مقالات مختارة

الشمس توشك أن تغرب على وجود الإمبراطورية الأمريكية بالشرق الأوسط

دافيد هيرست
1300x600
1300x600

لم تكن طهران تنوي القتل مساء الثلاثاء، وإنما كانت تريد أن توجه رسالة إلى جيرانها العرب في الخليج.
 
في الساعات الأولى من فجر الأربعاء، كانت طهران تضع يدها على الزناد.
 
كان الحرس الثوري قد أطلق ثلاثة عشر صاروخاً باتجاه عين الأسد، أكبر ثاني قاعدة أمريكية في العراق، وأطلق صواريخ أخرى باتجاه قاعدة في أربيل.

وبحسب ما صرح به آمر القوات الجوية الفضائية في الحرس الثوري، العميد أمير علي حاجي زاده، فإنهم كانوا قد أعدوا العدة بمئات أخرى للإطلاق.
 
وبينما كانت التقارير تفيد بإقلاع طائرات أمريكية من القواعد الجوية داخل الإمارات العربية المتحدة، فقد حاول وزير خارجية إيران جواد ظريف وضع خط تحت الهجوم الصاروخي من خلال التغريد بأن الصواريخ "أنهت" رد إيران المبدئي على عملية الاغتيال التي استهدفت الجنرال قاسم سليماني.
 
فيما بعد، اتضح سريعاً على لسان القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي أن الضربة الصاروخية كانت مجرد "صفعة على الوجه"، ثم توالت الردود الأخرى بعد ذلك.
 
وكانت مطارات طهران الدولية طوال ذلك الوقت تعمل بشكل اعتيادي، وبالتالي كانت العديد من الطائرات المدنية تحلق في أجواء العاصمة وما حولها بينما كانت تجهز نفسها لرد فعل أمريكي.
 
من الواضح أن الدولة الإيرانية تصرفت بدرجة عالية من ضبط النفس رداً على مقتل من اعتبرته أعظم أبطالها في الزمن المعاصر.
 
بادئ ذي بدء، أنذرت إيران العراق بالهجوم الذي كانت تنوي شنه، وذلك بحسب ما أعلمتني به عدة مصادر إيرانية. وهذا يعني على وجه التأكيد تقريباً أن البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) كان لديها تحذير مسبق وكان بإمكانها تجهيز الأهداف حسبما تقتضي الحاجة.
 
ثانياً، بينما ادعى التلفزيون الرسمي الإيراني أن العشرات من الأمريكيين قتلوا وأن الجرحى كان يجري نقلهم إلى إسرائيل والأردن على متن تسع طائرات شحن من طراز C-130، بينما في الحقيقة لم يكن هناك شيء من ذلك، فإن هذا يعني أن الحرس الثوري قصد (أو حتى اتفق مع الولايات المتحدة مسبقاً على) أن يخطئ الهدف.
 
غرض آخر
 
لم "تنسحب" إيران من المواجهة مع الجيش الأمريكي، كما ادعى ترامب يوم الأربعاء، وإنما العكس تماماً هو الذي حصل.
 
بل إن الجيش الأمريكي هو الذي تراجع ولم يرفع رأسه. فحتى لو كانت لديها الإمكانيات، فإن الولايات المتحدة لم تبادر إلى إسقاط الصواريخ الإيرانية القادمة، رغم أن خمسة منها ربما تكون قد أخطأت أهدافها.  
 
ما من شك في أنه لو قصد الحرس الثوري التسبب في قتل عدد كبير من الجنود الأمريكيين لأمكنه فعل ذلك.
 
وهذا ما عبر عنه حاجي زاده يوم الخميس حينما قال: "لم نكن نقصد قتل أحد، رغم أن العشرات من الجنود الأمريكيين لربما قتلوا وجرحوا".
 
ومضى يقول إنه لو قصدت إيران قتل القوات الأمريكية "لكانت خططت عمليات نتج عنها في المرحلة الأولى قتل خمسمائة جندي أمريكي، ثم ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف في المرحلتين الثانية والثالثة خلال ثمانية وأربعين ساعة".
 
الضربة الصاروخية كان لها غرض آخر
 
كان المقصود هو توجيه رسالة إلى حلفاء الولايات المتحدة المقربين في الخليج – المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين – أي نفس الناس الذين شجعوا على تشكيل تحالف ضد إيران، في ما أطلق عليه اسم الناتو العربي.
 
