قضايا وآراء

الإسلام والرجم (29): الزرقا والقرضاوي يقولان بأن الرجم تعزير لا حد

عصام تليمة
1300x600
1300x600

ذكرنا في مقالنا السابق أن عالمين كبيرين من علماء الشريعة قالا بأن الرجم تعزير لا حد، وقال بنفس هذا القول: أن الرجم عقوبة تعزيرية: العلامة المرحوم مصطفى الزرقا، والعلامة الدكتور يوسف القرضاوي، أما الزرقا فقد ردّ في رسالة على سؤالٍ وخطابٍ من المستشار علي منصور يسأله عن رأيه فيما قاله أبو زهرة، فكان مما قال:

(ولكني أرى مجالاً كبيراً لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالرجم في تلك الحوادث الثابتة على سبيل التعزير لا على سبيل الحد، إذ رأى أن زنى المحصن المستغني بزوجة شرعية يحتاج في ذلك العهد إلى زاجر أقوى من زاجر البكر، ليقضي على سفاح الجاهلية المشهور، وتتأصل الرهبة من هذه الجريمة الشنعاء في نفوس المسلمين. وهذا أمر يعود تقديره شرعاً إلى ولي الأمر كما في سائر الحالات التي تستوجب الزجر بالتعزير المفوض إلى ولي الأمر.

وعندئذ يمكن أن يقال في أمر الرجم ما يقال في كل تعزير من أنه مفوض إلى ولي الأمر بحسب ما يرى من المصلحة: فإن شاء طبقه، وإن شاء اكتفى بالجلد الذي هو وحده الحد، وإن شاء جمعهما حداً وتعزيراً، وإن شاء حد المحصن حداً، وزاد عليه زاجراً آخر غير الرجم تعزيراً لأن زناه أشد وأفظع من زنى البكر، كل ذلك بحسب ما يرى من وجه المصلحة، والحاجة الزمنية والشخصية، وفقاً لقاعدة التعزيرات، نظير ما نرى في قوانين العقوبات اليوم من تخيير القاضي بين حدين أدنى وأعلى من عقوبتي التغريم والحبس كلتيهما أو إحداهما، وهو مما تتقبله قاعدة التعزير الشرعي في الإسلام)(1) .
دليل الزرقا على أن الرجم تعزير:

يقول الزرقا: (وهذا الرأي (أعني حمل ما ورد من السنة في الرجم على قاعدة التعزير) - وإن كان لم يره أحد من الأئمة الأربعة - تشهد له بعض الدلائل في الحديث النبوي نفسه الذي قرر حكم الرجم: ذلك أنه بعد أن قرر القرآن في سورة النساء العقوبة المبدئية للزنى بقوله تعالى: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلًا} النساء: 15، نزلت عقوبة الجلد في سورة النور للشريكين المتزانيين، فأعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بقوله: "خذوا عني خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم بالحجارة". ففي هذا الحديث النبوي، الذي هو النص الأصلي في تشريع الرجم، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أضاف على الجلد الذي ورد في القرآن تغريب عام للبكر، وأضاف الرجم للثيب، وبهذا أخذ فريق من الأئمة فقالوا: إن الحد في كل منها يتكون من العقوبتين معاً: التغريب مع الجلد في البكر، وكذا الرجم مع الجلد في الثيب.

لكن الحنفية ذهبوا إلى أن التغريب في البكر ليس جزءاً من الحد، بل هو تعزير مفوض تطبيقه وعدمه إلى رأي الحاكم ولي الأمر، وذلك بدليل قام لديهم من السنة نفسها، فالتغريب المقرون بالجلد في البكر، والمعطوف عليه عطفاً يَشْرَكه في الحكم، إذا صح أن يعتبر تعزيراً كمذهب الحنفية، ويكون الحد هو الجلد فقط، كان هناك احتمال كبير لأن يكون الرجم كذلك، وقد وردا في نص واحد وتعبير متماثل، وأن يكون ما أريد من قصد التعزير بالتعبير الأول الذي أضاف التغريب مراداً أيضاً في التعبير الثاني، الذي أضاف الرجم في نص واحد)(2) .

4ـ يوسف القرضاوي:

وللعلامة الشيخ يوسف القرضاوي الرأي نفسه فقد ذهب إلى أن الرجم تعزير لا حد، وذلك عندما كان الشيخ محمد أبو زهرة في مؤتمر في ليبيا سنة 1972م، وأعلن برأيه برفض الرجم، فهو من القائلين بأنه ليس حداً بالأساس، وذكر أدلته على رأيه، وسوف نذكرها في موضعها، وقد التقاه القرضاوي بعد الجلسة التي أعلن فيها برأيه، ودار بينهما حوار، ذكره الشيخ القرضاوي، فقال:

(وقد لقيته (أي أبا زهرة) بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟

قلت: جاء في الحديث الصحيح: "البكر بالبكر: جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة".

قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازماً في كل حال.

وعلى هذا نقول في الشق الثاني من الحديث: إن الحد هو الجلد، والرجم سياسة وتعزير، مثل التغريب والنفي، فنثبت ما جاءت به الروايات من الرجم في العهد النبوي، فقد رجم يهوديين، ورجم ماعزاً، ورجم الغامدية، وبعث أحد أصحابه في قضية امرأة العسيف، وقال له: اغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها. وكذلك ما روي أن عمر رجم من بعده، وأن علياً رجم كذلك. ولكنا نفسر هذه الوقائع على أنها لون من التعزير والسياسة الشرعية.

