قضايا وآراء

الإسلام والرجم (19): هل تنفرد السنة بتشريع الحدود؟!

عصام تليمة
1300x600
1300x600

بعد أن ناقشنا نصوصه الواردة في السنة القولية والفعلية في موضوع الرجم، وهل تواترت أحاديثه أم لا، يدعونا النقاش للحديث عن السنة وعلاقتها بالتشريع، وهو موضوع مطروح في القديم والحديث، ونحن نؤمن بداية بأن السنة تشرع، ولها مكانة في التشريع الإسلامي، لكن موضع النقاش هنا: هل تنفرد السنة النبوية بالتشريع في أمر كبير كالحدود، بخاصة أن ما ورد في الرجم أحاديث آحاد كلها، وإن قال البعض: إنها بلغت حد التواتر المعنوي، أم أن السنة مبينة ومفصلة لما يرد في القرآن من قضايا كلية كبيرة؟ وهي مسألة خلافية بلا شك.
 
فقد اختلف الأصوليون في هذه المسألة على أقوال، ولعل أشهرها: رأي الجمهور الذي يرى أن السنة تشرع للحدود، والواجبات والفرائض، ورأي الشاطبي الذي يرى أن السنة مبينة ومفصلة للكتاب، وليست مهيمنة عليه، وقد فصل في ذلك في كتابه (الموافقات) في صفحات طوال، ورد على أدلة مخالفيه.
 
وهنا تثار قضية أخرى، هل يلام الباحث إذا وجد مثل هذه التعارضات التي في نصوص السنة حول الرجم، إذا ما وجد بينها وبين نصوص القرآن تعارضاً، فأحالها إلى ما ورد في القرآن بشأن الأمر؟ أو رد أحاديث في السنة لتعارضها مع القرآن، والمقصود هنا: أحاديث الآحاد، وليست المتواترة تواتراً حقيقياً. وهو منهج قام به من قبل صحابةٌ كرام، وسلفٌ صالح، من أئمة الأمة وفقهائها، كما فصل ذلك الإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات)، والإمام الزركشي في كتابه (الإجابة).
 
أليست السنة تشريعاً؟!

وربما أثار القائلون بالرجم كحد هنا قضية: أنه هب أن القرآن لم يرد فيه الرجم، ألم يرد في أحاديث نبوية شريفة، والسنة دليل من أدلة التشريع بلا ريب، وهو ما لا نختلف فيه في العموم، من حيث إن من التشريع ما يثبت بالسنة النبوية المطهرة، وورود الرجم في السنة، ولكننا نختلف هنا في دلالة ما ورد في السنة سواء تطبيقاً أو أمراً منه صلى الله عليه وسلم، هل ورد الأمر على سبيل الوجوب، أو على سبيل الندب، أو على سبيل التعزير والسياسة، وكل هذا وارد في كل سنة تردنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو باب كبير طويل في كتب الأصول في باب الأمر والنهي، وكتب فيه القدامى والمعاصرون، حول ما هو من السنة التشريعية وما ليس من السنة التشريعية، وكيف يميز بينهما؟ وقد وردت نصوص في السنة النبوية في عقوبات أخرى غير زنا المحصن، ووردت فيها العقوبة بالرجم، أو القتل، في نصوص نبوية، ومع ذلك اختلفت رؤية الفقهاء لهذه النصوص.

 

هل تنفرد السنة النبوية بالتشريع في أمر كبير كالحدود، بخاصة أن ما ورد في الرجم أحاديث آحاد كلها،


وإذا كنا قد أسلفنا القول أن السنة تشرع، وتستقل بالتشريع، ولكن: (القول بحجية السنة المستقلة بالتشريع لا يعني إيجاب العمل بها مباشرة، فالذي يحكم الأمر هما علما أصول الحديث وأصول الفقه، وذلك في ثلاث وسائل للتصفية ونخل الروايات.

الأولى: هي التمييز بين المقبول والمردود من الروايات بحسب الأسانيد على منهج المحدثين، والاكتفاء بالمقبول فقط في دائرة التشريع.

الثانية: التمييز بين الروايات المعمول بها من المعدول عنها على منهج أصول الفقه الذي ينظر للأدلة نظراً كلياً فيجمع بينها، ويدرأ عنها ما قد يظهر من تعارض، ويعدل عن العمل بالمنسوخ أو المخصوص منها في شروط وقواعد منصوص عليها.

الثالثة: التمييز بين التشريع بالوجوب والتحريم، والتشريع بالندب والكراهية، والتشريع بالإباحة، فليس كل سنة واجبة، فهناك المندوب والمباح، ويضبط هذا وسابقه: علم أصول الفقه) .

