كتاب عربي 21

قصة عنكبوت

أحمد عمر
1300x600
1300x600
وحيد، كصالح في ثمود، منفي في قرية ألمانية، سكانها جميعاً من بقايا الحرب العالمية الثانية، إنها قرية موحشة، كأنها خالية من الشباب. أقيم في بيت في بناية من سبعة طوابق، سكانها فرادى، آحاد، ليس فيها أسر وعائلات. القرية شديدة السكون، لا كلب ينبح، لا هرة تموء. السكان إما هم آباء هجرهم أولادهم، وإما أمهات هجرن أزواجهن، أو عجائز في الخريف ينتظرن ربيعاً لن يعود. البيت يطل على غابة، بعيداً عن العمران والضوضاء، أسمع في الليل الساكن صوت القطار يعزف نشيد السفر على سكة الحديد غير الموسيقية، لا أسمع صوته سوى في الليل.. أمامي نافذة واسعة، زجاجية، نسجت عليها عنكبوت بيتاً، فبدت لي الغابة وكأنها وقعت في الأسر.

مرة قلت لجارتي الألمانية العجوز، التي جاءت تزورني، وقد شعرت بالوحشة، أنا الذي دعوتها، فكل غريب للغريب نسيب، كلانا نازحان، هي من الأسرة، وأنا من الوطن، هي غريبة زمان، وأنا غريب اليد واللسان والزمان والمكان: إنَّ الزمن لم يعد كما كان، تقلص كما يتقلص الماء في الثلاجة، والثلاجة هي العالم. العالم زادت فيه الشقوة والجفوة والقسوة والحروب والسدود، وكثر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. وجهدت في الشرح، وإثبات الأمر علمياً، وقلت وأنا أراقب العنكبوت: إنَّ كوكب الأرض لم يعد كما كان، لقد جنح ويكاد تغرق مثل التيتانك في البحر المحيط الفاسد، وقلت: إن الأرض تتقلص بظاهرة الصوبا وتتآكل من أطرافها، وإن الزمان أيضاً يتقلص مثل المكان، ودعمت رأيي بفيديوهات شارحة، وهي مهندسة، لكنها لم تقتنع، فاليوم لا يزال مكوناً من أربع وعشرين ساعة، والساعة من ستين دقيقة، والدقيقة هي نفسها، ولم أكن أعرف نظرية النسبية وتدفق الزمن وتغيّره.

شعرت بأني وحيد، كصالح في ثمود، وأنا أراقب العنكبوت المتربص في الركن، وأعجز عن تحرير فكرتي من مصيدة شبكة العنكبوت.

اجتهدت في أن أشرح لها الزمان بشفاعة عنصر المكان، فالمكان زمان صلب ثابت، والزمان مكان مرن وسائل، وقد امتلأت بيوتنا بالأثاث، وبيوتنا أمكنة، حتى لم نعد نستطيع الحركة، وهي ضيقة، وكانت بيوت أسلافنا واسعة، ولم يكن على بيوتهم ضرائب، وتنار بنور بالقمر، ولا يدفعون مالاً عن آبار الماء، ولا مالاً عن أجور البريد، فالحمام الزاجل لا يأخذ أجرة. ضاقت بيوتنا، فضاق الزمان، ولم تقتنع جارتي. وكانت العنكبوت ما تزال رابضة في الركن. لم أحدّثها عن البرَكَة، هي لا تعرف معنى البَرَكة، لم أذكر لها حديثاً شريفاً يتنبأ بضيق الزمان آخر الزمان، "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة في النار".. السرعة في عقيدة المكان هي الضيق، والضيق في عقيدة الزمان هو السرعة. الزمان له إخوة، أو خؤولة، أو عمومة مع السرعة حتى في قانون نيوتن. زمننا سريع، إذاً هو ضيق.. كأنها همّتْ بأن تقول لي: لمَ لا تزيل بيت العنكبوت حتى تنجلي لك محاسن الغابة؟ وقد لاحظتْ كلفي بالعنكبوت، لكنها لم تفعل، فالألمان يحترمون خصائص البشر، وإن كانت الخصائص البشرية، قد ذابت من شدة العزلة. كنت سأقول لها إني أشغل نفسي بمكيدة العنكبوت عن حرب التلفزيون.

غادرت الجارة الألمانية، من غير اقتناع، بعد أن أكلت كعكاً كثيراً بالتمر، فعدت أسيراً في شبكة العنكبوت، ثم عثرتُ على جواب مقنع، وكان جوابي هو العنكبوت. وجدت أنَّ العناكب تعمر بيوتها سريعاً حتى أني لأخشى أن تبني بيتاً على أجفاني المفتوحة وأنا أرصدها.

دمرتُ بيت العنكبوت، وهو بيت واهن، بعود ثقاب، من غير جهد "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون"، مع أن خيط العنكبوت من أقوى الخيوط. ليس لخيط العنكبوت مثيل في أمرين: المتانة والنعومة، وبيتها يتداعى من قطرة مطر، ومن نفخة ريح. وهن البيت يتجلى في المعنى الاجتماعي، فبيت العنكبوت بيت فاسد، لا يقي برداً، ولا ويحجب شمساً، هو أصلاً بُني ليكون مصيدة لا مأوى، والعنكبوت من أشرس القتلة، لكنها مثل حكوماتنا، تضع قفازات حريرية.

