أخبار ثقافية

المخرج محمود المساد: المشاهد شريك في صناعة المعنى

محمود المساد   السينما    الأردن   الإخراج
محمود المساد السينما الأردن الإخراج

في أحد أحياء مدينة الزرقاء الأردنية، تحديدا في حي الأمير عبدالله، ولد المخرج الأردني محمود المسّاد عام 1969م، الذي سيعود بعد سنوات طويلة إلى مدينته ليصوّر فيلمه "إعادة خلق"، لكنه قبل ذلك قطع أشواطًا طويلة في رحلته بحثًا عن السينما.

 

بدأت الرحلة بالوعي المبكر على أهمية الفن وجاذبية الجمال؛ "فقد كان خالي  مصوّرًا -يقول المسّاد- درسَ التصوير التلفزيوني في ألمانيا وكان من أوائل الخريجين الأردنيين في هذا المجال، ولقد عمل في تصوير عدة مسلسلات عربية  مثل مسلسل (صح النوم) بطولة دريد لحّام، كما عمل في تصوير حفلات الست أم كلثوم في القاهرة، قبل أن يعود إلى الأردن بعد تأسيس التلفزيون الأردني ليكون من جيل المؤسسين، إذ إن بطاقته الوظيفية كانت تحمل الرقم 2".


الأمر الذي حفّز الفتى على السير على خطى الخال، ولكن في مجال السينما والإخراج؛ فبعد أن أنهى المرحلة الثانوية انتسب إلى جامعة اليرموك ليدرس السينما في قسم المسرح والفنون، لكنه لم ينتظم في الدراسة، لأنه اكتشف مبكرًا أن الأكاديميا العربية لا تلبي الطموح الفني لمنتسبيها، فقد استفسر من طلبة التخصص وعرف أن التدريس نظري ولن يكون هناك تدريب تطبيقي.

 

وتكرر الأمر مع كلية الخوارزمي، يقول المسّاد: "بعد ذلك انتقلت للعيش والعمل في رومانيا، وهناك عملت مع فريق سينمائي أمريكي  جاء إلى بوخارست لإنتاج فيلم مشترك. هذه الخبرة ساعدتني على الانتقال إلى هولندا والدراسة في أكاديمية الفيلم في أمستردام".


وفي فترة الدراسة أنتج مجموعة من الأفلام الوثائقية القصيرة التي عُرضت على المستوى المحلي في هولندا ولاقت استحسانًا نقديًا، غير أنّ المسّاد في هذه الفترة سيتعرّف على شاب مغربي متشرّد اسمه حسن، يقوم هذا الشاب بعزف الموسيقى في الطرقات للمارة وينفق ما يحصل عليه من مال في شراء المخدرات التي أدمنها حد اللاعودة.

 

حينها عرف أن فيلمه القادم سيكون عن هذا الشخص؛ فبدأ يتتبعه ويتعرّف على تفاصيل حياته ويصوّرها أولاً بأول. ولقد استغرق الأمر ثلاثة أعوام من المتاعب والملاحقة، فقد كان حسن كثير الاختفاء، كما أن الفيلم من إنتاجه الخاص فكان يعمل وينفق على الفيلم حتى خرج فيلم "الشاطر حسن" إلى النور عام 2000. 


يقول المسّاد: "لقد قدمت مأساة حسن كما هي وبقدر ما هي حياة موجعة ومؤلمة فقد نحيت عواطفي جانبًا وأبعدت الفيلم عن الرومانسية السطحية. وهو أمر صعب جدًا في حالة حسن، وكنت كثيرًا ما أقرر التوقف عن إنجاز الفيلم بسبب شعوري بأنني أقوم باستغلال معاناته لأصنع فيلمًا. لكنني كنت في كل مرّة أعود للعمل إيمانًا بأنّني يجب أوصل صوته إلى العالم". ولقد وصلت الرسالة فعلاً؛ إذ حقق الفيلم نجاحًا وعُرض في العديد من المهرجانات وحصد مخرجه جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان روتردام وجائزة النقاد في مهرجان الإسماعيلية للأفلام القصيرة.


