مقالات مختارة

وهل يمكن الانفكاك عن الاحتلال...؟

أكرم عطا الله
1300x600
1300x600

نحن في واقع ما، وليس من المبالغة حين نقول أنه شديد التعقيد وشديد الالتباس، فهو تجربة تسجل سابقة في التاريخ السياسي وفي كل الصراعات التي حدثت على امتداد القرون الماضية، فلم يحدث أن أقام شعب سلطته تحت الاحتلال، وحتى حكومة فرنسا في الحرب العالمية الثانية التي أعلنت الاستسلام، أقيمت في الجنوب وخارج سيطرة النازي. لكن أزمة الحكم الفلسطيني التي تتضح بعد مرور كل هذه السنوات هي أن الاحتلال ظل يتحكم فيها، ويبدو أن الانفكاك عنه يحتاج ليس أقل إلى عملية بتر مؤلمة، حيث لا تصلح معه كل المحاولات الأخرى.

 

منذ أول حكومة شكلها الراحل ياسر عرفات حتى آخر حكومة يرأسها الدكتور محمد شتية، كان هناك طموح فلسطيني وهو تخفيف الاعتماد على إسرائيل، وصولا إلى الانفصال التام عنها. وقد جرت محاولات كثيرة أو لم تتوقف المحاولات، وجميعها كانت تصطدم بالاتفاقيات التي وقعت منذ ربع قرن، ليكتشف الفلسطيني أنه مكبل مع كل سطر من أسطرها، فلم يكن الإسرائيلي ساذجا وهو يكتب بنودها، بل كان شديد المكر وشديد الدهاء.


من جديد عاد الحديث مرة أخرى عن الانفكاك عن إسرائيل، وهو ما جاء أكثر من مرة في دورات المجلس المركزي، الذي بدأ يذهب في قراراته بهذا الاتجاه منذ عام 2015. والآن في هذا العام، زادت وتيرة الحديث ليس من المعارضة التي لم تنفك عن مطالبة السلطة بالتحلل من الاتفاقيات دون رؤية التناقض بين التحلل منها، وبقاء السلطة باعتبارها واحدة من أهم بنود الاتفاقيات، بل يجري الحديث هذه المرة من السلطة نفسها ومن الحكومة نفسها أيضا، دون رؤية التناقض نفسه.


لا نعرف إذا كانت الحكومة تدرك استحالة الأمر، فإذا لم تدرك ذلك فتلك مشكلة، أما إذا كانت تدرك التباس المسألة وتنادي بها، فتلك مشكلة أكبر. ولا نضيف جديدا حين نقول إن الانفكاك عن إسرائيل في ظل وجود السلطة التي يحاصرها الإسرائيلي من كل الاتجاهات، يشبه تماما نزع أنابيب التغذية عن مريض أو مطالبة سجين بمقاطعة السجان والاعتماد على ذاته في غرفة السجن.


تجربة الأشهر الماضية كانت المثال الأبرز على القياس للواقع، عندما توقفت الحكومة عن استلام أموال المقاصة، لتكتشف أن تلك الأموال في ظل غياب الدعم الدولي والاختفاء المفاجئ للعرب، أن تلك الأموال التي يتحكم ويجبيها الإسرائيلي، هي العامل الأبرز في استمرار المجتمع الفلسطيني واقتصاده الذي أصيب بالشلل الشهر الماضي وكذلك لاستمرار أداء السلطة، ما جعل من تراجع الموقف هو الخيار الوحيد للبقاء.


واللافت أكثر، أن تراجع الموقف جاء في ظل تعليق الاتفاقيات مع إسرائيل وتشكيل لجان لدراسة التحليل وآليات التنفيذ، هذا يعني أن الانفصال والسلطة بالمعنى السياسي مسألتان شديدتا التناقض، والواقع يقول ذلك.


جاءت بعدها قضية وقف استيراد العجول من إسرائيل، وهي التي حركت تظاهرة لأصحاب مزارع الأبقار، وسط حمى الانتخابات الإسرائيلية وأزمة تشكيل الحكومة وامتطاء التطرف في تل ابيب، ما جعل المنسق الإسرائيلي مع السلطة كميل أبو ركن يصدر تهديدا بمعاقبتها اقتصاديا، وهو قادر على ذلك بحكم السيطرة والقوة، ومن ثم فإن المعادلة التي كان يجري الحديث فيها بشكل نظري، قد تجسدت أمامنا بشكل واضح لتقطع الشك بيقين حقيقي، بأن الحديث عن الانفكاك عن إسرائيل وبقاء السلطة، ليس أكثر من حلم يستحيل تحقيقه في ظل الواقع الراهن.


هذا ما يدعو للتفكير بشكل أكثر منطقيا لهذا الواقع، بعيدا عن الأماني والطموحات والشعارات أيضا. لأن الحديث بهذا الشكل يعني الاستمرار في محاولات غير ناجحة ستبقينا ندور بالدائرة المفرغة نفسها، وتبعدنا عن قراءة واقعنا الحقيقي، وستحول دون إيجاد حلول، أي سنستمر بتضليل أنفسنا، فالانفكاك صعب في هذه الحالة، ولكن البقاء تحت سيطرة وتحكم الإسرائيلي أكثر صعوبة.


نحن في واقع يتحكم الإسرائيلي بكل تفاصيله وخصوصا فيما يتعلق بالاقتصاد، وما يتم استيراده عن طريقه والشركات الموردة، ويملك من السيطرة ما يمنعنا من حرية الاستيراد، وهذا معروف، حتى إن رئيس الوزراء حين اقترح استيراد النفط من العراق، قال سنطلب إذن إسرائيل وموافقتها على ذلك، وتلك هي المعادلة إذا كان لدينا جسم سلطوي لن يستطيع الإفلات من سطوة إسرائيل، لكن لو لم يكن لدينا لكانت الأمور أكثر انسجاما.


هنا، فإن المأزق الراهن شديد الوضوح، ورغم التناقضات التي لا تخلو منها التصريحات السياسية منذ سنوات بحلم الانفصال أو وقف الاتفاقيات أو كما تسميه الحكومة الانفكاك في ظل القائم هو مسألة مستحيلة، وقد كانت تجربة المقاصة النموذج الأبرز لهذا المأزق، ومن ثم نحن أمام نتيجة معروفة ولكنها خطيرة، تمكن الإسرائيلي خلالها من تحويل السنوات الخمس المؤقتة إلى دائمة، وتلك النتيجة تهدد بتحويل هذا الواقع إلى دائم للأبد، مع تآكل في الأرض وتبهيت الحقوق الوطنية.


إذا، الأمور بحاجة إلى إعادة تعريف أو إعادة صياغة المعادلة بشكل يخلو من أي التباس. وفي هذا المأزق بالذات لا تصلح الحلول الترقيعية أو حلول التجزئة، هنا فقط الحل بالجملة: إما سلطة تستمر بالالتزام بالاتفاقيات حتى تبقى، ومن ثم يصبح الحديث عن الانفكاك أشبه بالوهم، وإما انفكاك بلا سلطة، فهذا هو الواقع، وقد جرت خلال السنوات الطويلة الماضية محاولات إيجاد نموذج ثالث أو البحث عن مخرج، لكن لم يتم إيجاده! علينا الاعتراف أننا عالقون بشكل لا مثيل له، وعلينا التفكير بشكل مختلف ومنسجم، حتى لا نستمر في الغرق وقد نجد حلا!

 

عن صحيفة الأيام الفلسطينية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل