كتاب عربي 21

الوطنية الفاشية وتزييف المواطنة.. المواطنة من جديد (6)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
من المسائل المهمة أن نستقرئ أحداث التاريخ المختلفة؛ والتي تحيلنا إلى أن الأنظمة السياسية حتى الديمقراطية منها تطرأ عليها أحوال من التبشير بالوطنية الفاشية، وتستند في ذلك إلى عقائد وأفكار تعبر في النهاية عن حالة عنصرية.

فمن المهم أن نشير إلى أن تصاعد الأحزاب الوطنية القومية تحت دعوى مواجهة التمدد للاشتراكية والشيوعية؛ أدى إلى إنتاج نظم فاشية في إيطاليا ونظام نازي في ألمانيا. وكان من أهم مفردات الخطاب لتلك الأحزاب التي صعدت وتصاعدت في تلك الآونة مفردة "الوطنية"؛ وعلى قاعدة منها حددت حدودا للمواطنة واتهمت الآخرين بعدم الوطنية. وكان هذا الاتهام يتعلق بمعاني الخيانة والاتهام بها.

وقد قلنا سابقا إن هذه النظم تحاول بشكل أو بآخر احتكار مفهوم الوطنية والمواطنة الصالحة في تصورهم؛ وتحديد معاييره واستبعاد من أرادت من ساحة الوطنية والمواطنة، وإدخاله في ساحة الخيانة والعداوة؛ ومن ثم كان ذلك التوظيف الخطير لمفهوم الوطنية من أهم ما شهدته تلك النظم السياسية.

وكما أشرنا، فإن الأمر لا يقتصر على تلك النظم التي اتخذت من الآليات الديمقراطية فرصة للوصول إلى سدة الحكم. وظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية حركة تسمى "الماكارثية"؛ تقوم بتدبيج الاتهامات للمخالف أيديولوجيا واتهامه بالخيانة، وبدأت الحركات العنصرية تتصاعد بشكل أو بآخر ضمن تشكيلات عدة؛ أهمها الحركة الإنجيلية وتصاعد اليمين الديني واليمين بوجه عام، وكذلك تصاعد خطاب شعبوي يترافق مع هذه الحالة العنصرية.

 ويشهد العالم موجات بعد موجات، حتى حينما وُجدت وأُنشئت الدولة القومية التي ظلت مسكونة بتلك الفكرة وارتبطت في مكنونها بمفردات عنصرية كامنة. وفي هذا المقام فإن أول ضحايا مفهوم الوطنية الفاشية هو مفهوم المواطنة الحقيقية، إذ أنه حتى مع بروز فكرة العولمة والعالم كقرية كونية وتصاعد الاختراعات التي تعلقت بثورات الاتصال والمعلوماتية، إلا أنه في حقيقة الأمر برز مفهوم العولمة ممتزجا بالعنصرية الكامنة ومأزق الديمقراطية والحالة الشعبوية وتصاعد اليمين، وصولا إلى حالة مما يمكن تسميتها بقدر من الاطمئنان "عولمة الكراهية".

ورغم خطاب تبشيري عن الديمقراطية وخطاب زاعق حول الالتزام بالحقوق الإنسانية التأسيسية؛ إلا أن الأمر صار بشكل منتظم وتصاعدي في إطار تصاعد موجات من الوطنية الفاشية، والتي أكدنا أن أول ضحاياها كان مفهوم المواطنة الحقيقية بكل مستلزماتها والتزاماتها؛ والمسائل التي تتعلق بالحقوق والواجبات في إطار تبادلي وتعاقدي.

وفي حقيقة الأمر أن "عولمة الكراهية" تلك اتخذت أشكالا تزيت بأثواب علمية وما هي بالعلم؛ واتخذت أشكالا نظرية وما هي بالنظريات؛ وبدت الأمور أقرب إلى ما يكون إلى شعارات وادعاءات ودعايات مشفوعة بكلام يشبه الكلام العلمي، ولكنه يفتقد الرؤية المنهجية في سياقات تبريره للحالة العنصرية.

إن انتشار أفكار مثل "نهاية التاريخ" على سبيل المثال لدى "فوكاياما" و"صِدام الحضارات" عند "هنتنغتون"؛ قد وضع أسسا للأفكار المتعلقة بـ"عولمة الكراهية" وصناعة العداء والأعداء؛ ومواجهة هؤلاء بشكل عالمي ضمن مقولات متعددة كان من أهمها "الإرهاب". فـ"هنتنغتون" على سبيل المثال قبل موته لم يكتف فحسب بالترويج لصدام الحضارات على المستوى العلمي الكوني؛ لكن لم يأمن المجتمع الأمريكي ذاته من تسويغ رؤى عنصرية في ثوب شعبوي جديد بطرح مفهوم الهوية مستجدا، ويقدم إجابات عنصرية للسؤال "من نحن؟".