إذا لم تكن الرسالة قد وصلت حينما تعرضت ناقلات النفط أمام ميناء الفجيرة للضرب بالألغام العسكرية أو حينما تم مؤقتاً تعطيل معامل أرامكو في أبقيق والخريس بفعل ضربات نفذتها طائرات مسيرة، فها قد وصلت الرسالة هذا الأسبوع.
 
وكان مفاد الرسالة ما يأتي: "إذا كانت البنتاغون عاجزة عن حماية قواعدها وجنودها من صواريخنا، فمن المؤكد أنهم لن يتمكنوا من حمايتكم. إن قواعدكم وموانئكم وخطوط أنابيبكم كلها في خطر. وقد أعذر من أنذر".
 
أربعة عقود من الحصار والعقوبات وثلاثة أعوام من حكم دونالد ترامب لم تجبر إيران على الجثو على ركبتيها. بل لقد كان أداء قواتها الصاروخية ليلة الثلاثاء جيداً بما فيه الكفاية لكي تشكل ردعاً خاصاً بها داخل ما تعتبره حديقتها الخلفية.
 
ففي بيان صدر مباشرة بعد الهجوم، هدد الحرس الثوري جميع الدول التي تستضيف قواعد أمريكية بأنها سوف تُستهدف فيما لو استخدمت تلك المرافق لشن هجمات على إيران.
 
نهاية الناتو العربي
 
وبذلك يكون مشروع الناتو العربي قد تم فعلياً وأده في مهده.
 
فأولاً، وقبل كل شيء، لا يمكن لجهاز أمني خليجي يعتمد على الولايات المتحدة مثل الناتو العربي حماية ذاته، حتى لو توفر لديه (ولست متأكداً من أن ذلك صحيح) رئيس أمريكي لديه من الوقت ما يمكنه من التفرغ لقيادته.
 
وتبعث الهجمات من جديد فكرة قيام كيان أمني إقليمي جديد يمكن أن يتشكل بمجرد أن يشرع الجيش الأمريكي في تقليص حضوره القتالي في منطقة الخليج. وكانت إيران قد اقترحت مشروعها تحت اسم "مسعى هرمز للسلام" وإن كانت هناك صيغ أخرى لنفس الفكرة، ومنها الصيغتان الروسية والصينية.
 
في مؤتمر للدبلوماسيين انعقد هذا الأسبوع في طهران بتنظيم من وزارة الخارجية الإيرانية، قوبل مشروع "مسعى هرموز للسلام" بحماسة مدهشة من قبل كبار المسؤولين المشاركين من العراق وقطر وعُمان والباكستان والصين. وحتى الدبلوماسيون الغربيون الحاضرون لم يسقطوها من حساباتهم.
 
وكما قال ظريف مراراً وتكراراً في مؤتمرات شبيهة انعقدت في الدوحة وفي روما خلال الشهور القليلة الماضية، لا يمكن استغباء دولة واحدة في المنطقة وحملها على الظن أن بإمكانها شراء أمنها. فأمن أي دولة لا يمكن ضمانه إلا من خلال ضمان أمن جارتها.
 
ما الذي سيجري من بعد؟
 
من المؤكد أن صواريخ هذا الأسبوع لم تكن الكلمة الأخيرة التي تصدر عن الجمهورية الإسلامية رداً على قتل سليماني.
 
لقد تجاوز سليماني بموته رتبة "لواء" التي حملها في فيلق القدس التابع للحرس الثوري، واحتل موقع الفارس أو بطل الحرب الفارسي في زمرة من سبقوه إلى هذه الرتبة عبر ثلاثة آلاف عام من التاريخ من أمثال رستم.
 
يطل وجه سليماني من كل واحدة من لوحات الإعلانات في طهران، وتجده على كل مكتب، وفي مدخل كل فندق. يطل بملابسه المدنية وابتساماته وكأنما يقول لكل إيراني إنه متدين وأخلاقي وعصي على الإفساد. تحول سليماني من خلال موته واستشهاده إلى كوة أو إلى شيفرة تنبئ بمصير ونضال إيران ذاتها.
 
