كتاب عربي 21

إحراز السلام والحفاظ على الفوقية العرقية اليهودية

جوزيف مسعد
1300x600
1300x600

تسعى إسرائيل إلى إحراز هدفين: الاعتراف بحقها في أن تكون دوله عنصرية تكرس الفوقية العرقية اليهودية وإحراز السلام فيما بينها وبين الدول العربية، وأيضًا مع الشعب الفلسطيني الذي سرقت وتواصل سرقة أراضيه والتي اغتصبت وتغتصب حقوقه التي تحصرها فقط باليهود فقط، إسرائيليين كانوا أم أجانب.

 

تكريس الفوقية العنصرية


فهذه هي اللازمة التي لا تنفك دولة إسرائيل ودعايتها السياسية، ومن قبلها الحركة الصهيونية، ترددها منذ إقامتها في عام 1948. فبعد أكثر من سبعة عقود، تصر كل قطاعات الشعب اليهودي في إسرائيل وغالبية المنظمات اليهودية الأمريكية التي تدعم إسرائيل على أن كل ما تريده هو إحراز ذات الهدفين اللذين لم تتمكن من تحقيقهما حتى اليوم، أي الاعتراف بالفوقية اليهودية كحق لإسرائيل وإحراز السلام مع جميع الدول العربية والفلسطينيين.

عقد اللوبي الأمريكي جي ـ ستريت J-Street، والذي يعرّف نفسه على أنه "البيت والصوت السياسي للأمريكيين الداعمين لإسرائيل وللسلام"، منذ بضعة أسابيع مؤتمره القومي السنوي والذي تحدث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت كما تحدثت عدة شخصيات سياسية أمريكية، بمن فيها مرشحين من الحزب الديمقراطي للرئاسة هما بيت بودجيج وبيرني ساندرز (والأخير لا يكل عن تذكيرنا بأنه "داعم لإسرائيل 100 في المئة)، ومفاوض السلطة الفلسطينية صائب عريقات وعضو الكنيست أيمن عودة، وغيرهم. يدعم لوبي جي ـ ستريت إلى حلّ الدولتين ويعارض حركة المقاطعة الفلسطينية والعالمية "بي دي إس."

تضيف "جي ـ ستريت" بأن سبب إنشاء مؤسستها هو، بحسب زعمها، أن "وجهات نظر أغلبية اليهود الأمريكيين كان قد تم تجاهلها في السابق وكانت غير ممثلة كفاية في السياسة (الأمريكية). نحن نقوم بتغيير ذلك الوضع وبتغيير ما يعنيه دعم إسرائيل في مداولاتنا على المستوى القومي." ولكن هل ثمة صدقية لزعمها هذا على ضوء تاريخ المنظمات الأمريكية والإسرائيلية "الداعمة لإسرائيل" وتاريخ الحكومات الأمريكية والإسرائيلية المتعاقبة؟ هذا تساؤل مهم، حيث أنها جميعًا قد عبّرت عن مواقف "داعمة لإسرائيل" و"داعمة للسلام" أيضًا. لربما تساعدنا نبذة تاريخية في التحقق من هذا الزعم.

 

تضحية السادات بحقوق الفلسطينيين

في عام 1977، وبعد بضعة أعوام من محاولات إقناعه من قبل وزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر وتعهدات الأخير بمساعدات مالية، وافق الرئيس المصري أنور السادات على الاعتراف بحق إسرائيل في أن تكون دولة قائمة على التفوق العرقي اليهودي وعلى إحراز السلام معها بناءً على ذلك. وقد سعى السادات لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل يتم بموجبها إعادة شبه جزيرة سيناء للسيطرة المصرية الشُرَطِية، لكنها لا تعيد لا السيادة العسكرية ولا سيادة الدولة المصرية عليها، مقابل تضحية السادات بحقوق الشعب الفلسطيني على مذبح الفوقية اليهودية الإسرائيلية.

