أخبار ثقافية

دانتي.. الإنسان والسياسي (في الملكية)

عاش دانتي في مرحلة كان الصراع فيها محتدما بين الكنيسة الرومانية والإمبراطورية الرومانية- جيتي
عاش دانتي في مرحلة كان الصراع فيها محتدما بين الكنيسة الرومانية والإمبراطورية الرومانية- جيتي

فقد أمه وهو في الثالثة عشرة من عمره، وفقد والده بعد خمس سنوات، وهكذا أصبح يتيم الأب والأم.

ويعتبر كتابه الأول "الحياة الجديدة" الذي ألفه بين عامي 1291 و1293، بمثابة مذكرات شخصية عن طفولته الأليمة.

تعرض دانتي أليغيري (1265- 1321) لمحنتين أثرتا فيه كثيرا، الأولى موت الفتاة التي أحبها وهي في عمر الرابعة والعشرين (بياتريس)، والثانية نفيه من مدينته فلورنسا لانخراطه في الصراع بين الإمبراطورية والكنيسة، وقد أصدرت السلطة قرارا بهذا الخصوص وأفهمته بأنها إذا ما وجدته على أراضي فلورنسا فإن عقوبته ستكون المحرقة.

كان عضوا نشطا في الحياة السياسية والعسكرية لفلورنسا، التحق بالجندية عندما كان شابا، وتقلد مناصب مهمة في حكومة فلورنسا خلال التسعينيات من القرن الرابع عشر، وأصبح منشغلا بصراع سياسي بين مجموعتين، مجموعة الغويلف ومجموعة الغبليون اللتين كانتا تتصارعان فيما بينهما للسيطرة على توسكانا.

وقد استطاعت مجموعة سياسية من مجموعة الغويلف السيطرة على فلورنسا عام 1301، وكانت هذه المجموعة السياسية تكره دانتي، مما أدى بها إلى نفيه سنة 1302 والحكم عليه بالموت في حالة رجوعه إلى فلورنسا، عاش دانتي ما تبقى من حياته بالمنفى وتوفي في رافينا ودفن بها.

وبعد وفاته أدركت حكومة فلورنسا أنها أخطأت في حقه خطأ فادحا، وحاولت تدارك هذا الخطأ بطبع أعماله، ودعوة ابنه وبعض الأساتذة المتخصصين في الأدب إلى إلقاء المحاضرات عنه، ومنهم جيوفاني بوكاتشو (1303- 1375 الذي يعد أكبر الدارسين للشعر اللاتيني، وقد جمعت نصوص محاضراته في كتاب "حياة دانتي".

وظلت الحكومات المتتالية تحاول جاهدة نقل رفات دانتي من مدينة رافينا إلى فلورنسا، ولما فشلت مساعيها أقامت له عام 1829 قبرا تذكاريا في كنيسة الصليب المقدس، يعلوه تمثال لدانتي، توج رأسه بأكليل الغار، مثلما حدث للعالم الإيطالي جاليليو (1564- 1642) الذي تعرض في حياته على نحو ماتعرض دانتي.

عصر دانتي


عاش دانتي في مرحلة كان الصراع فيها محتدما بين الكنيسة الرومانية والإمبراطورية الرومانية المقدسة للهيمنة على المدن الإيطالية.

في هذه المرحلة، بدأت الأفكار الفلسفية والسياسية بالظهور بعد غياب دام قرون عدة، لا سيما فلسفة أرسطو التي وصلت أوروبا عبر شروحات ابن رشد.

ولمواجهة هجمات الكنيسة المنتصرة، قام بعض المفكرين بطرح أفكار ونظريات تؤكد على مدنية الحكم، وأن المدن الإيطالية تابعة للإمبراطورية وليس إلى الكنيسة.

 

وفي وقت كان المفكرون منقسمون بين مؤيد لهيمنة الكنيسة ومؤيد للحكم الملكي سواء في الدول القومية (فرنسا) أو في المدن ـ الدول (إيطاليا)، خط دانتي ابن فلورنسا لنفسه خطا آخرا بدا رجعيا في عصره آنذاك، إذ دافع عن سلطة الإمبراطور المتراجعة.

ظلت الإمبراطورية الرومانية بكامل عنفوانها السياسية مهيمنة على مخيلة دانتي الذي رفض الاستسلام للواقع القائم والقبول بإمكانية انهيار هذه الإمبراطورية.

