فالارتشاء أو تبييض الأموال أمر مشين. الإسبان يريدون ملكية "خالية من الفساد" فهم في الأول والآخر مواطنون ودافعي ضرائب لا رعايا أو عبيد.

 


في فيلم (انشالله استفدت ـ 2016) للمخرج محمود المساد، وداخل زنزانة التوقيف، يلتقي أحمد طاهر فراج، وهو "مقاول" متهم بالاحتيال، بمسجون آخر أنهى محكوميته للتو.

أحمد: انت شو ايلي جابك؟

المسجون: خلصت أنا امبارح.

أحمد: شو تهمتك؟

المسجون: ضربت شيكات.

أحمد: قعدت سنة. محرزة يعني الشغلة؟

المسجون: خبطت أربع سيارات فيها. يعني لو اشتغلت طول السنة ما حطلع بعجل. صح؟

أحمد: والله يا عم ما بتطلع.

وداخل زنزانة السجن يرحب مختار المهجع (المر) بأحمد فراج النزيل المستجد.

المر: يا هلا يا هلا شرفت. أهلا وسهلا.. شو تهمتك؟ 

أحمد: والله احتيال. حطوها ليا احتيال.

المر: انشالله استفدت؟

أحمد: الشغلة مش مستاهلة. 1800 دينار.

المر: زلمة طويل عريض زيك بينحبس على 1800 دينار.. مش عارف شو بدي أقولك. انشالله اعترفت؟

أحمد: والله اعترفت.

المر: لا. ليش اعترفت يا حبيبي؟ انت حمار يا رجال تعمل في حالك هيك. 

أحمد: والله جحش. بس كان في حلف يمين ما قدرت أكذب.

هو نفس منطق رمضان وغيره ممن يرون الفساد مستشريا في الدواليب الحكومية وخارجها وعلى أعلى المستويات. وقتها، تتحول الرغبة في محاربته إلى سعي حثيث للظفر بالنصيب الممكن من الفتات المتروك للصغار. الموظفة المسؤولة عن خزانة احتياطي العملة الصعبة بالبنك المركزي الموريتاني لم تنف اختلاسها قبل أسابيع لمئات الآلاف من الدولارات. حجم المبلغ المختفي من المركزي قارب المليونين والنصف من احتياطي لا يتجاوز المليار إلا بقليل. وفي لبنان كشف تدقيق أجرته وزارة المالية عن اختفاء 27 مليار دولار من خزينة الدولة في الفترة ما بين 1993 و2017. تبخر هذا المبلغ دون أن يثير الأمر ريبة أو حفيظة المسؤولين بل ربما بتواطؤ مكشوف. نفس المشهد عاشت على وقعه العراق وليبيا وغيرها من دول الجغرافيا العربية. 

اليوم يعيش اللبنانيون أزمة خانقة أرجعتهم لعهد المقايضة للحصول على طعام، ولا يزال "تجار" الحرب والأزمات مستمرون في مناصبهم وامتيازاتهم بدعم الجماهير المعلنة جهارا نهارا الولاء للطائفة والعائلة قبل الوطن.

نظرة سريعة على الطبقة السياسية المسيطرة على مقدرات الأوطان من الحكام إلى أحزاب الزينة الديمقراطية، تكشف حجم الفساد ودرجة تجذره في الممارسة منهجا لا حياد عنه، يجعل أي حديث عن محاربته ضربا من الخيال. 

المتابعات لا تتحرك إلا بعد "سقوط" الأنظمة انتقاما أو امتصاصا للفوران الشعبي. في الجزائر، تتواصل اليوم فصول محاكمات أعوان نظام بوتفليقة وتوزع عليهم الأحكام جملة وتفصيلا دونما تحرك حقيق لاسترجاع الأموال المنهوبة وحسن استخدامها. سبق للمهمة أن أنجزت بنفس الطريقة بعد "سقوط" مبارك قبل أن يقدم القضاء "الشامخ" على تبرئة المتهمين إيذانا بعودتهم للاستمتاع بما حازوه من ثروات، وهو ما شجع الحكم الانقلابي الحالي وأعوانه من المضي قدما في مأسسة الفساد دون وجل أو خوف من عقاب. كانت الآمال كبيرة باسترجاع المسروقات. لكن كثيرا من الأبناك الغربية فضلت الحجز على المسروقات في سرقة مكشوفة للمسروق. الدول الغربية كانت دوما ملاذا آمنا لاستثمارات ناهبي المال العام مقابل حماية كاملة من العقاب أو محاكمات أغلبها صوري. وعندما يلجأ إليها "كاشف" للفساد يتحول إلى وسيلة مقايضة أو ضغط تحت رحمة التسليم كما هو حال محمد علي في مواجهة السيسي ونظامه أو سعد الجبري في مواجهة محمد بن سلمان وغيرهما كثيرون.

في الوقت الذي تمكنت فيه دول إفريقية عانت الديكتاتورية وأهوالها من استرجاع جزء من منهوبات رؤسائها، كما حال غامبيا التي عرضت جزءا من أملاك ديكتاتورها السابق يحي جامي للبيع بعد أن عجز عن حملها معه بعد تنحيه، لا يزال الفساد الظاهر في البر والبحر والجو وفي كل مكان، ميزة عربية لن تخفيها محاكمات الجزائر ولا تحقيقات تونس بخصوص تضارب مصالح الفخفاخ ولا لجان البرلمان العاملة على استرجاع منهوبات الرئيس الموريتاني السابق محمد عبد العزيز أو غيرها من التصريحات والتحقيقات و"المحاكمات" التي تظهر هنا وهناك بين الفينة والأخرى.

في ساحة السجن، في فيلم محمود المساد، حيث يقضي السجناء فسحتهم مستمتعين بأخذ حمام شمس. يغطي أحمد طه فراج جزءا من جسده العاري بصفحة جريدة مكتوب عليها: نتائج الانتخابات النيابية.. سجناء المال السياسي يفوزون بمقاعد في البرلمان من داخل السجن. وعند انقضاء محكوميته يتم عرضه على المحافظ لاتخاذ القرار النهائي بحقه.

المحافظ: انت وأمثالك ايلي خربتو ها البلد. وهاي ثلاث شهور إقامة جبرية.

أحمد: سيدي أنا ما خربت ايشي. بس بعرف واحد بالسجن لو يطلع بيخرب البلد.

المحافظ: يالله انقلع.. انقلع من وجهي.. امش..

حازم هذا المحافظ كما كل مدعيي "الحزم" في بلداننا.

انشالله استفدت؟ هو المفتاح بكل اللهجات واللغات.

التعليقات (0)