أخبار ثقافية

أصل الرواية ونشأتها (2)

هيغل
هيغل

يعد تفسير هيجل لأصل الرواية ونشأتها محورا رئيسا في العديد من النظريّات الأدبيّة وتاريخ الأدب، فقد جعل هيجل أصل الرواية هو الملحمة، باعتبارالرواية تطوّرا عنها يعبّر عن نموّ الوعيّ الإنسانيّ نفسه من مرحلة الإيمان بالخوارق والأفعال البطوليّة والقوى الإلهيّة إلى العصر العلميّ المنظّم، حيث يكون الإنسان فيه محكوما بالقوانين والأنظمة التي تقوم عليها مؤسّسة الدولة، وهي – أي الدولة – عند هيجل أرقى نموذج وصل إليه الإنسان، وتستطيع أن تُعبّر عن روح الجماعة الإنسانيّة. 


ومن أهمّ التطوّرات التي تُعدّ استمرارا لنظريّة هيجل في تفسير نشأة الرواية ما أنتجه الماركسيون الذين كانوا مهتمّين إلى حدّ كبير بربط هذا الفنّ بالبنية الطبقيّة للمجتمع الحديث، ولا سيّما بظهور الرأسمالية وهيمنة الطبقة البرجوازيّة. ومن أهمّ المنظّرين الماركسيين الذين بنوا على نظريّة هيجل  الفيلسوف والناقد المجرّي جورج لوكاتش (1885-1971).


ربط لوكاتش ظهور الرواية بالطبقة البرجوازيّة باعتبارها الفنّ الممثّل لطبيعة هذه الطبقة وحقيقتها، وهو ما يوازي ارتباطَ الفنون المسرحيّة القديمة، على وجه الخصوص الملحمة والتراجيديا، بطبقة النبلاء في العصور القديمة. وبينما يرى هيجل أنّ التعبير الشعريّ أكثرُ مناسبة للعصر القديم منه للحديث لملاءمته للأفكار غير العلميّة وللقوى السحريّة والخارقة والإلهيّة فتراجع الشعر لصالح فنّ الرواية القادر على استيعاب الروح الحديثة، يرى لوكاتش أن المجتمع الإنسانيّ بعد الثورة الصناعيّة وصعود البرجوازيّة أخذ يتحرّك بشكل سريع للغاية، بحيث كان من غير الممكن أن يناسبه التعبير الشعريّ. والفن الذي يمكن له أن يواكب التحوّل السريع والحركة غير المستقرّة في العصر الحديث هو فنّ الرواية.


هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعبّر فنُّ الرواية تماما عن طبيعة الوعيّ في المجتمع البرجوازيّ، ولوكاتش يعود في هذا التنظير إلى هيجل، فالرواية تمتلك القدرة على التعبير عن معنى الوجود في العصر الحديث عموما وفي المجتمع البرجوازيّ خصوصا وعن طبيعة القوى المهيمنة عليه، وهي قوى ماديّة تتصرّف بها الأفعال والإرادة الإنسانيّة، والإنسان هو الذي يصنع التاريخ ويبنيه ويغيّره، وليست القوى المنتمية إلى عالم الآلهة والأساطير. 


العالم، بناء على ذلك، بنية ماديّة يتحكّم بها الفعلُ والعملُ الإنسانيّ، والرواية تمثيلٌ لأفعال الإنسان بالدرجة الأولى ولصراعاته الماديّة وتشكيلاتها الطبقيّة، إنّها تعبّر عن عالمٍ الإنسانُ هو من يحكمه بأفعاله وتخطيطه وقوّته. وهذه هي رؤية الطبقة البرجوازيّة للوجود ولذاتها، وهي تهيمن على المجتمع بالأفعال والقوى الاقتصاديّة ومن خلال الذات العاملة والفاعلة.


وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ تعبير الرواية عن طبيعة المجتمع البرجوازيّ ليس قائما في أساسه على نظريّة الانعكاس للأفعال والحركات الاجتماعيّة بشكل مباشر، وإنّما يعمل لوكاتش هنا على الربط بين نمط التعبير والرؤية العامة للعالم وللذات الإنسانيّة فيه، وهو ما لا يمكن أن يظهر إلّا في كتابات العباقرة والكتاب الكبار الذين تُعدّ كتاباتهم تمثيلا للرؤية الكليّة للمجتمع دون الوقوف موقف المتحيّز أيديولوجيّا أو دعائيّا.


وهذا يتّفق مع العديد من المفكّرين الماركسيين الذين يرون أنّ الأدب العظيم هو القادر على التعبير عن حقيقة المجتمع وعن أنظمة الأيديولوجيا المشكّله له. وكان الروائيّ الفرنسيّ بلزاك في التصوّر الماركسيّ معبّرا عن المجتمع البرجوازيّ الفرنسيّ في القرن التاسع عشر وعن تناقضاته وصراعاته على الرغم من أنّه ابن الطبقة البرجوازيّة نفسها في ذلك المجتمع.


ويذكر الفيلسوف الماركسيّ الفرنسيّ لوي ألتوسير (1918-1990) أنّ الأدب العظيم هو وحده القادر على التعبير عن أيديولوجيا المجتمع دون أن يقدّم لنا معرفة بها بالمعنى العلميّ، فالفنّ، بكلمات ألتوسير، "أعني الفنّ الأصيل لا الأعمال ذات القيمة المتوسّطة والعاديّة" يجعلنا، من خلال سماته المكوّنة له، نرى، "يجعلنا نحسّ، بشيء ما يلمّح ويشير مداورة إلى الواقع... إنّ ما يجعلنا الفنّ نراه... هو الأيديولوجيّة التي ولد الفن منها، ويستحمّ في مياهها، الأيديولوجية التي يحرر الفنّ نفسَه منها بوصفه فنا ويلمّح في الوقت نفسه إليها". جوهر الفكرة الماركسيّة هنا هي التعبير عن الوعيّ وليس التقيّد بمفهوم الانعكاس والنموذج الدعائي للأيديولوجيا.


وعلى الرغم من أنّ لوكاتش يؤكّد أنّ الرواية هي فنّ المجتمع البرجوازيّ المعبّر عن طبيعته وعن تناقضاته، إلّا أنّه يبيّن أنّ البرجوازيّة لم تتبنَ الرواية للتعبير عنها بشكل قصديّ مخطط له، فقد كانت الرواية تتطوّر بشكل مستقل عن المستوى النظريّ الذي كان يعتمد على الأشكال الفنيّة القديمة ومفاهيمها. فبينما يعود الفضل في وضع أسس نظريّة الرواية إلى الفلسفة الكلاسيكيّة الألمانيّة، لم تُكرّس الرواية بشكل تامّ باعتبارها فنَّ المجتمع البرجوازيّ إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهذا الأمر يذكره لوكاتش بشكل واضح في كتابه "نظريّة الرواية وتطوّرها".


الرواية وفق لوكاتش تحوّلت حسب المراحل التاريخيّة في المجتمع البرجوازيّ، ففي المواجهات مع الإقطاعيين كان لا بدّ من العودة إلى النماذج السرديّة القديمة التي تستحضر البطولات الخارقة، إلّا أنّها مع استقرار المجتمع تغيّرت صورة تلك النماذج السرديّة القديمة إلى شكلٍ أجوفَ مثيرٍ للسخرية لا يمكن تقبّله، فالصراع لم يعد كما كان مع الإقطاع، وإنّما أصبح التركيز منصبّا على التناقضات والمواجهات الاجتماعيّة، وهذا ما أكسب الرواية واقعيّتها.

0
التعليقات (0)