أراد إعادة إحياء الإمبراطورية، فعمد إلى نقل كامل سلطات الكنيسة إلى الإمبراطور، وكان من الأوائل الذين نادوا بحق الإمبراطور الإلهي في الحكم.

اعتقد أن الخراب الذي أصاب المدن الإيطالية يعود إلى قيام الكنيسة بمزاحمة سلطة الإمبراطور في هذه المنطقة، وأول خطوة لتصحيح الأوضاع كانت إبعاد الكنيسة والدفاع عن أصحاب السلطة الحقيقيين.

لم يكن دانتي كارها للكنيسة، فقد كان مسيحيا مؤمنا وملتزما، لكنه أراد تحرير المسيحية من سطوة الكنيسة كمؤسسة دينية-سياسية، والبحث عن رابطة ما فوق دينية، وجدها في الرباط القومي المتمثل في شخص الإمبراطور والإمبراطورية.

فصل بين شخص البابا والبابوية كمنصب ومؤسسة دينية، والمشكلة كانت بنظره في شخص البابا وطموحاته لا في الكنيسة ذاتها.

إيمانه بالكنيسة كمؤسسة دينية من جهة وازدراؤه لطموحات البابا متمثلة بـ بونيفاس الثامن من جهة ثانية، هو الذي دفع دانتي إلى وضع البابا بين صفوف المنافقين، وفي نفس الوقت بالحزن عليه حين قبض عليه من رجال الملك الفرنسي فيليب الجميل، لأنه ببساطة رفض إهانة منصب البابوية نفسه.

توفي بونيفاس الثامن نهاية عام 1303 بعد أيام قليلة من العنف الجسدي والمعنوي الذي تعرض له بفعل مؤامرة أغناني التي دبرها كل من غيوم دو نوغاريه أحد فقهاء فيليب الجميل، وسكيارا كولونا أحد أفراد الأسرة القوية في روما والمعادية للبابا.

في الملكية


يعتبر كتابه "في الملكية" (1309- 1313) دفاعا صريحا عن السلطة المدنية في مواجهة السلطة الدينية، لكن الكتاب لم يأخذ حقه في الشهرة كما حصل مع الكتاب الآخر "الكوميديا الإلهية"، والسبب في ذلك يعود إلى أنه يدافع عن سلطة الإمبراطور المتهافتة مقابل سلطة الملكيات الجديدة الصاعدة، وهذه رؤية بدت مثالية، بل ورجعية غير مقبولة آنذاك، فاتهم دانتي بالمفارقة التاريخية.

ويرى كونتن سكنر أن تهمة المفارقة التاريخية نشأت جزئيا من جهل السياق الذي كتب فيه دانتي، وخاصة طبيعة المعضلة التي حاول كتاب الملكية حلها.

كان دانتي منفيا من فلورنسا منذ انقلاب زمرة السود الأرستقراطية عام 1301، فكانت آماله أن يأتي مخلص يعيد الأوضاع إلى عهدها في فلورنسا وإعادة المنفيين، لذلك وجد في هنري السابع لحظة دخوله إيطاليا ذلك الشخص الذي يمكن أن ينقذ إيطاليا.
 
رؤية دانتي كانت قاصرة بالنسبة للمدن الإيطالية، فالحل الذي قدمه أنكر سلطة البابا لكنه أسس لسلطة الإمبراطور، وما فعله استعاضة سلطة مدنية بسلطة دينية.

هذا الحل الذي قدمه استبعد من مفكري عصره، لأن المطلوب استقلال المدن الإيطالية بشكل تام، ولذلك جاء الإسهام الرئيسي من مارسيليو دوبادو.

ومع ذلك، فإن الكتاب يعتبر مادة فكرية هامة على صعيد تحديد طبيعة السلطة وتحديد وظائف الإمبراطور أو الملك في خدمة الشعب.

يكتب عزمي بشارة إن دانتي ساق حجج من يقولون باستقلال السلطتين الدينية والسياسية إلى أقصى نتائجها، مبتدعا عوالم لم يحلم بها هؤلاء، وأنشأ عالما مستقلا ليس عن البابا فحسب، بل عن الكنيسة وعن المسيحية أيضا، وهذا المجال الجديد هو الإنسانية، ولذلك صنف دانتي بين أتباع المذهب الإنساني.