وفي أعقاب عرض السادات السلام على إسرائيل واعترافه بحقها في أن تكون دولة تكرس الفوقية العرقية اليهودية، قامت مجموعة من اليهود الإسرائيليين في آذار/مارس 1978، تكونت من "ضباط وجنود احتياط في الوحدات المقاتلة من الجيش الإسرائيلي بنشر رسالة تناشد فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، وتطالبه ألا تفوت حكومته فرصة السلام هذه." وقد شكلت هذه الخطوة التأسيسية ما أصبح يسمى بحركة السلام الرئيسة في إسرائيل والتي أطلقت على نفسها اسم "السلام الآن"، وهو اسم ربما يختصر أجندتها السياسية الحقيقية ألا وهي "السلام ومعه الفوقية العرقية الإسرائيلية الآن."

 

تدعم منظمة "السلام الآن" إقامة دولة فلسطينية في "الضفة الغربية وغزة." وكما فعلت المنظمة في عام 1978 عندما لم تقدم أي حلول سلمية بل قبلت بالاستسلام المصري للشروط الإسرائيلية، ستعاود "السلام الآن" القيام بنفس الخطوة في عام 1988 بعد "قبول منظمة التحرير الفلسطينية بقرار مجلس الأمن للأمم المتحدة رقم 242 ومبدأ حل الدولتين." فقد قامت "السلام الآن" بقيادة "تظاهرة من مائة ألف متظاهر طالبت فيها الحكومة ببدء المفاوضات مع منظمة التحرير." 

تجدر الملاحظة هنا بأن القرار رقم 242 يطالب بالاعتراف بحق إسرائيل في أن تكون دولة تكرس الفوقية العرقية اليهودية عبر "الإقرار بسيادة كل دولة في المنطقة وبأمنها الإقليمي واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها." وبناء عليه وللتأكيد مرة أخرى فإن ما يعنيه ذلك هو أن منظمة "السلام الآن" تدعم السلام ومعه الفوقية اليهودية الإسرائيلية. 

 

ما ترومه جي ـ ستريت هو أن نعتبرها لوبي ليبرالي بديل، بينما في حقيقة الأمر تثبت كل المواقف السياسية التي تتبناها، دون أدنى شك، بأنها ليست أكثر من لوبي جديد لا يختلف عن كل جماعات الضغط التي سبقته والتي تدعم العنصرية الإسرائيلية دون هوادة.


وقد دعمت "السلام الآن" أيضًا "بالكامل التقدم الذي مثلته اتفاقية أوسلو في عام 1993"، حيث ""نبذت منظمة التحرير الفلسطينية العنف وقبلت علانية بحق إسرائيل في الوجود". وكما يوضح ذلك، فإن التزام منظمة "السلام الآن" بالفوقية العرقية اليهودية في إسرائيل بقي ثابتًا عبر دعمها لـ "حق إسرائيل في الوجود"، بغض النظر عن دعواتها لإنهاء احتلال الضفة الغربية وغزة.

وتنكر "السلام الآن" حقيقة البنية القانونية العنصرية لإسرائيل والممارسات المؤسسية العنصرية الإسرائيلية ضد غير اليهود منذ عام 1948 والمستمرة حتى الساعة، بل هي تصر بأن هذه البنية والممارسات العنصرية ليست عنصرية بتاتًا، حيث أن "إسرائيل أقيمت كدولة يهودية وديمقراطية على مبدأ عدم التمييز بين المواطنين بناء على الدين أو العرق أو النوع الاجتماعي أو أي سبب آخر. وتدعم السلام الآن إقامة دولة فلسطينية كوسيلة لتعزيز قيم إسرائيل اليهودية والديمقراطية." وتجدر الملاحظة في هذا السياق بأن "السلام الآن" لا تعارض أي من عشرات القوانين الإسرائيلية التي تضمن الفوقية العرقية والدينية اليهودية التي تعتبرها الأساس القانوني لـ "قيم إسرائيل اليهودية والديمقراطية."

