قضايا وآراء

العرب واللّسان.. في حَوْمَة.. الانتماء والبِناء والبيان

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

لَو أَنَّه، في لِقاء من لِقاءات القادة العرب، والمثقفين والإعلاميين والتقنيين العرب، والعلماء والفقهاء والأثرياء والاقتصاديين العرب.. لَو أَنَّه يولد أَمل بإعادة الاعتبار لمفهوم الأمة أولاً، لا للـ "أَنا الضيِّقَة أَولاً"، تلك النحلة الضيقة المتهافتة المُضْعِفَة المُهلِكَة التي توهي الجزء والكل، وتزعزع الأمة وهويتها وأَناها جملةً وتفصيلا.. 

لَو يرتفعُ الصوت بعقل ومنطق ووعي وتصميم على العودة إلى مفهوم الأمة، ومفهوم اللسان العربي بالمعنى الروحاني ـ الثقافي ـ الحضاري ـ الإنساني الشامل الواسع، وإلى ارتباطنا جميعاً به ووعينا لقيمته وأهميته ومسؤولياته، وتعزيزنا لمعناه ومبناه وفحواه وجدواه، بوصفه من أهم إن لم يكن أهم مقوِّمات الهُويَّة والقُوة والمِنعَة.. لأنه قُطب المنتمين الراسخين في الأرض والتاريخ والثقافة العربية والدِّين / الإسلام، ولأنه مدار الوجود والحامي والمحتمي بقوة الشعب وإبداعه وتضحياته.. 

 

إن الإنسان العربي معني بمصيره وبمصير اللسان العربي بالمعنى الإنساني والحضاري والروحي الشامل لمفهوم اللسان "معرفة وعلماً وثقافة وحضارة وانتماءً"، لا بمعنى الجنس والعرق والدم والمِلَّة بالمفهوم العنصري الضيق بل بالمعنى الإنسانيِّ التكامليِّ الأسمى..

 



لَو أَنَّه يتمُّ ذلك ويَرسُخُ ويَعِمُّ ويُبْنَى عليه بحكْمة وحنْكة وعلم وتقانة ومهارة.. لَوعَى الإنسان العربيٌّ منطقَ اللسان الفَذ وقيمته، ولأجاد التواصل والتفاهم والتبيين والبيان، ولأصبح للضمير الحي عنده ثقَل الأخلاق والقيم في الآداء والميزان، ولَحَصْحَصَ حق الأمة في قضايا ومجالات يلفها التعتيم، ولَتَعَمْلَق الواجبُ وحمَلَت الكلمات حرارة الواقع ومرارة معاناة الخلق وتطلعاتِهم وتوقَهم لِسِلْم وأمنٍ من جوعٍ وخوف، ولاستقرار واستقلال وازدهار وعدل وحرية، ولِلقاءاتٍ حميمة في حضن الأمة: "اللسان والبيان والإنسان، الكرامة والأصالة، العروبة والإسلام، العيش المشترك والمصير الواحد والتسامح الخلاق".. ولَكان لِقاء وتفاهم وتفاعل وتعاون وتكاتف وإنتاج وإبداع في البِناء والأداء، وسموٌ بالمواقف إلى مستوى الأهداف، ولَنشأَ حوارٌ إيجابيٌّ ثريٌّ بنَّاء وخلاق، من دون مصادرات وشطارات وثعلبيات وأُفعوانيات وعنتريات "سياسية ـ عرقية ـ مذهبية ـ مناطقية.. إلخ"، ولاندَحَرت آراء سقيمة، وأَيديولوجيات إلغائية متوحشة مُفلِسة عقيمة، وانتهازيات وادعاءات عريضة مريضة تتعمشق الأنفس وتنشر الجهل والإخفاق والإلغاء والغِل، ولذَبُلَت أَشواكٌ تحاصر الأَرواح، وانفتح أفق الحياة أمام الناس واسعاً مشرقاً وزاهياً.. ولأدَّى ذلك كله إلى نبذ الشقاق وتقديم الوفاق والاتفاق، والقضاء على التآمر والتبعية والتَّلَطِّي في ظلال الاستعمار المستجد والقوى التي ما أرادت بالعروبة والإسلام خيراً، ولانتهى التمزُّق والتفرُّق والتناحر والتقاتل، ولأصبحت الأخوَّة في الدين والإنسانية نهجاً عربياً ـ إسلامياً قويماً، وقوةً حاكمة، وقيمةً عُليا يستظل بظلِّها الخَلْق، ولأقبل الناس بإخلاص وأخلاق وانعتاق وأفعالٍ وبطولات وتضحيات على ما ينقذ الوطن والبيئة والإنتاج والناس، عبر استيعاب العبر والدروس، والتكوين والبناء على أسس العلم والتقانة والعمل، وفق نهج صحيح صحي ومدروس.. ولأبان ذلك للطغاة والبُغاة والظُّلَّام والعَجَزَة من الحكَّام والمسؤولين والأدوات، وللغُفَّل الجُهَّل التُّبَّع والامعات من الوصوليين والانتهازيين، أنَّ لجمَ الناس استنفادٌ لطاقة الناس، وسياسة وثقافة وإدارة وتجارة عقيمة تفضي إلى ركود مُسْتَنقعيٍّ في العقول والأنفُس والأجساد، وإلى فساد وإفساد وانحلال واضمحلال وضلال، وإلى انهيارات اجتماعية، فردية وجماعية، في العلاقات والمُعاملات والعبادات، في الأخلاق والسلوك والعمل والإدارة والتجارة، وإلى بغضاءَ وكَراهيات ودسائس ومآسٍ.. فالعقول الجامدة والأنفس الراكدة مُستنقعاتٌ آسنة ومفارخُ تَخلُّفٍ ومباءاتُ أوبئة وأدواءٌ وديدان.. 

