مقالات مختارة

مصر: مدافع محمد علي

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

منذ قرابة ربع القرن، قرأت مقولة للفيلسوف الفرنسي ديدرو، لا يحضرني نصها الآن، ولكن لصق في ذهني مغزاها، ألا وهو أن الواقع قادرٌ على تجاوز الخيال أو هو متخطيه بالفعل. تلح عليّ هذه الأيام تلك المقولة بينما أتابع بتشوقٍ فيديوهات المقاول والممثل محمد علي، تغمرني سعادة الشعورة بالوجود في قلب الجموع في مرةٍ من المرات القلائل، عقب ثورة يناير/كانون الثاني؛ فإذا تذكرنا أنه أذاع أولها في بداية سبتمبر/أيلول، فها هي قد بلغت العشرة لدى كتابة هذه السطور، وجنت عددا فلكيا من ملايين المشاهدات، إذا لاحظنا ذلك يصبح من قبيل الاقتصاد والتحفظ في التعبير، إذا وصفنا ظهوره على الساحة أو على المسرح بالظاهرة المبهرة فحسب، وعددناه شخصيا نجم الساعة باقتدارٍ واكتساح، يؤكد ذلك تداول كبرى الصحف ووكالات الأنباء المحلية والعالمية لخبره، وما أحدثه من تأثيرٍ ورد فعلٍ واسع.


يبدو أن ديدرو كان محقا


الأكيد أن حضور محمد علي وتأثير ما فضحه، وما لم يفضحه بعد، لكنه يعِدُ به تاركا الناس يتحرقون شوقا وترقبا لسماعه من الطغيان بمكان، ما كسح أمامه كل محاولات التحفظ والنقد والتفنيد والتشكيك والتجريح، من قبل أنصار النظام وأبواقه، وحتى تلك الثلة التي لا همّ لها سوى التريث، أو التعقل، أو التي تتحذلق من منطلق موضوعيةٍ مزعومة، ليست في حقيقة الأمر سوى ستارٍ باهتٍ محايد اللون، يخفي وراءه انحيازاتٍ حادةً ومريرة للذات، وتصوراتٍ متضخمة عنها في بعض الأحيان والنماذج، أو عدميةً لا ترى جدوى من أي شيءٍ.


فإذا خطونا إلى الأمام واستجبنا لفضولٍ من نوعٍ آخر فسألنا أنفسنا، ما سر هذا النجاح والقَبول المكتسِح (حتى جرفنا نحن أنفسنا) الذي حظي به وأحرزه في غضون عشرة أيام؟ فإننا لا نحتاج إلى كثير تدبرٍ أو طويل الوقت لنجيب: لأنه بالتحديد كان عكس كل منتقديه الذين أسلفنا أيا كانوا، فهو ليس بالمتحذلق ولا المتكلف، ولا يصدر عن فكرٍ أو انتماءٍ سياسي مصقول، ولا يدعي ذلك، بل هو يصارح بمحدودية ثقافته في أحيان كثيرة. لقد أقدم محمد علي بعفويةٍ شديدة على ما لم يفعله السياسيون والمهتمون بالشأن العام: قال كلاما بسيطا مباشرا يفهمه الجميع. قد يقبلونه أو يرفضونه لا يهم، إلا أنه لا لبس فيه؛ وقد فعل ذلك بأسلوبٍ مُسلٍ شيقٍ، يحفل بخفة الظل، وقبل ذلك كله فقد كان يفضح.


ما يقوم به محمد علي هو فعل فضحٍ وتجريس، بعاميةٍ بسيطةٍ ساخرة سقطت على آذان ملايين، محبطةٍ غاضبة مغيظة، تريد الأفضل وتخشى التغيير، جراء التدهور الذي أعقب يناير/كانون الثاني، بغض النظر عن الخوض في أسبابه. هذه التوليفة، على الأغلب من دون قصدٍ منه أو إدراكٍ، تجتذب الجمهور الظامئ إلى النميمة، ووقائع تدين وأصابع توجه التهم إلى تلك الفئة، وذلك التحالف الذي أفاد من الثورة المضادة، وعلى رأسها ثلاثي ضباط الجيش والشرطة والقضاء، فالناس المطحونون بسعار التحايل على المعايش، ومجرد البقاء على قيد الحياة يرون، وقد لا يملكون قرائن قوية، ويقينا لا يتجرؤون على الكلام خشية أن تغيبهم السجون، فيسقط ذووهم المتعلقون برقابهم وتدوسهم الأقدام، فها هو من يجأر بغيظهم ويسرد وقائع المحسوبية والرشى والسرقة، بالأرقام المفزعة، ويشير إلى صروحٍ ضخمة لا تخطئها العين، يخرج لسانه للسلطة المتغلبة الباطشة، ويسخر منها ومن السيسي نفسه.