وليس مستغربا أن يكون لـ"هنتنغتون" ذلك الكتاب الأخير الذي اتخذ عنوانا له: "who are we?"، وبدت إرهاصات إجابة رغم أن المجتمع الأمريكي في تأسيسه يتسم ويفتخر بأنه يشكل "بوتقة صهر" لعناصر وجنسيات مختلفة وثقافات متنوعة ومتعددة؛ إلا أنه أشار بعنصرية إلى "الجنس الأبيض المؤسس للولايات المتحدة"؛ اعتمادا منه على تلك الأفكار التي اعتمدها نظام مثل "ترامب" وخطابه ومواقفه. وما حادثة مقتل "فلويد" ببعيد، والذي شكل لحظة نماذجية على حد تعبير أستاذنا "الدكتور عبد الوهاب المسيري" في الحضارة الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية.

كذلك فإنه من المؤكد أن تصاعد أحوال استبدادية في كثير من الدول العربية والإسلامية قد شكل أرضا خصبة لهذه المفاهيم، والاستناد إليها في سياقات تتهم تلك السلطات كل من يعارضها أو يعارض مواقفها أو سياساتها، أو المطالبة بالامتثال للحقوق الإنسانية الأساسية والتأسيسية. فتجد في هذا المفهوم مدخلا لاتهام كل معارض بالخيانة، فأثر في تكوين نظرة للمواطنة شديدة السلبية في هذا السياق.

وإن نظرة متأنية لخطاب العسكر الذين أرادوا أن يتحكموا في المنظومة السياسية والمدنية، ضمن ترويجهم لنقاط عنصرية مركبة استندوا فيها إلى خطاب شعبوي، مثل مقولات "خير أجناد الأرض" و"الجيش الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، نرى أن الأمر متعلق بتجريم وتحريم أي خطاب يحاول انتقاد عسكرة المجتمع أو تلك الممارسات المعسكرة؛ التي يقوم بها قادة العسكر وعصابتهم، والتي اختطفت مؤسسات المجتمع جميعها ووضعتها تحت سيطرتها، وبدا لها أن تصدر خطابا عن "الوطن الوطنية والمواطن"؛ وأردفت ذلك بشعارات مغشوشة من مثل "تحيا مصر"، وأمور مكشوفة من مثل تلك التحريضات الخفية بإسقاط الجنسية عن بعض المعارضين تحت دعوى وصفهم بالخيانة والإرهاب وتبعيتهم لدول أخرى؛ من دون أن يفطن ذلك النظام (أو أنه يتغافل عن ذلك عمدا) إلى أنه هو الذي أجبر هؤلاء على الهجرة القسرية والإكراهية.

فمن أراد أن يعارض في الداخل وُضع في السجون والمعتقلات؛ وتصاعدت ممارسات تتعلق بالإخفاء القسري والقتل بالتصفية الجسدية والمطاردات، وباتت هذه الأمور تعبر عن حالة من الوطنية الفاشية أدت بالنظام لإسكات المعارضين بكل وسيلة فاجرة، ضمن مخطط بالقبض على أقارب هؤلاء المعارضين ومحاولة التعامل مع هذا الأمر بوسائل حقيرة، من مثل أن تقوم "لجان الكترونية" بالاتهامات بالخيانة وعدم الوطنية، وقيام مجموعة من المحامين المستأجرين برفع قضايا ملفقة ووهمية؛ باتهامات كاذبة زائفة.

يحاول هؤلاء أن يجعلوا من تلك الاتهامات أسلوبا ممنهجا، يساعدهم على ذلك جهاز فاسد "للنيابة العامة والنائب العام"؛ لم تعد له من وظيفة إلا أن يطارد هؤلاء بالتحقيق في اتهامات زائفة باطلة عن طريق من استأجروهم وشروهم من محامين فسدة؛ شكلوا واحدة من أدوات الاستبداد السلطوي الفاشي بعد الانقلاب العسكري.