وكم كان نافذ الرأي الإمامُ محمدٌ بن إدريس الشافعي، رحمه الله تعالى، إذ قال:

إنِّي رأَيْتُ وقوفَ المَاءِ يُفسِدُهُ      إنْ سَالَ طَابَ، وإنْ لم يجْرِ لم يَطِبِ

ولدينا من ذلك الرّكود المُفسِد الكثير الكثير، ومعظمه سياسيٌّ واقتصاديٌّ، عقليٌّ ووجدانيٌّ، جاهليٌّ تَجْهيليٌّ، يُشيعُ الفتنة ويدمِّر البُنية، وقد طَال وتَطاولَ وتَشَمْرَخَ حتى حَجَبَ القلبَ عن القلب، والأخَ عن الأخ، والصلاحَ والإصلاحَ عن الرَّائين والرُّؤية، والحاكمَ عن الشعب.. وأَنذر بخرابٍ ما بعده خراب، نرى بعض حصاده أرواحاً ودماراً في بلدان وميادين عربية وإسلامية، منها ما تزال النار تشتعل فيها مثل " سورية وليبيا واليمن والعراق.."، على سبيل المثال لا الحصر.

أقول لو أنَّ شيئاً من ذلك الذي نتطلَّع إليه ونأملُ حدوثه، قد حدث في أوساط حاكمة وفاعلة أشرت إلى بعضها، لما جاءَ على الناس حينٌ من الدهر سَئموا فيه شأنَهم كُلَّه، ونبذَ بعضُهم اسمَه ورسمَه وظِلَّه وانتماءَه ولسانَه الفصيحَ المَليح، فأضعف ذاتَه وأُمَّته ودينه.. ولما تضاءلَت الأمّة العربية أمام أَعدائها وأسلمت قيادها لمن يتبع أولئك الأعداء، ولما عَافَ الناسُ صِلاتِهم بالحاضر والماضي، بالتُّراث والتُّراب وما حملاه مما أُظْهِر وأُضْمِر.. ولما صارَ المُستقبلُ أمامَهم مجرَّد أَمنَ ليلة وقوتَها واتقاءَ حَرِّها وقَرِّها، ولما أَصبح التشرُّد في أصقاع الأرض والإقبال على الهجرة مع احتمال الغرق في مياه البحار، هرباً من الظلم والقهر والرعب والإرهاب والذل والعذاب والفقر، سمةَ عربٍ هُمْ أهل الأرض والاستقرار والشهامة والكرامة، والحضارات والمقدسات والثروات والأمن والخِصْبِ والعطاء.

 

إن على العربي أن يرفضَ الوهمَ، ومقولات من يوحون إليه به ويجرعونه إياه، وأن يعيَ الحالة الصعبة التي يعيشها.. إنه معنيٌّ بتجدد مناخ العقل النيِّر، والوعي المتوثب، والعزم الواثق، وبالتفاعل مع متطلبات الحياة وأسئلتها وأسئلة الآخر شريكه فيها،

 



فيا أهل اللسان، يا.. العرب، يا أنتم، يا جَذْرَ الأمة المُنغرِس عميقاً في تربتها، السامق الفرع في سمائها، يا هُويَّة الأمة وثقافتها وتربتها الخصبة عبر التاريخ، ومجدها وبقاءَها وتجدُّدها، يا وجهها ويدها ولسانها المُبين.. أفما ترون إلى أمتكم اليوم ينبذُ بعضُها بعضَاً، ويذبحُ بعضُها بعضَاً، ويغرق أطفالُها في الدمع والدم والبؤس، وتنادي فيها الدماء بثأر الدماء كما أراد لها الأعداء؟!.. أما ترونَها تُقهَر وتُهمَّش وتتفرَّق بدداً بين الأمم.. حيث يطلب كلٌّ من عدوه أن يناصره على أخيه وبنيه وأمته وتاريخه ودينه.. أفما ترون بلادَكم وبيئتَكم تَدُعُّ إنسانَها ولسانَها، وتستهين بمكوناتها وتُراثها وإرثها الحضاري وبكل ما حفظته الأرض وسجله التاريخ ووعته الذاكرة منذ آلاف السنين، وتوَّجَه الإسلامُ برسالته التي هي رحمة للعالمين، ودعوته للتسامح والتصالح والتآخي بين الناس كافة..؟!
 