كثرٌ هم النقاد وأكثر منهم الاتهامات والمثالب، لكن لو أننا صدقنا كارل ماركس واليسار الأوسع من ورائه بأهمية، بل أولية، الواقع الاقتصادي، فإن هذا بالضبط ما فعله محمد علي بفيديوهاته، فهو لم يتكلم في الهويات، ولا الوضع الجيوسياسي، ولا التحالفات الدولية، ولا الدور الإقليمي لمصر بتراجعه، ولا القومية العربية وقضايا تحرر شعوب الجنوب واستلابهم، ولا النيوليبرالية، لم يتقعر ولم ينظّر، بل تكلم في سرقاتٍ وفسادٍ ومصالح اقتصاديةٍ ضخمةٍ ومكاسب بالمليارات على خلفية الإفقار، جراء سياسات النظام المباشرة والعوز (تلك الكلمة التي يكررها ساخرا من السيسي معترفا بعدم فهمها)، وهذا موضوعٌ يفهمه كل الناس بسهولة، كما أنه يلمسهم مباشرةً، لقد خاطب بما يعنيهم.
ثمة من شككوا في دوافعه، واختزلوا الأمر في «خناقة حرامية» أي إنه ورجالات النظام الذين سماهم جميعا لصوصا، اختلفوا على تقسيم النهبة.


ليكن. لكن الرجل يوجه اتهاماتٍ، فليجب المعنيون عليها، لينفوا ويثبتوا براءتهم، لكنني لا أراهم إلا أوفياء للعادة المتأصلة في عدم الرد على الكلام والالتفاف حوله ومحاولة تحييده وإفقاده معناه، مع العلم أن الرجل ببساطة يقف في منتصف الشارع ( ينظر بصفاقةٍ تقابل صفاقة النظام) يجأر بأعلى صوته وملء رئتيه: «أمسك حرامي!» مشيرا إليه وهو ينزل من شباك مسكنٍ سطا عليه، حاملا على كتفه جوال أسلابٍ ضخم.


وثمة بعضٌ آخر يتساءل عمن يقف وراءه، أرجال أعمالٍ أُضيروا من تغول الجيش على المصالح الاقتصادية؟ أم أجنحةٌ في السلطة؟ وفي كلا الحالتين فالنتيجة واحدة: اتهاماتٌ بالفساد تقتضي التحقيق والإجابة، ونظريا المحاسبة.


لن يكتمل الكلام من وجهة نظري دون أن أعترف بما لفت انتباهي شخصيا إليه على مستوى التحليل، فقد اكتشفت أنني ورفاقا لي كدنا نسقط في شرك أو مستنقع التحليل الميكانيكي للثورة المضادة. ما أعنيه بذلك يحيل إلى تحليلٍ أو تصورٍ استحوذ وتسيد على اليسار الديمقراطي الروسي قبيل ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 حيث اقتنع البعض بحتمية المرور لا بمراحل التطور الاقتصادي – الاجتماعي من إقطاعٍ إلى سيادةٍ للبورجوازية، ومن ثم الطبقة العاملة فحسب، بل بالحتمية الميكانيكية للتحول والتطور متى نضج الظرف الموضوعي إلى المجتمع الاشتراكي المتحرر العادل، تلك الأطروحة التي هاجمها تروتسكي ولينين بضراوة، مؤكدين أهمية الوعي والظرف الذاتي والشخصي في التأثير في مسار التاريخ. في ما يخص الثورة المضادة في مصر، وإزاء البطش والحبس الذي طال كل من تسول له نفسه، لا الحديث المعارض فحسب، بل مجرد تحسس رأسه، في ظل ممالئة وتواطؤ الظرف الإقليمي والدولي، تسرب القنوط إلينا فلم يعد بعضنا يرى بصورةٍ ميكانيكية سوى قوة النظام وضعف وتشرذم المعارضة، غاب عنا أن تلك لحظةٌ عابرة سيتعلم منها الناس ويعبرون. سيدفعون الثمن دون شك، لكن جدل الواقع الرث والقمعي قادرٌ على فرز بدائل، حكرنا على الواقع ناسين كيف سقط مبارك رغم مخايل المنعة، عوضا عن البحث عن مداخل لإعادة تنظيم الصفوف والتجهيز للثورة المقبلة، لخلقها.


دون الإفراط في الحماس ولا توهم المخلص في شخص محمد علي، فقد أثبت مقولة ديدرو، إن الواقع كفيلٌ وقادرٌ على طرح البدائل، وإن الصوت العالي المُدين لم يزل قادرا على إحراج النظام، كما يدل الاهتمام المذهل للناس بأن القش متكدسٌ ولا ينتظر سوى الشرارة، ويؤكد أن المشكلة في غياب البديل المنظم المؤَسس فكريا لا في غياب السخط.


أجل، محمد علي ليس بالمنظر ولا بالمفكر ولا بالسياسي المخضرم، ولا يزعم ذلك، وإن كان يؤكد أنه لم يحد به سوى حبه لبلده، فلنا أن نصدق أولا، ولا يهم في حقيقة الأمر. محمد علي هو عيارات النار أو دانات المدافع التي إن لم تصب وتمت، فبالتأكيد أحدثت وستحدث أضرارا وكثيرا من الضجيج والصخب. لقد نزع على سهو ورقة التوت المهترئة التي تغطي قبح وغباء وبلادة النظام، وفعل ذلك ساخرا. لقد ألقى الكرة في ملعبهم، فلننتظر، ونرى كيف يكون ردهم وما هم فاعلون.

 

عن صحيفة القدس العربي اللندنية

1
التعليقات (1)
مصري جدا
السبت، 14-09-2019 10:43 ص
سؤال ،،، فيديوهات محمد على اكثر مشاهدة ومتابعة من مؤتمر السيسي للشباب ،،، ومؤتمر الاخوان للشيوخ ،،، لماذا ،،، مو على أكثر رواجا من مو صلاح وشو سيسي ونو اخوان ،،،