الفقهاء والعقوبات في السنة ودلالتها:

وقد يعترض من يرون الرجم حداً ثابتاً، لأن السنة وردت به، وطبق، وأنه يكفي أنه ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة قولية عن العقوبة لتطبق. وسنمشي مع أصحاب هذا الرأي، فهم يعتقدون أن كل ما ورد في السنة من تشريع للعقوبات واجب التطبيق، وهو ما أراه غير مسلَّم به، ولا دائم، وبخاصة في مجال العقوبات، وسأضرب أمثلة لأوامر نبوية في باب العقوبات، ومع ذلك اختلف الفقهاء في هذه العقوبة، بين من يراها حداً، ومن يراها تعزيراً يفوَّض للحاكم.

 

إذا كان علماء الحديث يختلفون في تصحيح أو تضعيف أحاديث عقوبة فاعل فعل قوم لوط، إلا أن الفقهاء الذين اختلفوا في عقوبته تعاملوا كلهم مع هذه الأحاديث على أنها صحيحة،


والنماذج في ذلك عديدة، ونذكر بعضا منها، ومنها مثلا: عقوبة اللواط، والتي نرى فيها مثلما نرى في الرجم، وأن كل العقوبات التي انفردت بها السنة لا تدخل في باب الحدود، بل في باب التعازير.
 
فقد ورد في عقوبة اللواط أحاديث تفيد بأن عقوبة فاعلها القتل. وقد اختلف العلماء في الحكم على هذه الأحاديث، من حيث الصحة والضعف؛ فقد ضعفها كلها معظم العلماء، وصححها بعضهم، فقد ضعفها كلها: ابن حزم، وكذلك ضعفها شعيب الأرناؤوط. ومن صححها جملة بمجموعها الإمام الشوكاني، وصحح بعضها: الشيخ أحمد شاكر، والشيخ الألباني
 .
وعلى الرغم من هذه النصوص القرآنية في وصف هذا الفعل، ومشابهته بالزنا اسماً وفعلاً، وحديث السنة النبوية عن عقوبته، وعلى الرغم ممّا ذكره ابن تيمية  وابن القيم  والماوردي والعمراني، وغيرهم من اتفاق الصحابة وإجماعهم على أنّ عقوبة القتل هي الحكم على الرجال الذين يفعلون الفاحشة معاً مع اختلافهم في طريقة القتل.
 
وإذا كان علماء الحديث يختلفون في تصحيح أو تضعيف أحاديث عقوبة فاعل فعل قوم لوط، إلا أن الفقهاء الذين اختلفوا في عقوبته تعاملوا كلهم مع هذه الأحاديث على أنها صحيحة، والعمل عندهم بها، لكنهم اختلفوا في فهمهم لهذه الأحاديث، فاختلفوا في حكم فاعل هذه الفعلة كما يلي: فمنهم من حكم عليه بالقتل، ومنهم من حكم فيه بأن حكمه حكم الزاني، وقال أبو حنيفة: يعزر ولا يحد، وذلك أن هذا الفعل ليس عندهم بزنى. وقال بعض أهل الظاهر: لا شيء على من فعل هذا الصنيع.

وما يقال عن عقوبة اللواط، يقال كذلك عن عقوبة: إتيان البهائم، ونكاح المحارم، وعقوبة الساحر؛ ومع ذلك رأينا الفقهاء يختلفون في الأمر هنا في السنة، والعقوبة فيها، بين من رآها حداً، ومن رآها تعزيراً، ومن رآها لا حد فيها، على حسب الجريمة التي ورد فيها النص النبوي.

وهذا يعني أن الفقهاء يتعاملون مع نصوص السنة في مجال العقوبات وغيرها بمنهج يقتضي منا أن نميز فيه بين المسائل وأصولها؛ فعلى الرغم من ثبوت أحاديث العقوبات في السنة، وقد ذكرنا نماذج منها، إلا أنهم لم يتفقوا على الأخذ بهذه العقوبات التي وردت في السنة، بل كثير منهم أخرجها عن حد العقوبة الحدية، إلى التعزير الذي يقبل العفو، أو عدم العقوبة. وهو ما يقال عن أحاديث الرجم.

الهوامش:

1 ـ انظر: الموافقات للشاطبي (4/900 ـ 912).
2 ـ من بحث غير منشور للدكتور محمد أنس سرميني.
3 ـ انظر: المحلى (16/446، 445).
4 ـ انظر: مسند أحمد (4/464)، وسنن أبي داود (6/510)، وسنن ابن ماجه (3/594)، كلها بتحقيق شعيب الأرناؤوط.
5 ـ انظر: نيل الأوطار (7/146).
6 ـ انظر: مسند أحمد بتحقيق شاكر (3/219).
7 ـ انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني (8/16-18).
8 ـ انظر: مجموع الفتاوى (34/182)، والسياسة الشرعية ص: 133.
9 ـ انظر: روضة المحبين ونزهة المشتاقين لابن القيم، ص: 372.
10 ـ انظر: البيان للعمراني (12/367).

 

[email protected]

0
التعليقات (0)