كتاب عربي 21

خطاب التبرير والتغرير و"فيروس كورونا" الخطير.. أحداث كاشفة (55)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
يبدو لنا من خلال بعض الخطابات التي تدور هنا وهناك من قبل هذه المنظومة الانقلابية ورأسها؛ أنها لا تزال تدور في ذات الفلك الذي يتحرك في الاستخفاف بقيمة الإنسان وحياته. وقد أشرنا في المقال السابق إلى طرف من هذا، ومن المهم أن نستكمل كشف المستور عن خطاب مفضوح لهذه المنظومة، خاصة ذلك الخطاب الذي يدعي أنه يحترم قيمة الإنسان ويقدر وجوده وكرامته وكيانه، وأن هذه المنظومة تهدف لمصلحة هؤلاء الناس وتحاول أن تنقذ حياتهم من جراء انتشار فيروس كورونا الخطير؛ إلا أن هذا الفيروس بانتشاره والأزمات المتتالية التي ولدها إنما شكّل في حقيقة الأمر حالة كاشفة من خلال خطاب التبرير والتغرير والزيف والتزوير؛ واستخدام كلمات في غير موقعها وبروز كلمات هنا أو هناك تعبر عن مكنون ما يعتقد هذا النظام ومدى استخفافه بقيمة الإنسان.

ونؤكد منذ البداية أن نظاما ينتهك ليل نهار أدنى الحقوق الإنسانية، ويتهم الناس بالشبهة ويخلع عليهم أوصاف الإرهاب والكيانات الإرهابية بهواه، ويقتل من غير أسباب أو دواعٍ، ويستخف بحياة الناس في السجون والمعتقلات؛ وقبل هذا وذاك، هذا القتل الواسع والمتعمد الذي تمثل في مجازر بشرية، كل ذلك يؤكد كذب هذا النظام في خطابه مهما زينه بكلمات من قبيل خطاب "نور عنينا"، فهو في حقيقة الأمر من "زخرف القول غرورا"؛ يتضمن أقوالا فاضحة وأحداثا كاشفة وأحوالا فارقة تكشف المستور وتفضح كل عمل يؤشر أن ذلك النظام احترف أن يكون من حفاري القبور وخراب العمران.

لدينا على الأقل من الشواهد التي تفضح مسيرة هذا النظام ومواقفه، ليس فقط ما ابتدأه في بداية الأزمة من حالات التعتيم التي ارتكبها، ولكن أيضا حالات الاستهانة والاستخفاف والمهانة والانتقائية المقيتة التي بدا يعالج بها ما فرضه الفيروس وانتشاره الجغرافي والبشري. لقد كان من أهم عناصر مواجهته هو تلك العزلة الإجبارية وحظر التجمعات الاعتيادية حتى العبادية منها. ومن ثم فإن التجمعات الاستثنائية التي يفترض أنها من تجمعات الضرورة القصوى التي تتعلق بالحياة الإنسانية واستمرارها؛ هي أمور تقدر بقدرها ضمن القبول بهذه التجمعات الاستثنائية وما لها من شروط، تحديدها ليس هوى أو تحكما يقوم به نظام يحاول أن يُثبّت قبضته الغاشمة التي لا تلين وسيطرته الطاغية التي لا تنفك.

وبغض النظر عن تقييم البعض لتلك السياسات ومدى فعاليتها من خلال محدودية انتشار الحالات وعدد الوفيات نسبيا ومقارنة بدول أخرى؛ فإن الأمر في حقيقته لا يعود إلى سياسات متعمدة ومخططة من النظام. تحاول تلك المنظومة أن تدعي إنجازا لها في هذا السياق وتنسبه لذاتها، ضمن عقلية "التمجد الزائف" الذي أشار إليه "الكواكبي" في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". هذا المجد المُدعى والإنجاز المراد نسبته إليهم (العسكر) هو في حقيقة الأمر كمثل هؤلاء الذين "يحبون أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا".

وفي الواقع أن الحديث والخطاب الذي يتعلق بعسكرة المجتمع ونسبة كل إنجاز إلى العسكري من دون المدني، وفي إطار ذلك الخطاب "الدولتي"؛ هذا التمجد الزائف الذي أشرنا إليه هو في حقيقة الأمر منهج مستقر ومستمر لدى العسكر الذين يريدون أن يتحكموا وأن ينسبوا إلى أنفسهم ما لم يفعلوا؛ وما أمر "جهاز عبد العاطي" ليس ببعيد، والذي شكّل فضيحة كبرى وتمجدا زائفا انكشفت حالته وظهرت فضيحته، وظل هذا الأمر مع وجود انتقاد متصاعد للواء عبد العاطي الذي لم يكن إلا لواء مزيفا أُنعم عليه بالرتبة؛ لم يكن كل ذلك إلا نموذجا لهذا التمجد الزائف. وحينما تصاعدت الانتقادات لهذا المشهد الساخر لم يكن هناك إلا من رد متعنت "احترموا على الأقل البدلة الميري"؛ وكأن هذه البزة العسكرية تمنع الانتقاد ولا تقبل الصدع بالحق أو انكشاف المستور.