ووجدت بيوت جيراني الحريرية واهنةً مثل بيت العنبكوت، ورحت أعدّ على أصابعي: جيرد شاب هجر أهله ويقيم وحده، مانفريد هجر زوجته وأولاده ويقيم مع عشيقته، مانويلا تقيم وحدها مع كلبها... تقول كتب العلوم: إنَّ أنثى العنبكوت هي التي تبني البيت، وتلتهم الذكر بعد ليلة الدخلة، فإن فرَّ بجلده، نجا وفاز، وإن لم يفر، وقع بين براثنها، أو براثن العناكب الصغيرة الفاقسة من البيوض، والعناكب الوليدة تأكل بعضها بعضاً في بعض أصناف العناكب.

دمرتُ البيت الواهن، فظهر حسن الغابة التي غدت رتيبة حتى كأنها صناعية. قصدتُ المطبخ وأعددتُ شاياً طيب الأعراق، وعدت، كانت العنكبوت قد أعادت ترميم بيتها ونصبت مصيدتها من جديد.. العروس تنتظر فارسها على حصان أبيض، يتزوجها ثم تأكله فتبلغ النشوة.. نحن في زمن السرعة، ربما هي جائعة، وجدتُ بناء البيت آية على ضيق الزمن، والسرعة هي أخت الزمن، وربما خالته، نحن نقدّر الزمن بعناصر السرعة والبطء، الفرح والحزن، في الفرح نحسّ أنَّ الزمن سريع، وفي الحزن نشعر أنه بطيء، مسحت عيني من أثر الخيوط الحريرية التي نسجها عنكبوت النعاس.

بعد أيام ظهرت شبكة عنكبوت جديدة داخل الغرفة المطلة على الغابة الموحشة، فأُحكم الحصار على النافذة من الداخل والخارج، وأفسدت عليَّ مشهد الغابة المطيرة الساكنة، لكني ما زلت أسمع صوت القطار وهو يعزف نشيد السفر على سكة الحديد، فأحسُّ بوحشة كبيرة، وأشعر أني فقدت رحلتي، وبقيت وحيداً. صيد في الداخل وصيد في الخارج. أقرأ وأراقب وأخافر وأرصد العنكبوتتين، وأتجنب متابعة الأخبار وكلها عاجلة، فنحن في زمن العجالة والعجول الذهبية المعبودة. انتبهت إلى فراشة في غرفتي، تحاول الخروج وتصطدم بزجاج النافذة السميك القاسي، وتحاول عبثاً الحرية وهي تتخبط خبط عشواء في لزوجة الحرير الخادع، وهي تقصد النور مثل النباتات والبشر.

قلت لعل الفراشة حلم من أحلامي. نحن نتفاءل بالفراشة، والفراشة قصيرة العمر ورمز البشائر. حاولت الفراشة البحث عن منفذ، إلى أن مسّت بجناحها مصيدة العنبكوت، فتركت أثرها..أثر الفراشة، الذي أحست به العنكبوت فهاجت وماجت وأرعدت وأزبدت، وتقدمت على بحر الحرير الذي تلاطمت أمواجه، بقوائمها الطويلة كقوائم الزرافة، ثم وثبت إليها وثبة واحدة، وانقضّت عليها كما في أفلام الرجل الوطواط، وسرعان ما جندلتها وأحكمت حولها الوثاق حتى صارت كالمغزل. يقال: إن قوة خيط العنبكوت لو كان بسمك الإصبع لأمكن حمل طائرة جامبو به، وخيط العنكبوت أقوى مادة بيولوجية معروفة، فتذكّرتُ معتقلات بلادي الفولاذية، حيث الداخل مفقود والخارج منكود.

بدأت العنكبوت تأكل حلمي الذي حاول عبور الزجاج السميك، ورحت أستمتع بمشهد افتراس العنبكوت البشرى الطرية الهشة، وقلت: إن قلبي أمسى قاسياً، فهو كالحجر، وأدركت عِلّة تصوّير المصورين الهواة والمحترفين الضحية بين براثن الوحش الصياد، وشعرت بوحشة شديدة، وبقيت وحيداً كصالح في ثمود، وحيداً مثل جميع سكان العمارة الثكالى والأرامل والأيتام، الذين يتخبطون في شبكة الزمن بانتظار العنكبوت. خرجت إلى الشرفة، ونظرت إلى الفراشة الضحية، فرأيت خلف الزجاج خريطة العالم المثبتة على الحائط، وفي موضع الفراشة تماماً، وجدت وطني بين براثن العنكبوت تتلاشى كالسعفة المحترقة!

أصغيت، فسمعت القطار وهو يغني أغنيته الحديدية. ماجت موجة حريرية من أثر النسيم، وجرفتني موجة الوحدة، فهويت إلى أعماق المحيط، ورحت أغوص وأغرق، وشعرت أني وحيد، محيد، قحيد، بعد أن فقدت وطني، ورحلتي. وجعلت أستمتع بمشهد العنكبوت، وأتخبط وأحاول النجاة والعنكبوت تقرض كبدي، وعيناي مفتوحان، شاخصتان، على المدى مثل عيني البشرى الملونة المغدورة.
التعليقات (0)