مقالات مختارة

الرئيس ترامب وتدمير منظومة العمل الدولي

عبد الحميد صيام
1300x600
1300x600

رفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ وصوله للبيت الأبيض شعارا شعبويا، يدغدغ مشاعر الكثير من البسطاء والفقراء الأمريكيين، يقول «أمريكا أولا». وقد توجسنا شرا من هذا الشعار الفضفاض، ليس لأن الرئيس المنتخب لا يحق له أن يركز على قضايا بلده الداخلية، بل لأنه كما نبه العديد من المحللين، سيعيد السياسة الأمريكية إلى الانكفاء والفردية والأحادية والانعزالية، عاكسا التوجهات متعددة الأطراف التي مثلتها سنوات الرئيس باراك أوباما الثماني.


كنا نعرف أن من أولى خطواته سيكون التحلل من اتفاق إيران النووي، ولكننا لم نكن نتوقع أنه سيتمادى في هذا الاتجاه، وينسحب من العديد من المنظمات والاتفاقيات الدولية والإقليمية، أو يسحب تمويل الولايات المتحدة لها، حتى وصل به الأمر أخيرا أن يوقف تمويل منظمة الصحة العالمية، التي تفاخر بإنجازاتها العظيمة في ميادين الصحة، وما يتعلق بها من الأوبئة والأمراض والنظم الصحية والتدريب، وسوء التغذية للأطفال، ومد يد العون لأكثر من 154 دولة على مدى 72 سنة.


إن مراجعة لمسيرة الرئيس ترامب تشير إلى أن خطره على النظام الدولي تجاوز كل حدود، وأن الأضرار التي سيتركها على مجمل العمل الجمعي لمواجهة التحديات الكونية سيشعر بآثارها أجيال وأجيال. سنعرض أولا صورة سريعة لمنظومة العمل الدولي، ثم نشير إلى الانسحابات التي قام بها ترامب، أو أوقف التمويل عنها.


منظومة العمل الدولي وآلياتها


بعد الحرب العالمية الثانية، واستخلاص الدروس من الويلات التي جلبتها للعالم، بدأت الدول المنتصرة في الحرب، خاصة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، تفكر بإنشاء نظام دولي جديد يخلص العالم من ويلات الحروب وأشرارها. وجاء اقتراح الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت بإنشاء ما سماه «الأمم المتحدة» بتاريخ 1 يناير 1942 في اجتماع لممثلين عن 26 دولة، تعهدوا بأن يستمروا في العمل معا ضد دول المحور حتى هزيمتها. وصدر عن الاجتماع ما سمي «إعلان الأمم المتحدة».

 

وفي 24 يونيو وقع ممثلون عن 50 دولة في سان فرنسيسكو، ميثاق الأمم المتحدة، الذي دخل حيز الإنفاذ بعد أربعة شهور تماما. بدأت الأمم عملها بروح من التفاؤل والتطلع إلى عالم أكثر أمنا وسلاما، يتيح التفرغ للتنمية والتطور واحترام حقوق الإنسان. وتم إنشاء ستة أجهزة للقيام بهذه المهمات: مجلس الأمن مخصص لقضايا النزاع والسلام والأمن وحل النزاعات، والجمعية العامة، الأشبه بالبرلمان العالمي، لإقرار الميزانية ومساعدة مجلس الأمن في العديد من المسائل مثل، قبول أعضاء جدد، وانتخاب الأمين العام، وتشكيل اللجان، وإقرار الاتفاقيات الدولية وغيرها الكثير، ومجلس الوصاية لإدارة شؤون المناطق التي لا تحكم نفسها، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، لمتابعة شؤون التنمية في العديد من المجالات، ومساعدة الدول الأعضاء، ومحكمة العدل الدولية، لتقديم رأي قانوني في مسائل النزاعات ذات الطابع القانوني، كالحدود وملكية الجزر، وأخيرا الأمانة العامة التي ستدير شؤون المنظمة الدولية من يوم ليوم، وعلى رأسها أمين عام منتخب يخدم لولاية مدتها خمس سنوات يمكن أن تجدد لولاية ثانية.


توسيع منظومة الأمم المتحدة


بدأت الأمم المتحدة بعد إنشائها مباشرة، بإنشاء منظمات وصناديق وبرامج متخصصة في مواضيع محددة، للتعامل مع احتياجات عالم متعدد الأعراق والمشاكل والمتطلبات والتحديات. فالدول الخمسون التي أقرت الميثاق عام 1945 تضاعف عددها في السنوات الخمس والسبعين اللاحقة أربع مرات تقريبا، لتصل إلى 193 دولة أخرى، بالإضافة إلى دولتين في موقع مراقب هما فلسطين والفاتيكان.


وسنمر على أهم هذه المنظمات والصناديق والبرامج، التي جاءت لتكمل دور منظمة الأمم المتحدة بأجهزتها الستة. كان من أهم هذه المنظمات التي أنشأتها الجمعية العامة أو أنشئت في مؤتمر خاص بها «منظمة التربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، التي أنشئت عام 1946 لتحسين التعليم، وحماية التراث الإنساني وتبادل العلم والمعرفة.

 

أما اليونيسيف فقد تأسست أيضا عام 1946 للاهتمام بكل ما يتعلق بالأطفال. كما أنشأت الأمم المتحدة لجنة دولية تتعلق باللاجئين عام 1946، ثم عادت وأنشأت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عام 1950، التي تساعد نحو 70 مليون لاجئ ومشرد، أما منظمة الأغذية والزراعة، التي أنشئت في أكتوبر 1945 فهدفها الرئيس محاربة الجوع، ومساعدة الدول النامية في تحسين وتطوير إمكانياتها الزراعية لضمان أمنها الغذائي.

