أخبار ثقافية

محمد يونس القاضي.. نهاية لا تليق بمكتشف النجوم

محمد يونس القاضي
محمد يونس القاضي

في الأول من يوليو سنة 1888، ولد محمد يونس القاضي بقرية النخيلة بمركز أبو تيج، في صعيد مصر. كان والده قاضيا بينما كانت والدته من أعيان القاهرة الفاطمية.

تركت الأسرة بصمة واضحة في تنشئة طفلها. فقد ألحقته بالكُتّاب حتى حفظ القرآن، كما تأثّر بالصالون الأدبي الذي أقامه والده وحضرته نخبة من أصدقائه. وقد عُنِيَتْ أسرته بتنشئته، فألحقته بالأزهر الشريف بعد دراسته الأولى في الكُتّاب. وفي مرحلة التلمذة بدأ الصبي يختبر حظه من الإبداع بكتابة قصائده الأولى، فكان أبوه يكافئه عليها، ويشجعه على دراسة الأدب والبلاغة العربية الكلاسيكية.

كافأ الصبي جهود أسرته بإنجاز مبكر. بدأ يشق طريقه كصحفي بالنشر في الصحف والمجلات وهو بعدُ تلميذ في المدرسة، في سنة 1905. نشر في صحيفة "المؤيد"، وصار زجّال مجلة "السيف"، ثم انتقل للنشر في مجلة "المسامير" ثم "اللطائف"، التي تدرّج فيها حتى رأَسَ قسم الأدب والفن.

وبالإضافة إلى الشهرة التي نالها القاضي بسبب مقالاته وأزجاله الساخرة وأغانيه، فتحت له الصحافة، أفقا سياسيا واسعا، حين كانت سببا في تعرفه إلى الزعيم الوطني مصطفى كامل، الذي فجَّر حسَّه الوطني، فعزم، بإصرار، على تبنِّي الخطاب الوطني المناهض للاستعمار، ونظم المظاهرات المناوئة للاحتلال مع زملائه من طلاب الأزهر، وخاض في سبيل ذلك معارك أدبية وسياسية متتالية، ذاق بسببها مرارة السجن على يد المستعمر البريطاني.

ولعل المثل الأشهر لذلك هو النشيد الوطني لمصر "بلادي بلادي بلادي"، الذي ألّفه القاضي مستلهما أحد خطابات مصطفى كامل، رغم وجود خلاف تاريخي حول مؤلف هذا النشيد، لكن يبدو من أدلة مختلفة أنه من إبداع القاضي، أهمها تسجيله الأغنية باسمه في المحكمة المختلطة بالقاهرة في يناير 1923، قبل ظهور جمعية المؤلفين والملحنين المصرية، وكانت تلك وسيلة توثيق النصوص وقتها.

 

اقرأ أيضا: أغنى رجل في العالم.. يموت من الجوع

عبْر الأغاني والأزجال والمسرحيات، ناضل القاضي. كان مصطفى كامل خطيبا مفوّها وقورا، وكان يلقي خطبه بالعربية الفصحى وأحيانا بلغة أجنبية، لا تفهمها الطبقات الشعبية البسيطة، فكان القاضي ترجمانا لها عبر عاميَّته الساخرة النابضة، التي يتلقف البسطاء، عبرها، أفكار الزعيم الوطني، الذي أحب القاضي كتلميذ نجيب، وظل يرعاه ويوجّهه في عالم الصحافة.

مع الأيام، ازدادت خبرة القاضي بالكتابة واقتحم عالم الكتابة المسرحية (أبدع 58 مسرحية). وحين نُفِي سعد زغلول ورفاقه سنة 1919، بسبب مقاومتهم للاحتلال البريطاني وإصرارهم على حضور مؤتمر السلام في باريس لعرض مطلب الشعب المصري بالاستقلال، حينها اندلعت المظاهرات والاحتجاجات في شتى أنحاء مصر، وهو ما أثار غضب المحتل البريطاني، الذي كان يحكم بالحبس ستة أشهر على كل من يذكر اسم سعد زغلول.