أمّا عن سؤالنا حول ردّة فعل حسن بطل الفيلم بعد مشاهدته، فيجيب: "لقد حضر العرض الأول للفيلم وكان سعيدًا ومتأثرًا في الوقت نفسه حتى إنه لم يستطع إكمال بعض المشاهد، فكان يخرج ويعود، وبعد انتهاء العرض قام بحضني وهو يبكي". 


وأثناء انشغال المسّاد بين العمل من أجل توفير المال والعمل على تصوير الفيلم، اضطر لترك دراسته والانقطاع عن الأكاديمية. يعلّق حول أثر هذا القرار على مستقبله: "لقد خسرت الكثير من الفرص لأنني لستُ أكاديميًا، تصوّر أنني أحاضر في ورشات تدريبية على مستوى عربي وعالمي وأخرّج الطلبة وأنا لا أملك شهادة أكاديمية".


تركّز أفلام محمود المسّاد التسجيلية على شخصيات مهمّشة ومعدمة، شخصيات اتخذت ردّة فعل عنيفة من الحياة؛ وإن كان بطل "الشاطر حسن" لجأ إلى المخدرات فإن أبا عمّار بطل فيلم "إعادة خلق" (2008) لجأ إلى العنف من خلال الانتساب إلى المجاهدين العرب في أفغانستان والعراق. لكنه عاد بعد سقوط بغداد إلى مدينة الزرقاء ليواجه حياة كلها شقاء؛ إذ سيطرده والده من البيت ويقطع أي تواصل معه، فيمر بأيام وظروف مادية صعبة جدًا دفعته للعمل في جمع الكراتين المستعملة وبيعها لأغراض إعادة تدويرها -ومن هنا جاء اسم الفيلم- وهي مهنة لا تدر على صاحبها سوى القليل من المال، خاصة إذا كان صاحبها مثل أبي عمّار له زوجتان وعدد من الأبناء.


لقد تجاوز المخرج في هذا الفيلم الطريقة التقليدية في إعداد الأفلام التسجيلية، فلم يكن هناك راوٍ أو محللون يتحدثون عن ظاهرة التطرّف بل جعل الظاهرة تقدم نفسها. فعمل على مدى عامين على متابعة تحركات أبي عمّار وتصويره أثناء عمله في جمع العلب الكرتونية الفارغة وبيعها، كما حضر جلسات أبي عمّار مع أصدقائه وصوّر حواراتهم حول الدين والجهاد والسياسة. هذا الأمر ميّز الفيلم عن الأفلام الأخرى التي أُعدت عن المجاهدين العرب؛ فهو من ناحية سلّط الضوء على الحالة البائسة التي يعيشها هؤلاء، ومن ناحية أخرى كشف عن المنظومة المعرفية التي ينهلون منها من خلال حواراتهم وآرائهم وتناقضها مع تصرفاتهم.


الأمر الذي جعل باب التأويل مفتوحًا بحيث يكون المشاهِد -كما يرى المسّاد- شريكًا في صناعة المعنى والرسالة على عكس الأفلام الوثائقية التي تناول المعنى للمشاهدين بالملعقة. ولقد حقق الفيلم نجاحًا عالميًا، وعُرض في المهرجانات والتلفزيونات الغربية والأمريكية، "حتى إنه جعل المشاهِد الأمريكي يتعاطف مع الحالة الإنسانية لشخص يعتبره الإعلام الرسمي لبلاده عدوًا" ويضيف المسّاد: "للأسف لقد وجدت أن رسالة الفيلم وصلت عالميًا أكثر منها عربيًا".  


أمّا عن ظروف تصوير الفيلم، فقد كانت ظروفًا ملؤها الخوف والحذر نظرًا لخصوصية شخصية الفيلم وطبيعة علاقاتها المتشابكة مع العديد من الأشخاص المتشددين. فكان يجيب عن تساؤلات الناس حينما يصوّر في الشوارع والطرقات بأنه يصوّر فيلمًا عن جمع الكراتين وإعادة تدويرها، أمّا مع أصدقاء أبي عمّار فكان الوضع أكثر خطورة. فكانوا كثيرًا ما يحققون معه حول الهدف من الفيلم ومن يقف خلفه وإن كان يتبع لجهة ما.