وتعبّر "السلام الآن"، ولا تحيد في مواقفها، عن المواقف الإسرائيلية الرسمية فيما يتعلق بسعيها إلى السلام ودعمها للفوقية العرقية اليهودية في إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، ونظرًا لادعاءاتها بالسعي إلى "السلام" ، فقد ألهمت آراء "السلام الآن" حركات "سلام" كثيرة أخرى في إسرائيل ظهرت من بعدها، كما ألهمت منظمات "السلام" اليهودية الأمريكية، بما في ذلك أبرزها في الثمانينيات، وهي منظمة "الأجندة اليهودية الجديدة" (1980-1992)، وهي منظمة مؤيدة لإسرائيل ومؤيدة للسلام كانت أيضًا تنتقد الاحتلال والاجتياحات الإسرائيلية، ولكن ليس أسس الفوقية العرقية اليهودية للدولة الإسرائيلية التي دعمتها بالكامل، تمامًا كما فعلت حركة "السلام الآن" وجميع الحكومات الإسرائيلية منذ عام 1948 وحتى الآن.

 

منظمات أمريكية مؤيدة لإسرائيل

  
لقد قدمت "الأجندة اليهودية الجديدة" نفسها على الساحة الأمريكية كمعارضة للوبي المؤيد لإسرائيل، أيباك، والمنظمات التابعة له، والتي بدورها دعمت وتدعم أيضًا حق إسرائيل في أن تكون دولة تكرس الفوقية العرقية اليهودية بينما تدعو هي الأخرى إلى "السلام" وإنهاء لـ "النزاع" بشروط إسرائيل. ولكن في عام 2007، ظهر وافد جديد على السياسة اليهودية الأمريكية فيما يتعلق بإسرائيل والفلسطينيين في واشنطن العاصمة. وقد أطلقت مجموعة الضغط الجديدة، أو اللوبي، على نفسها اسم جي ـ ستريت، وهي تزعم بأنها تقدم مواقف يهودية أمريكية جديدة وغير مسبوقة حول السلام وإسرائيل.

لكن في الواقع، وكما هو مبين أعلاه، فهذا الزعم إنما يعبر عن حالة فقدان مطلق للذاكرة أو عن تلفيق صريح. فلطالما عرّفت المنظمات اليهودية الأمريكية جميعها، بما فيها أيباك، نفسها على أنها مؤيدة لإسرائيل ومؤيدة للسلام معًا. وبالفعل، وكجزء من برنامجها، تحث أيباك "جميع أعضاء الكونغرس على دعم إسرائيل من خلال المساعدات الخارجية، والشراكات الحكومية، والجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب، وتعزيز حل الدولتين عن طريق التفاوض ـ دولة يهودية إسرائيلية ودولة فلسطينية منزوعة السلاح". 

وبالتأكيد، لم يزعم أي منها أنها معادية لإسرائيل أو مؤيدة للحرب! فمن أين يأتي إذًا هذا الزعم بأن المواقف السياسية والتنظيمية اليهودية الأمريكية بشأن إسرائيل والسلام لم تكن ممثلة كفاية في السياسة الأمريكية، بينما في واقع الأمر كانت هذه المواقف الوحيدة التي حظيت بالتمثيل؟

وفي الواقع، فإن جي ـ ستريت التي تم تصويرها كبديل تقدمي لإيباك "ملتزمة بدعم شعب ودولة إسرائيل،" شأنها في ذلك شأن حركة "السلام الآن"، و"الأجندة اليهودية الجديدة"، وإيباك، وجميع الحكومات الإسرائيلية والأمريكية الحالية والسابقة. ومثلها مثل الحكومات الإسرائيلية والأمريكية، ومثل إيباك و"السلام الآن"، تعارض جي ـ ستريت حركة المقاطعة العالمية، "بي دي إس" BDS، التي تسعى إلى إنهاء التفوق العرقي اليهودي الإسرائيلي، وإنهاء الاحتلال، وعودة اللاجئين الفلسطينيين. 

أما السبب في معارضة جي ـ ستريت هو أن اثنين من الأهداف الثلاثة لحركة المقاطعة يتناقضان تمامًا مع الالتزام الرئيسي والمبدئي لـجي ـ ستريت بمبدأ التفوق العرقي اليهودي في إسرائيل، والذي تعتبره، كما تعتبره الحكومة الإسرائيلية، على أنه يتمثل بـ"دولة يهودية وديمقراطية". وقد علّق رئيس جي ـ ستريت، جيريمي بن عامي، في سياق معارضته لقانون الدولة ـ القومية الإسرائيلي الصادر عام 2018، والأخير هو أحدث قوانين إسرائيل العنصرية، بأن "العلاقة القوية بين إسرائيل واليهود في جميع أنحاء العالم إنما تستند إلى هذه القيم بأن إسرائيل هي دولة يهودية وديمقراطية." 