ألا استيقظوا وانفضوا عنكم كوابيس النَّوم واليقَظَة، وانبذوا خوفَكم وتَمزقكم وتَخلفكم، وارفعوا رؤوسكم نحو الشمس طلباً للحياة والحرية والاستقلال والكرامة وكل ما يليق بكم. 

إن بيئتكم العربية ـ الإسلامية ذات المُعطيات المتعددة الأوجه والغايات والثوابت المَبدئية والموروثات البهيّة.. البيئة الروحية والثقافية والاجتماعية بمعطياتها الثرية، ودوافعها وإيحاءتها وتأثيرها في الأنفس التي تستظل باللسان العربي المبين وغناه وبما حَمَل عبر مسارات الحياة.. لا تواجهون اليوم أسئلتَها الجوهريّة بمسؤولية وطنية وقومية وبجدية كافية، لا سيما على الصعد الروحية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ولا يقارب الكثير صلته الحيوية بها وصلتها به، ولا انسكاب فروعها في أصوله وأصولها في فروعه، لا يقاربها بمراجعات نقدية جادة، ولا يتعمق في ذلك بهدف الشروع في معالجة شاملة هادفة وواعية ومسؤولة، تتصل ببشر على الأرض يستثمر في بعضهم أعداءُ العروبة والإسلام، وأعداءُ السِّلم والأمن والحق والعدل والحرية، فتبرز خلافاتهم على السطح ولا تلبث أن تتحول إلى صراعات دامية مُوحى بها من الخارج ومموَّلة من الداخل، ومدفوعة إلى غايات ليست هي الغايات، وتُخاض أَصالة ووكالة لتنهك الأمة وتقسم المقسم منها.. حيث تنتفخ أَوداج بين حين وحين، وتسيل دماء، ويثمِر الدم دماً والبؤس بؤساً، ويستمر ذلك سنوات وسنوات، ويقضي على الزرع والنسل..

إن على العربي المَسؤول والمنتمي إلى أمته وواقعه، بمعرفة ووعي، أن يرى ذلك كله ونتائجه عبر امتداد تاريخه الطويل بكل ما له وما عليه، وعبر واقعه المر بكل ما فيه، وأن يفعل شيئاً يُمْليه الواجب وتفرضه الضرورة ويستدعيه الوجود، لاستعادة كيان متماسك لأمة تتابع سيرورتها وصيرورتها عبر التاريخ، ويدرك أبناؤها هُويَّتَهم القومية ـ الثقافية ـ الدينية ـ الروحية، ومصالحهم الحيوية وقضاياهم المصيرية.. ويرى كلٌّ منهم ذاته في بيئته الاجتماعية وفي كل ما يتصل بذاته وبها من خفايا، وما تظهره تفاعلاتُه مع أحداث جسام وأمم أُخرى مما قد لا تراه عيون عَشْواواتٌ ولا تعكسُه مرايا مشروخات.. 

إن العربيَّ معنيٌّ حُكْماً بكل ما يجري على أَرض يعيش فيها وأناسُه، حيث يعانون ويبنون، ويحزنون ويفرحون، ويتماهون ومع كل ما فيها في كيان صحيّ، قوي، راسخ، حيٍّ، مسؤول، نهضويٍّ، عصريٍّ مبدع.. 

إن الإنسان العربي معني بمصيره وبمصير اللسان العربي بالمعنى الإنساني والحضاري والروحي الشامل لمفهوم اللسان "معرفة وعلماً وثقافة وحضارة وانتماءً"، لا بمعنى الجنس والعرق والدم والمِلَّة بالمفهوم العنصري الضيق بل بالمعنى الإنسانيِّ التكامليِّ الأسمى.. 

والعربي معنيّ أيضاً بمصير كل من أصبح اللسانُ العربيُّ بعض كينونته ومكونات هويته العقائدية والثقافية، وبعض قيمه ومقومات كيانه بالمفوهم والمعنى الشاملين اللذين أشرنا إليهما. 

إن على العربي أن يرفضَ الوهمَ، ومقولات من يوحون إليه به ويجرعونه إياه، وأن يعيَ الحالة الصعبة التي يعيشها.. إنه معنيٌّ بتجدد مناخ العقل النيِّر، والوعي المتوثب، والعزم الواثق، وبالتفاعل مع متطلبات الحياة وأسئلتها وأسئلة الآخر شريكه فيها، تلك الأسئلة التي تتوالى عليه ولا بدَّ له من التعامل معها بثقة واقتدار وإلا عَجِزَ وضَمُرَ وذوى وربما انهار.

والله وليُّ الأمر والتدبير.

التعليقات (0)