بدأ دانتي التأكيد على أن الحل الأمثل يتمثل في وضع ثقة كلية في شخص الإمبراطور، وبأسلوب يشبه أسلوب ابن رشد ـ كما يقول كونتن سكنر ـ بوصف القيمة الخاصة للوحدة وسمو الكل على الأجزاء، حيث أن سيادة الإمبراطور تزيد من حكم العدل وتؤمن الحرية، لأنه في الحكم الملكي وحده يكون البشر مستقلين لا يعتمد واحدهم على الآخر.

افترض دانتي وجود فصلا كاملا بين الفلسفة واللاهوت، حيث كان يرفض الافتراض الأرثوذكسي بوجود هدف نهائي وحيد للبشرية يتمثل في السعادة الأبدية، وبالتالي لا بد أن يكون هناك سلطة وحيدة في المجتمع المسيحي هي سلطة الكنيسة.  

اعتقد دانتي على خلاف ذلك، بالتأكيد على وجود هدفين نهائيين للإنسان: الأول في الخلاص في الحياة الآتية وهو الذي يحصل عليه بالعضوية في الكنسية، والثاني هو السعادة في حياتنا وهو يتحقق بقيادة الإمبراطور.

الهدف الأول يمثله البابا نائب الله في الدين، والهدف الثاني يمثله الإمبراطور نائب الله في الشؤون المدنية ـ السياسية، وهذا الفصل غير الكلي بين السلطتين، هو الذي دفع نقاده في عصره إلى اتهامه بتهمة الرشدية، أي تأثره بابن رشد.

إن هذا التقسيم العزيز على دانتي، هو الذي دفعه إلى صب جام غضبه على واضعي القانون الكنسي ورغبتهم في أن يجعلوا من أوامر البابا أسسا تقوم عليها العقيدة، فبالنسبة له، الكتاب المقدس وحده له السلطان الأعلى على الكنيسة، وتليه في الأهمية القوانين التي تصدرها المجالس الرئيسية، أما منشورات البابا فهي مجرد أحاديث تستطيع الكنيسة أن تغيرها أو تعدلها.

واضح هنا ميل دانتي إلى النظرية المجلسية التي انتشرت في عصره، وتؤكد على المجلس الكنسي كأعلى سلطة في الكنيسة، لا البابا الذي شكل على مدى قرون ماضية، السلطة العليا في الكنيسة.

لم يكتف دانتي بذلك، بل قام بدراسة الكتاب المقدس بشكل مفصل لدحض الحجج التي تؤيد سلطان الكنيسة على السلطة الزمنية، كما قام وفقا لما قاله جورج سباين، بحص السابقتين التاريخيتين الخطيرتين، وهما: هبة قسطنطين ـ هي الهبة التي ظهر لاحقا زيفها وتقول بأن الإمبراطور قسطنطين تنازل عن السلطة لصالح الكنيسة ـ وانتقال الإمبراطورية إلى شارلمان.

اعتبر دانتي السابقة الأولى باطلة قانونا، لأن الإمبراطور لا يملك الحق القانوني للتنازل عن الإمبراطورية، وقد قضت هذه الحجة على السابقة التاريخية الثانية المزعومة، لأن البابا إذا لا يملك السلطة الإمبراطورية قانونا، فهو لا يستطيع أن يخلعها على شارلمان.

التعليقات (1)
morad alamdar
الإثنين، 09-12-2019 01:07 م
العشق ارتياح جعل في الروح ، و هو معنى تنتجه النجوم في مطارح شعاعها ، و يتولد في الطباع بوصلة أشكالها ، و تقبله الروح بلطيف جوهرها ، و هو بعد جلاء القلوب ، و صيقل الأذهان مالم يفرط ، فإذا أفرط صار سقيماً قاتلاً ، و مرضاً منهكاً لا تنفد فيه الأراء ، و لا تنجح فيه الحيل و العلاج منه زيادة فيه .. و قيل لبعض الرؤساء : ابنك قد عشق ، فقال الحمد لله ، الأن رقت حواسيه ، و لطفت معانيه ، و ملحت إشاراته ، و ضرفت حركاته ، و حسنت عباراته ، و جادت رسائله ، و حلت شمائله ، فواظب على المليحِ ، و اجتنب القبيحِ .. لا خير في الدنيا إذا لم تزر حبيباً و لا وافى إليك حبيب .. فيمن مدح العشق و تمناه و غبط صاحبه على ما أتيه من مناه .. و ما أحببتك فحشاً و لكن رأيت الحب أخلاق الكرام .