لكن القاضي هزأ بالمحتل على طريقته، فظل يردد اسم سعد زغلول على نحو لا يمكن تجريمه، بتضفيره في سياقات أغانيه ومسرحياته، بحيث لا يمكن الإمساك به ومحاكمته عليها محاكمة قانونية، من ذلك أغنيته الشهيرة يا بلح زغلول، التي لحّنها سيد درويش وغنّتها نعيمة المصرية:

"يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح
يا بلح زغلول يا زرع بلدي
عليك يا وعدي يا بخت سعدي
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
عليك أنادى في كل وادي
قصدي ومرادي"

وكتب أيضا أغنيته الشهيرة "شال الحمام" التي غنّتها منيرة المهدية، وظاهرها عن الحمام، لكنها في الحقيقة تذكر الترابط بين مصر والسودان، وتنشد مقاومتهما للمحتل، دون أن يُغْفِل التغني باسم الزعيم سعد زغلول، متلاعبا بالمعنى المزدوج للكلمة، التي تدل في المصرية الدارجة على فرخ الحمام، مثلما تدل على نوع معروف من البلح "الزغلول"، بينما تدل أيضا على اسم الزعيم المصري. يقول القاضي في الأغنية:

شال الحمام حط الحمام
من مصر السعيدة للسودان
زغلول وقلبي مال إليه
أنده له لما احتاج إليه
يفهم لغة اللي تلاغيه.

وكانت مسرحياته تنتهي بانطلاق الجمهور من المسرح إلى مظاهرة تهتف ضد الإنجليز، الذين اضطروا أحيانا إلى منع مسرحياته، مثل مسرحية "كلها يومين"، التي مُنِعت 17 مرة.

وقد انتشرت في الصحافة المصرية أخبار عن اعتقال القاضي 19 مرة على يد الإنجليز، لكن دون توثيق دقيق أو تفاصيل واضحة عن أي منها، وهو ما يرجح كثرة مرات اعتقاله بغض النظر عن مدى دقة العدد المتداول.

***
على أن تاريخ القاضي مع المغنين والملحنين طويل، حافل بالطرائف. يروي المؤرخون أنه سافر إلى الإسكندرية ليلتقي بسيد درويش، وكان الشيخ سيد قد تهوّر وضرب معشوقته "جليلة" ضربا مبرحا، أثبتته النيابة، فظلت الشرطة تبحث عنه، دون أن يدري القاضي، الذي كان يبحث عنه أيضا، وكلما سأل أحدا عنه ارتاب فيه أهل الإسكندرية، حتى دلّه على مكمنه سائق حنطور. تعانقا منذ أول لقاء، وتعاونا في أغنيات كُتِب لبعضها الشهرة والنجاح حتى يومنا الحاضر، وكان القاضي قد كتبها مستلهما عشق سيد درويش للراقصة السكندرية الشهيرة "جليلة" التي لم تكن تبالي بعشق الفنان الفقير سيد درويش. منها: "أنا هويت وانتهيت"، و"أنا عشقت"، و"زوروني كل سنة مرة".

 من طرائفه أيضا أنه مكتشف موهبة أم كلثوم، والأغرب أنه اكتشفها بصعوبة، بعد عدة عقبات كادت تحرم الأذن العربية من صوت سيدة الغناء العربي. فقد سافر إلى أبيها في إحدى قرى المنصورة، محاولا إقناعه بأن يسمح لها بغناء الأغاني الوطنية، بالإضافة إلى الإنشاد الديني، فرفض أبوها. ثم كرّر القاضي محاولته في القاهرة، بصحبة سيد درويش مع عرض سخي منه بمنحها ألحانه دون مقابل، فرفض الأب ثانية، لكن القاضي ظل يلح عليه حتى وافق أخيرا. وكانت إحدى أغنياتها الأولى التي أطلقت شهرتها هي "قال إيه حلف مايكلمنيش"، من كلمات القاضي وألحان عبد الوهاب.