إن الأمر الذي يتعلق بالوطنية الفاشية تلك ومحاولة ترويج خطاب لصناعة الكراهية؛ تقوم عليه كذلك مؤسسة قضائية تصدر أحكاما بالعقوبة على تلك الاتهامات الوهمية، وجهاز إعلامي صارت صناعته استهداف قيم المجتمع وتماسكه ولحمة الجماعة الوطنية، فبدا لهم تنفيذ عملية "شيطنة" كبرى لفصيل بعينه؛ مثله في ذلك مثل تلك المذاهب والحركات التي سبقت الإشارة إليها، وبات من يعارض وليس من هذا الفصيل يُتهم هو الآخر بتهمة فاجرة مبتكرة، وهو أنه يساعد جماعة إرهابية على تحقيق أهدافها، وبات المسيحي المعارض مشمولا بتلك التهمة والماركسي واليساري، بل والليبرالي والناصري المختلف مشمولا بهذه الجريمة..

كل ذلك شكل حالة من الوطنية الزائفة وترويجا لمفهوم الوطنية الفاشية؛ واتهامات بالجملة بالخيانة واستهداف مصر. هذه الأمور كلها إنما تشكل اغتصابات متكررة بجملة "اغتصاب السياسة" و"الحياة المدنية" والمجتمعية؛ وعسكرة المجتمع ضمن حالة عنصرية تبدو متصاعدة بصناعة الكراهية ضد فئات بعينها، مثل "الأطباء" على سبيل المثال؛ ضمن حالة عنصرية خطيرة تجعل كل ما ينتمي للعسكر هو الفائق والمتفوق، وكل من ينتمي إلى غيرهم هو الفاشل والمرشح لوصف الخيانة والمواطن غير الصالح وفق تقديراتهم.

ولا شك في أن هذا يدور بنا في حلقة مفرغة تتعلق بنظرة مختلفة لمفهوم المواطنة وأحوالها؛ ليس بالحقوقي أو التعاقدي، ولكن بمفهوم للمواطنة يستند للأسف الشديد إلى الترويج إلى شعارات الوطنية الفاشية الزائفة.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الأربعاء، 24-06-2020 06:37 م
نشكر أستاذنا الجليل على تلك المقالة الرائعة التي تستحق القراءة بتمعن لأكثر من مرة لفهم معانيها وإدراك مراميها ، ولأنها شديدة الارتباط بواقعنا، الذي بدون فهم حقيقة أحداثه وما وراءها، لن نستطيع التحرك الإيجابي في مواجهة قوى الثورة المضادة التي تسعى لإفقادنا إنسانيتنا وهويتنا وتحويلنا إلى مسوخ مشوهة فاقدة العقل خاوية العقيدة، فالشعارات الوطنية المتطرفة استخدمت من جانب النظم المستبدة للتغطية على فسادها ولقمع مواطنيها، وكمبرر وحجة لاتهام معارضيها بتهم الخيانة والعمالة، فالسادات عندما أسس حزبه الحاكم اختار له اسم الحزب الوطني الديمقراطي، وسار مبارك على نهجه من بعده، ويعلم كل عاقل أن كليهما كانا أبعد ما يكون عن الوطنية والديمقراطية، وقد اتخذ هذا الحزب له شعاراُ "مصر فوق الجميع"، وهو الشعار المقتبس من شعار حزب هتلر النازي "المانيا فوق الجميع"، والقيم الوطنية المتطرفة شاعت بعد الثورة الفرنسية العلمانية، كبديل للقيم الدينية ولتحل محلها، واحتاجت إلى خلق رموز وشعارات تقدسها كالأعلام والأناشيد الوطنية، التي يلزم المواطنين على الوقوف أمامها صاغرين في طقوس مشابهة لطقوس الصلاة في المعابد، والهدف إضفاء تلك القداسة على المتربعين على عروش الحكم، وفرض الطاعة المطلقة لهم، وتجريم انتقادهم، ونعت معارضيهم بالهرطقة، كما الحال في النظم الشمولية والماركسية، والعنصرية هي الأبن الشرعي للوطنيات المتطرفة كالنابوليونية والفاشية الإيطالية والنازية الهتلرية، كما استعار قيمها نظام 1952 الانقلابي في مصر المدعى بالناصرية، وشرعن ونظًر له عراب النظام هيكل، ووضع لهم كتابهم المقدس "الميثاق" الذي كان ينعت ناقدوه بالخيانة، ونهج على منواله القذافي في كتابه الأخضر، وكل تلك النظم قد ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وساقت شعوبها إلى الهزائم، وحولت بلادهم إلى أشباه دول، والسيسي وأترابه القابعين على عروش حكم البلاد العربية يسيرون على نهجهم، ولهم عرابون يبررون جرائمهم ويروجون لدجلهم، ويزينون لمريديهم، ويُخوِنون معارضيهم من طلاب الإصلاح، وإن لم يفق المصريون والعرب لمواجهة إفكهم ودجلهم قبل فوات الأوان، فسيدفعون هم وأبناءهم من بعدهم ثمناُ باهظاً.