 

لواقع، فإن جي ـ ستريت التي تم تصويرها كبديل تقدمي لإيباك "ملتزمة بدعم شعب ودولة إسرائيل،" شأنها في ذلك شأن حركة "السلام الآن"، و"الأجندة اليهودية الجديدة"، وإيباك


وعلينا التنويه هنا بأن "جي ـ ستريت" ليست جاهلة بتاريخ حركات مثل "السلام الآن"، والتي تبنت هذه المواقف نفسها منذ عام 1978، بل على العكس فهي تعرفها جيدًا، حيث شاركت منظمة "أميركيون داعمون للسلام الآن"، مع منظمات كثيرة أخرى، في رعاية المؤتمر القومي لـجي-ستريت الذي عقد قبل بضعة أسابيع.

فلنتخيل الوضع في سياق آخر، وهو سياق نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا واحتلالها غير الشرعي طويل الأمد لناميبيا المجاورة، والذي استمر منذ الحرب العالمية الأولى، في البداية كانتداب، ومن ثم كاحتلال غير قانوني بدأ بعد الحرب العالمية الثانية واستمر حتى عام 1990. وقد فرضت جنوب إفريقيا نظامها للفصل العنصري، الذي تمت مأسسته في دولة جنوب إفريقيا نفسها في عام 1948، على ناميبيا المحتلة لفصل المستوطنين البيض عن الشعب الناميبي الأصلي. ولنتخيل أيضًا إنشاء مجموعة جنوب أفريقية تطلق على نفسها اسم "السلام الآن" تدعو إلى السلام مع الجيران الأفارقة لدولة جنوب إفريقيا ومع السكان السود الأصليين لجنوب إفريقيا وتدعو أيضًا لإنهاء احتلال جنوب إفريقيا لناميبيا، ولكنها تدعم في الوقت نفسه حق جنوب إفريقيا في أن تكون دولة عنصرية بيضاء. أو دعنا نذهب أبعد من ذلك ونتخيل مجموعة "تقدمية" بيضاء مقرها الولايات المتحدة تعارض احتلال جنوب إفريقيا لناميبيا ولكنها ملتزمة بحق جنوب إفريقيا في أن تكون دولة عنصرية بيضاء. عندها فقط سنفهم تمامًا طبيعة المواقف السياسية التي تتبناها منظمة "جي ـ ستريت".

فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح إذًا هو ما إذا كانت جي ـ ستريت هي بالفعل "لوبي ليبرالي" بديل عن "أيباك" الأكثر محافظة في واشنطن العاصمة، أو ما إذا كانت جماعة ضغط أخرى، تضاف إلى سابقاتها، "مؤيدة لإسرائيل ومؤيدة للسلام" وتدعم التفوق العرقي اليهودي في إسرائيل وإكراه الفلسطينيين على الاعتراف بحق إسرائيل في أن تكون دولة عنصرية تحت راية "السلام"؟ ما ترومه جي ـ ستريت هو أن نعتبرها لوبي ليبرالي بديل، بينما في حقيقة الأمر تثبت كل المواقف السياسية التي تتبناها، دون أدنى شك، بأنها ليست أكثر من لوبي جديد لا يختلف عن كل جماعات الضغط التي سبقته والتي تدعم العنصرية الإسرائيلية دون هوادة.


*جوزيف مسعد أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، وقد صدر له حديثًا كتاب الإسلام في الليبرالية عن جداول للنشر في بيروت (2018) وكتاب آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن عن دار مدارات، القاهرة (2019).

التعليقات (1)
محمد قذيفه
الأربعاء، 27-11-2019 08:32 م
قوة مقابل قوة اعتدال ،ضعف مقابل قوة اعتلال ،ضعف مقابل ضعف توازن ،ولكن سكان الديرة بامكانهم ان يجعلوا القوي ضعيفا والعكس صحيح