 

كما أنشئت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 1946 لمتابعة انتهاكات حقوق الإنسان، التي تم تطويرها بشكل واسع، لتتحول في ما بعد إلى مجلس حقوق الإنسان. كما تم إنشاء منظمة الصحة العالمية عام 1948 لمحاربة الأمراض المعدية، وقيادة العمل الدولي في المسائل الصحية ومساندة الدول النامية في تطوير قدراتها الصحية.


والحديث يطول في كيفية استكمال منظومة العمل الدولي، التي شملت قضايا السكان والبيئة والتنمية والموئل والأغذية، والطيران المدني، والعمل، والأحوال الجوية والاتصالات والتنمية الصناعية، والملكية الفكرية، والنظم المالية والتمويل، الممثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ونزع السلاح وحظر الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية وغيرها الكثير.

 

وقد أنشأت الأمم المتحدة عددا من المنظمات بعد نهاية الحرب الباردة: منظمة التجارة العالمية (1995) واللجنة التحضيرية لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (1996) والمحكمة الجنائية الدولية (2002) ومجلس حقوق الإنسان (2006) ثم اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية، المعنية بتغير المناخ، التي أطلقت عام 1992 وتطورت إلى اعتماد كيوتو بروتوكول 2012، وأخيرا اتفاقية باريس للتغير المناخي عام 2015.


منهجية ترامب الانعزالية


منذ بداية ولايته يوم 20 يناير 2017 بدأ الرئيس الجديد، اتخاذ خطوات غير مسبوقة لإعادة النظر في كثير من الاتفاقيات الإقليمية أو الدولية، وبدأ ينسحب من الواحدة تلو الأخرى، مخلفا العديد من التوترات والأزمات الإنسانية والسياسية. وهذه هي أهم الانسحابات:


– انسحب أولا وبعد ثلاثة أيام من دخوله البيت الأبيض من اتفاقية الشراكة للتجارة العابرة للمحيط الهادئ، التي تضم 12 دولة بحجة مساعدة عمال الولايات المتحدة.


– قرر ترامب في يونيو 2017 الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ الموقعة عام 2015، مدعيا أنها تضر بمصالح الولايات المتحدة. وقد تعرض للنقد على هذا الانسحاب من أقرب الحلفاء إليه، لما يعني ذلك من خطر على كوكب الأرض نتيجة عدم الحد من الانبعاثات الغازية من أكثر الدول تلويثا للفضاء.


– في مايو 2018 قرر ترامب الانسحاب من الاتفاقية المتعلقة بلجم برنامج إيران النووي، بينما بقيت الدول الخمس الأخرى في الاتفاقية. وهذا الانسحاب أعطى مبررا لإيران، أن تبحث عن مصالحها، بعد إعادة منظومة العقوبات الشديدة عليها. ونعرف كم أدى هذا إلى توتر في منطقة الخليج وبلاد الشام.


– في أكتوبر انسحب ترامب من منظمة التربية والعلم والثقافة (يونسكو) بحجة أن المنظمة منحازة ضد إسرائيل. وهذه هي المرة الثالثة التي تنسحب الولايات المتحدة من اليونسكو، حيث انسحبت منها عام 1984 أيام الرئيس رونالد ريغان وأيام بوش الابن عام 2003 بتهمة معاداتها لإسرائيل.


– في يونيو 2018 قرر ترامب الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، بسبب انتقادات المجلس لانتهاكات إسرائيل المتكررة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.


– وفي أغسطس 2018 قرر الرئيس الأمريكي وقف تمويل وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التي أنشأتها الجمعية العامة عام 1949 بقرار كانت وراءه الولايات المتحدة. والوكالة تقدم المساعدات الصحية والتعليمية والقروض الصغيرة لنحو 5.5 مليون لاجئ فلسطيني موزعين على 58 مخيما.


– وأخيرا قرر ترامب يوم 14 إبريل الحالي وقف تمويل منظمة الصحة العالمية في الوقت الذي يواجه العالم أكبر أزمة صحية، منذ أكثر من قرن، حيث تلعب المنظمة دورا رياديا في مواجهة التحديات الصحية، وإيصال المساعدات للدول الفقيرة المتضررة، وجمع المعلومات عن الفيروس وتوزيعها على الدول الأعضاء. لقد وجد ترامب في منظمة الصحة العالمية كبش فداء يعلق عليه خيبته وطريقته الفجة في التعامل مع الجائحة.


– في بداية فبراير 2019، قرر ترامب الانسحاب من اتفاقية وقف التجارب على الصواريخ البالستية متوسطة المدى، مع الاتحاد الروسي فاتحا الطريق إلى عودة سباق التسلح في المجالات النووية، وربما المجالات الفضائية.


إذا كان لنا أن نستخلص درسا واحدا أساسيا من جائحة كورونا، فهو أن الأوبئة لا تعرف الحدود، ولا يمكن أن تنحصر داخل حدود دولة واحدة، في عالم مترابط متشابك، اثبت مرة وراء مرة أنه قرية كونية صغيرة، لا فرار من مواجهة التحديات العالمية الأخرى، إلا بجهود جماعية منظمة، يقودها الاختصاصيون والخبراء، وليس الباحثين عن المنافع الآنية والمكاسب الانتخابية.

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)