***

ربما كانت خاتمة القاضي أقسى ما في حكايته، التي تفيض مرحا وسخرية ونشاطا ونضالا. فقد عمل رقيبا على المصنفات الفنية، وهو عمل غريب على طبيعته الجريئة العاشقة للحرية، وكان ذلك بداية تواريه عن الساحة الفنية، كما لم ينل حظوة لدى ضباط دولة يوليو 52. ثم عانى من المرض، حتى صرح لجريدة الأخبار بشكواه المريرة: "أنا أعيش في ضياع. أريد أن تمر أيامي بسرعة. أعيش الآن تائها. صرفت كل ما أملك على الأدوية والعلاج. الخوف من الأيام يطاردني. إن آلامي من الناس فاقت كل ما تجمع في جسدي من آلام".

ورحل في يونيو 1969، بعد معاناة طويلة مع الفقر والمرض، دون أن يدعمه بعض أصدقائه الذين أصبحوا نجوما متألقة في سماء الفن، مثل عبد الوهاب وأم كلثوم.

1
التعليقات (1)
morad alamdar
السبت، 15-02-2020 10:39 ص
آلاء جابر عبد الجيد إدريس = كلية أصول الدين جامعة الأزهر : ( الماضي ) كثير منا يؤثر أن يطوي صفحات الماضي فارا بذلك من ذكرى تؤرقه أو فجيعة تقص مضجعه أو واقعة يعتصر لها قلبه ألماً ، لكن .. هل تكون هذه الحال إذا كان الماضي يحمل أجمل الذكريات و أحلاها ، و أسعد الأوقات و أصفاها ؟ إن الماضي مع ما به من صعوبات و لحظات حرجة و مواقف غير هينة و أيام حزينة ، و رغم ما يحويه من ألم و سعد و فراح و أتراح ، عند بعض الناس هو الأفضل .. أتصدقني إذا قلت لك إنني من هؤلاء الناس الذين يعيشون على أمل الماضي رغم حداثة سني التي من المفترض أن يصحبها تطلع للمستقبل ؟ بل أعجب من هذا أنني أسترجع ما في الماضي من فرح فأفرح و ما فيه من ألم فأتألم و أسترجع ما فيه من لحظات حزينة فأجدد الحزن الذي في قلبي ، بل و في بعض الأحيان أزيد على الحزن حزناً و على الكمد كمداً .. و إذا سألتني ما كل هذا العناء ؟ قلت : ذلك أن يامي الحاضرة تمر علي و لا أعلم كيف أفيد منها أو أنفع فيها أحداً ، فعذراً سيدي دعني أعترف لك بكل جرأة منكسرة بأنني للأسف الشديد كغيري كثير من الشباب أفقد الهدف الذي أسعى لكي أحققه .. أما الأمل ، فأشعة الشمس التي تظهر في كل يوم في علوها و إشراقها أقرب إلي من أملي ، فكم من المرات حلمت و حلمت بأشياء كنت أتمنى أن تتحقق لي و لجهلي و قلة خبرتي كنت أظن أنني أملك أملاً لتحقيقها و بعد أن كاد يتحقق سلب مني ، فرضيت بقضاء الله و قدره ، و لكن من بعدها أصبحت أشعة الشمس تشرق علي وحدي و مع ذلك لا تشرق على أملي .. و إني لأطرح بين يديك أيها القارئ الكريم ذاك السؤال الذي بات يهزني هزاً كلما طرحته على نفسي : هل أنا بهذا مؤمنة بقضاء الله و قدره ؟ أم أنني خاضعة خانعة أحمّل القضاء و القدر ما اقترفته يداي ؟ .