كتاب عربي 21

البرهان ومجافاة أصول الحكم والحكمة

جعفر عباس
1300x600
1300x600

الفريق أول عبد الفتاح البرهان هو رئيس مجلس السيادة السوداني، والمجلس يمثل رئاسة الدولة الجماعية، ويتألف من أحد عشر عضوا، خمسة منهم عسكريون، وهو المجلس الرابع من نوعه في تاريخ السودان المستقل.

 

فبعد الاستقلال عام 1956 كان هناك مجلس سيادة، ثم آخر في عام 1964 بعد الإطاحة بديكتاتورية الفريق إبراهيم عبود، ثم ثالث بعد الإطاحة بديكتاتورية المشير جعفر نميري.

 

واختصاصات وصلاحيات مجلس الرئاسة الجماعي الحالي محددة في إطار نظام الحكم البرلماني، الذي لا يعطي حتى الرئيس الفرد حق اتخاذ القرارات في شؤون السياسات الداخلية أو الخارجية، كما هو حال الرئيس في النظام الرئاسي الذي يتمتع بصلاحيات تنفيذية ودستورية واسعة.


سافر البرهان الى أوغندا في زيارة غير معلنة في الثالث من الشهر الجاري، والتقى برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبحث معه تطبيع العلاقات ومنح الطيران الإسرائيلي حق عبور الأجواء السودانية (ويفيد بيان حكومي إسرائيلي بأن البرهان وافق على ذلك)، وتصرف الجنرال إزاء كل ذلك وكأنه رئيس جمهورية يملك حق البت في مثل تلك الأمور، بل قالت المصادر الإسرائيلية الرسمية إن البرهان طلب من نتنياهو إقناع واشنطن بشطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.


هناك وثيقة دستورية ترسم معالم الطريق لحكم السودان عبر ثلاث منصات، هي مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي، لحين إجراء انتخابات في أواخر عام 2022، على أن تبقى قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت) التي قادت الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم المشير عمر البشير، الحاضنة السياسية لهياكل الحكم تلك، ونصوص تلك الوثيقة صريحة في أنه ليس لمجلس السيادة رئيسا وأعضاء أي سلطة تخوله الخوض في أمور الحكم، إلا في ما يأتيه من مجلس الوزراء أو البرلمان الانتقالي الذي يتألف حاليا من مجلسي الوزراء والسيادة.

 

قدم البرهان هدية لا يملك من أمرها شيئا، إلى شخص لا يستحقها، والمحصلة النهائية هي ان نتنياهو هو الرابح، وحتى لو كانت الهدية افتراضية، فمن حقه ان يتباهى بأنه انتزع تنازلات مهمة

وبالتالي فإن لقاء البرهان بنتنياهو استخفاف بالوثيقة الدستورية ومجلس الوزراء وقحت، ويثير مخاوف نشأت منذ أن حاول جنرالات الجيش السوداني تجيير الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم البشير لصالح نظام عسكري بالكامل، يتولون هم قيادته ثم تراجعوا خطوة – على مضض- تحت الضغط الشعبي وقبلوا شراكة مع قوى الثورة المدنية.


فور ذيوع خبر لقاء البرهان ونتنياهو أصدر الناطق الرسمي باسم مجلس الوزراء بيانا يفيد بأن المجلس لا علم له بأمر تلك الزيارة، بينما أصدرت قحت بيانا شجبت فيه الزيارة، ثم عاد البرهان إلى الخرطوم وانعقد اجتماع مشترك بين مجلسي السيادة والوزراء لمناقشة الأمر، وتشير كافة القرائن إلى أنه، وبعد أكثر من ست ساعات من المداولات، لم يتم التوافق على بيان مشترك يوضح الأمر للرأي العام المحلي (دعك من العالمي).


في ساعة متأخرة من ليل الثلاثاء 4 شباط (فبراير) صدر كلام يحمل مسمى تعميم صحفي، وهي تسمية غير مألوفة لما يصدر عن دوائر الحكم العليا (ولكنها تفيد بأن المحتوى لا يرقى لرتبة "بيان")، وجاءت كلمات التعميم بضمير المتكلم "تم بالأمس لقاء جمعني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في يوغندا، وقد قمت بهذه الخطوة من موقع مسؤوليتي بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني السوداني وتحقيق المصالح العليا للشعب السوداني ......."، بينما كان التوقيع باسم "إعلام مجلس السيادة الانتقالي"، وهو كيان لا وجود له في هيكل مجلس السيادة التنظيمي، ولو كان موجودا لحمل اسم أكبر رأس فيه، وحتى لو حمل اسم ذلك الرأس الافتراضي الكبير، لما خفف ذلك من ركاكة التعميم لأن الضمير في "جمعني/ قمتُ/ مسؤوليتي"، كان سيعود إليه وليس إلى البرهان.


وحوى التعميم محاولة خجولة لتدارك الخطأ الذي وقع فيه البرهان بالخوض في أمر لا يخصه، حيث جاء فيه "أؤكد على أن بحث وتطوير العلاقة بين السودان وإسرائيل مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر وفق ما نصّت عليه الوثيقة الدستورية" ثم الموال المعتاد الذي يتغنى به كل زعيم ينفض يده عن القضية الفلسطينية، عن ثبات الموقف "وفق الإجماع العربي ومقررات الجامعة العربية".


كان رفض قحت ومعظم التنظيمات السياسية لما أقدم عليه البرهان جازما وحازما، ليس فقط من حيث استنكار استخفافه بتراتبية السلطات، بل أيضا من حيث أنه أمر يتعلق بقضية مركزية (فلسطين) لا يجوز لفرد طبيعي أو اعتباري المساومة حولها منفردا.


بعد صدور التعميم مجهول الأبوين ذاك بساعات قليلة، جاء بيان رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك حسن السبك والحبك، مدينا في دبلوماسية مهذبة ما أقدم عليه البرهان، بالتأكيد على أن أمر علاقات البلاد وسياستها الخارجية من صميم مهام مجلس الوزراء، وداعيا للتمسك بالمؤسسية في تصريف شؤون الحكم (وهي دعوة للبرهان وغيره على عدم التغول على صلاحيات ليست له أو للكيان الذي يمثله).


والشاهد: قدم البرهان هدية لا يملك من أمرها شيئا، إلى شخص لا يستحقها، والمحصلة النهائية هي ان نتنياهو هو الرابح، وحتى لو كانت الهدية افتراضية، فمن حقه أن يتباهى بأنه انتزع تنازلات مهمة حتى لو كانت معنوية من رأس دولة عربية "آخر"، بينما يجد البرهان نفسه عاجزا عن تبرير خطأ مركّب: الاستخفاف بحكومة بلاده، وتقديم وعد لا يملك صلاحية الوفاء به.

0
التعليقات (0)