ولهذا السبب، وليس لسبب سواه، لن تترك إيران موت سليماني يمر مرور الكرام. لن يكون ترامب الآن قادراً على أن يفعل مع إيران ما حاول فعله مع شمال كوريا. فلن يقابله الآن زعيم إيراني واحد وجهاً لوجه. ولم يعد مطروحاً على الطاولة التفاوض على اتفاق نووي آخر مع إيران بصيغة يرضاها ترامب.
 
إن أي قراءة للخطابات والتصريحات التي صدرت مؤخراً عن زعيم حزب الله حسن نصر الله وعن خامنئي وعن الحرس الثوري توضح بكل جلاء أن الضربات الصاروخية التي وقعت هذا الأسبوع كانت فقط "نقطة البداية في عملية ضخمة".
 
سوف تعتبر عناصر الجيش الأمريكي أهدافاً مشروعاً حيثما ظهرت في الشرق الأوسط – في العراق وفي شمال سوريا وفي لبنان وفي مصر وفي كل أنحاء الخليج. وما زال موت أبي مهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي في العراق، ينتظر القصاص.
 
في العراق، سوف تبدأ الآن حكومة تصريف الأعمال المستقيلة برئاسة عادل عبد المهدي بالتجهيز لتنفيذ دعوة البرلمان إلى سحب القوات الأمريكية من البلاد، علماً بأن الدعوة ليست ملزمة، ويتوقف الأمر على عبد المهدي ليقرر الوسائل التي سيسعى من خلالها لإنجاز هذه السياسة الجديدة، والمدة التي سيستغرقها لإنجازها.
 
لقد أكد نائب وزير الخارجية العراقي مؤيد صالح من طهران أن واشنطن صديق مقرب من بغداد وأن العراق يرغب في الإبقاء على تلك الصداقة على المدى البعيد.
 
إلا أنه أضاف أن البرلمان قد قال كلمته "وأن العراق يجب أن يعامل باحترام وأن تكون لديه القدرة على حماية سيادته وأمنه".
 
وقال: "ولذلك لا يوجد طريق للخروج من ذلك، وإن كانت الوسائل التي ستنفذ من خلالها إرادة البرلمان قد تكون مختلفة".
 
وحينما سئل عن ما إذا كان يقصد وجوداً أمريكياً غير قتالي في العراق، قال صالح: "لقد كفانا ما نالنا من حرب في العراق، ولا نريد في الحقيقة المزيد من ذلك".
 
لم يسارع كل لاعب رئيسي في المنطقة إلى الانضمام إلى حركة المطالبة بإخراج القوات، فحتى القوى الإقليمية التي ما فتئت تنأى بنفسها عن مدار واشنطن، مثل تركيا، يساورها القلق. فتركيا لديها من الجنود في العراق ما يعادل تقريباً ضعف عدد الجنود الأمريكيين المتواجدين هناك، ولن تقتنع بسهولة بسحب تلك القوات في المستقبل القريب.
 
وممن يساورهم قلق عميق أيضاً حلفاء الولايات المتحدة من الكرد، الذين تسبب فعل ترامب في دق إسفين بينهم وبين حلفائهم السياسيين من الشيعة.
 
لطالما ذكرت إيران الكرد في شمال العراق بأن سليماني هو الذي سارع إلى نجدتهم في إربيل عندما كان مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية على بعد عشرين كيلومتراً فقط، وحينها طلب مقاتلو الكرد البشمرجة العون من الولايات المتحدة ومن تركيا ولكن لم يتلقوا جواباً من أي منهما.
 
والمتغير الآخر في كل ذلك هو الشخصية المتهورة والمنصاعة والمزاجية والمتقلبة للقائد الأعلى في الولايات المتحدة، دونالد ترامب، الرجل الذي أقل ما يقال فيه إنه ليس أهلاً بأي شكل من الأشكال للموقع الذي يشغله.
 
يتعرض عدد من أعضاء الكونغرس للضغط من قبل أنصار إسرائيل والحركة الإنجيلية التبشيرية لإنهاء المهمة ضد إيران.
 
ما لا يدركونه هم ولا يدركه ترامب أنه بغض النظر عن ما إذا كان حرباً أم سلاماً فإن الشمس توشك أن تغرب على وجود الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط.

 

ميدل إيست آي

التعليقات (0)