ولكن الشيخ لم يوافق على رأيي هذا، وكان رأي الشيخ الزرقا مع الجمهور، ولكنه يخالف الجمهور في تعريف (المحصن)؛ فعندهم: أن المحصن من حصل له الزواج، وإن فارقته زوجه بطلاق أو وفاة، وبات في واقع الحال لا زوجة له، وعند الزرقا: المحصن: من له زوجة بالفعل. وهذا رأي الشيخ رشيد رضا ذكره في تفسير المنار)(3) .

ومؤخراً كتب شيخنا القرضاوي كتاباً، لم ينشره بعد، ذكر فيه رأيه في الرجم، وقد قال فيه بوضوح: (ورأيُنا في عقوبة الرجم أنها عقوبة تعزيرية، موكولة للإمام بحسب ما يراه محقِّقاً للمصلحة العامة، وقد ذكرت رأيي هذا من قديم، وهو ما أراه اليوم، فقد كنت مع شيخنا العلامة الزرقا في ندوة التشريع الإسلامي بمدينة البيضاء في ليبيا، واستمعت معه إلى العلامة أبي زهرة في رأيه في الرجم الذي كتمه عشرين سنة، ثم باح به، وردود المشاركين في الندوة عليه، وقد ناقشت شيخنا أبا زهرة هناك، وذكرت له توجيه الحكم على أنه تعزير، كما يقوله الحنفية في عقوبة التغريب، ولكنّ أبا زهرة رفض ذلك، وقال: إن هذه عقوبة يهودية في الأصل، وهي أقسى ما ورد من العقوبات، وقد نُسخت بظهور دين الرحمة).

وزاد القرضاوي من أدلة رأيه غير ما ذكره في نقاشه لأبي زهرة، هذا الدليل الجديد، فقال: (إن الله تعالى ذكر هذه الفاحشة في سورة النساء، فقال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} النساء: 15-16.

قلت للشيخ (أي أبي زهرة): ثم جاءت آية سورة النور وقد هوَّلت من شأن هذا الحد، وقالت: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} النور: 2، واعتبرت هذه السورة هذا الحد عقوبة بليغة، وحذَّرت من التهاون في تطبيقه بدافع الرأفة بالمتهمين، وطالبت ألا تتم إقامته في سترة من الناس، بل لا بد أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين.

سمى القرآن هذا الحد في هذه السورة (عذاباً).

وسمّاه في سورة النساء (عذاباً) حين قال عن حد الإماء: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} النساء:25. وهو دليل على أنه عذاب لا يتبعَّض، ولا يتنصف، مثل الرجم.

ثم في هذه السورة في الحديث عن اللعان الذي ذُكِر عقب ذلك: إذا تم بين الزوجين، بعد أن يشهد الزوج أربع شهادات، والخامسة أن لعنة الله إن كان من الكاذبين، قال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} النور: 8، 9. يقول: يدرأ عنها العذاب، المراد به العذاب المذكور في الآية السابقة، التي قال فيها: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} النور: 2.

وبذلك تتفق الآيات كلها، وتسير في إطار واحد، وسياق واحد، ولا اختلاف بينها ولا تدافُع، بل كلها تتفق على حكمٍ واحد)(4) .
كيف نفرق بين التعزير والحد؟

وربما توارد إلى الأذهان هنا سؤال، وهو: كيف نفرق بين التعزير والسياسة والحد؟ فقد ذهب هنا عدد من الفقهاء المعاصرين إلى أن الرجم تعزير وسياسة وليس حداً، وهو أمر يجعلنا نقف على أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، بخاصة ما صدر منه على هيئة السياسة والتعزير، وكنت قد ناقشت شيخنا القرضاوي عند تباحثي معه حول ما أقوم بكتابته حول موضوع (الرجم)، وعندما نقلت رأيه أن الرجم تعزير لا حد، فقلت له: وما الفرق بين الحد والتعزير في مفهومك؟ فقال لي هذه القاعدة، التي قالها لي دون تدليل، أو استشهاد عليها، لكنها نابعة عن طول تأمل وفكر لديه، فقال: ما ورد في القرآن من عقاب دنيوي فهو حدّ، وما ورد في السنة زائداً على القرآن فهو تعزير وسياسة.

وفي الحقيقة عند تأمل نصوص القرآن والسنة، سنجد القاعدة التي نحتها القرضاوي صحيحة، وبالرجوع إلى مبحث السنة وهل يمكن لها أن تنفرد بتشريع الحدود، سنجد أدلة وتفاصيل لهذه القاعدة.

الهوامش:

2،1ـ انظر: فتاوى الزرقا، ص 393،392.
3ـ انظر: ابن القرية والكتاب (مذكرات القرضاوي)، الجزء الثالث، ص: 253-255. بتصرف.
4ـ من كتاب للدكتور يوسف القرضاوي عن الحدود، وهو ضمن مجموعة أعماله الكاملة، ولم ينشر بعد.


[email protected]

0
التعليقات (0)

خبر عاجل