يذكرنا ذلك بذات الخطاب حينما تساءل رأس الانقلاب: "من المسؤول هنا" في زيارة له لإحدى المنشآت؛ وحينما قيل له "أنه اللواء فلان" حوّل الدفة ليتساءل بعنجهية وعنصرية "فين المدني اللي هنا"؛ فالعسكري لا يُنتقد والمدني "تُمسح بكرامته الأرض". هذه العنصرية الفاشية المعسكرة صارت جزءا من خطاب مستقر يؤكد عليه قائد المنظومة الانقلابية، ويجعل من كل ذلك عنصرا من عناصر هيبة الدولة. أما الحالة المدنية فهي حالة مستباحة تُسَب على قارعة الطريق ويُستَهان بها من كل طريق.

إن النموذج الذي تتعامل به تلك "المنظومة المُعسكرة" و"الدولتية" في ذات الوقت جرى مع الأطباء الذين يقومون بالدور الأكبر في مواجهة هذه الأزمة، وطغى خطاب التمجد الزائف تبريرا وتزويرا؛ المعتمد في هذا المقام. فالعسكر هم الذين يقومون بكل شيء، وهم الذين يواجهون كورونا، وهم الذين يتعرضون لكل تضحية، أما شأن الأطباء فأُهمل وأُغفل وإلا وصفوه بأنه "الجيش الأبيض"، وكأنهم لا يسندون فضلا إلا للجيش أو العسكر. هذا حال العسكرة وحال خطاب الدولتية الذين يدعمون هذه الحالة الانقلابية.

وهذا خطاب حول العالقين، وفي وصف خطير لهم سماهم البعض بـ"اللاجئين"، هؤلاء الذين أمدوا مصر دوما بتحويلاتهم الدولارية وشكلوا سندا لاحتياطي العملة الصعبة؛ صاروا في هذه الحال التي تسائل المنظومة الانقلابية، فخلعت عليهم من الأوصاف السلبية من مسؤولين أو إعلاميين بأنهم لاجئون أو وصفهم البعض بأنهم من أهل الشر من الإخوان المسلمين يريدون تشويه صورة مصر؛ وكأن كل هؤلاء الذين أرادوا أن يعودوا إلا مصر صاروا إخوانا وسببوا مشكلة لأهل الانقلاب والسلطة.

ووفق هذه المعالجة حاول البعض تجميل ذلك لإبراء ذمة النظام؛ إلا أن المطلوب منهم حتى يعودوا شكل أمرا يؤكد كيف أن هذه المنظومة تستخف بحياة أي إنسان طالما كان مدنيا، وأنه ليس من حقه أن يطالب بحق العودة. وحينما ضج هؤلاء وأرادت هذه المنظومة أن تواجه ذلك، أسفرت عن وجهها الجبائي المرابي القبيح، فأكدت أن من علق عليه أن يدفع حتى يعود وإن عاد فليدفع حتى يخرج من الحجر. نظرة خطيرة للمواطن بأنه لا يساوي إلا إن دفع "هتدفع يعني هتدفع".

ومن جملة الخطاب المؤسف والمُسِف الاستخفاف بتديّن الناس، حتى أنهم صدّروا وزيرا للأوقاف لا يحسن قراءة الفاتحة؛ فإذا به تُتخذ تصريحاته وخطاباته وكأنه يطارد مجرمين من المصلين، بينما سنرى أن تجمعات الممثلين مثلا مسموح بها، وأن تجمع الناس في العتبة والموسكي مسموح به، وأن تجمعات أخرى ثانوية وهامشية مسموحا بها، وأن حظرا على قرى بأكملها من دخول وخروج مأذون به. إنها ليست حالة لمعالجة الموقف أو الأزمة أكثر من كونها حالة تحكم من منظومة انقلابية تحاول أن تجعل من أوامرها التي تلقيها وتفرضها على قاعدة من معايير متعددة ومزدوجة هي الشأن الذي يتعلق بتأكيد قبضتهم (العسكر) القوية وإذعان المدنيين، وخروج الإعلاميين باتهام الشعب بأنه المقصر الجاهل أو الشعب الفاشل. فإن كان هناك من إنجاز نُسِب إليهم تمجدا، وإن كان هناك من خسران نسب إلى الشعب تهاونا. إنها حالة مستعصية في تعامل تلك المنظومة الاستبدادية حينما يتعلق الأمر بالأمور الإنسانية وعموم الناس.

ولنا في النهاية أن نؤكد كيف أن هذه المنظومة لم تستجب لأي دعوات تتعلق بخروج المعتقلين، رغم أن هذا صار سياسة من قبل كثير من الدول حتى المشهور منها بالتحكم والاستبداد؛ ولكن هذه المنظومة الانقلابية اللاإنسانية رفضت كل هذا وسخرت منه وهاجمت كل من طالب به، وسارت ضمن مسارها المعتاد بالاستخفاف بالنفوس. بل إن هذه السلطة الغاشمة الباطشة صعّدت من حملات اعتقال غير مفهومة، فأضافت للمعتقلين داخل السجون معتقلين جددا بشكل غير مفهوم؛ إلا أن تؤكد أنها ماضية في طغيانها وتسير ضمن مسيرتها اللاإنسانية، فوصفت البعض وأدخلتهم في الكيانات الإرهابية، وصادرت الأموال ووضعت الممتلكات تحت الحراسة، واعتقلت من الشباب وطاردتهم في القاهرة والإسكندرية وفي المحافظات في حملة مسعورة؛ آخرها محامية اختطفت ولديها طفل رضيع، لا يُعرف مكانها، قبيل أيام من شهر رمضان، ولكنها تحكمات منظومة لا سقف لها في البطش ولا عقل لها في الاستبداد؛ فمتى كان الطاغية رشيدا ومتى كان رحيما؟ (وما أمر فرعون برشيد).
التعليقات (0)