محليًا نجح الفيلم في تحقيق تعاطف رسمي مع الحالة الصعبة التي يعيشها بطل الفيلم؛ فحصل على بيت ضمن مشروع "سكن كريم" إضافة إلى مبلغ من المال. غير أنّه خاف من رفاقه وكذب عليهم بخصوص المال وأخبرهم أنه حصل عليه من أخيه الذي يعيش في فنزويلا، ولم تكن هذه الكذبة لتنطلي على رفاقه الذين يعرفون طبيعة علاقته مع أهله.


في عام 2016 سيخرج إلى النور فيلمه الدرامي الأول "إنشالله استفدت" الذي حقق شهرة جماهيرية داخل الأردن وخارجه، وحصد عدة جوائز منها جائزة أفضل ممثل على مستوى آسيا لبطل الفيلم الفنان أحمد ظاهر الذي ظهر لأول مرة في هذا الفيلم، ولقد اشترت شركة نتفليكس حقوق الملكية وهو متوفر على شبكتها حاليا.

 

وعلى الرغم من تصنيف الفيلم فيلما دراميا، فإن المخرج مزج بين الدراما والتسجيل؛ فالفيلم يقوم على قصة حقيقية حصلت مع مقاول صغير أخذ مبلغًا من المال لبناء سور وأنفقه دون أن يستطيع تنفيذ المشروع، الأمر الذي أدخله السجن. 


كما أنّ الفنان أحمد ظاهر هو البطل الحقيقي للقصة، أي إنه قام بتمثيل وقائع القصة التي حدثت معه، باستثناء التعديلات التي اقتضتها الضرورات الفنيّة، وإذ يسلّط الفيلم الضوء على الحياة داخل السجون الأردنية وعلى الفساد في المؤسسات الحكومية مثل مؤسسة الأمن العام وعلى معاناة أبناء هذه المؤسسة ومشاكلهم الحياتية والاقتصادية، من خلال اللجوء إلى الكوميديا السوداء، فإنّ طريقة تصوير الفيلم التي اختارها المسّاد تشبه طريقة تصوير الأفلام التسجيلية. 


رغم نجاح الفيلم على المستويين النقدي والجماهيري فإن الفيلم تعرّض لسوء فهم من قبل البعض الذي رأى في الفيلم إساءة لمؤسسة وطنيّة. عن ذلك يقول المسّاد: "شخصيًا لم يخطر في بالي أنه سيتهمني أحد هذه التهمة، وقد آلمني ذلك؛ فوالدي كان في الجيش الأردني ولقد تربيت على حب هذه المؤسسة. وأعتقد أن من أساء إلى المؤسسات الوطنية هو من جعل أبناءها يعيشون هذه الظروف الصعبة التي عرضها الفيلم في سياق التعاطف لا الكراهية". 


وبخصوص سؤالنا عن أوضاع السينما في الأردن يرى المسّاد أنّ السينما العربية تعيش ظروفًا صعبة، وأردنيًا تعاني الدراما والسينما إهمالًا عامًا، فهي ليست على سلم الأولويات الرسمية، ورغم ما تبذله الهيئة الملكية للأفلام من جهود وأنشطة في سبيل دعم السينما الأردنية فإن الإمكانيات المادية تبقى في حدودها الدنيا. يقول: "في الأردن يوجد فنانون شباب لديهم طاقات وإمكانيات هائلة لكنهم لا يجدون الفرص المناسبة لإبراز مواهبهم، بل إن مواهبهم تضيع أثناء انشغالهم بالبحث عن لقمة العيش وكثير منهم فقراء ويعملون في مهن شاقة".


أمّا عن أوضاع السينما في ظل وباء كورونا فيرى أن أوضاع السينما ستسوء إذا لم تجد اهتمامًا رسميًا؛ ففي بريطانيا على سبيل المثال تم رصد خمسمئة مليون لدعم الفنون وإنقاذها في زمن الوباء.

 

وفي ما يخص دور الفن في رصد التحولات والظروف التي تمر بها المنطقة يقول: "لقد حاولتُ، منذ بداية الأزمة، الحصولَ على تصريح كي أستطيع الخروج والتنقّل في سبيل رصد الحالة الراهنة والتحولات التي تفرضها، لكنني فشلت في ذلك. على الرغم من أن التصاريح تمنح بكثرة للصحافيين ومندوبي الصحف". ويشير المسّاد إلى أن الفنان وحده القادر على رصد التحوّلات الكبرى وتخليدها.

 
التعليقات (0)