قضايا وآراء

معطيات نهاية المشروع الصهيوني

خلدون محمد
1300x600
1300x600

هناك عشرات ومئات صرخات النذير التي تصدر عن أشخاص ومؤسسات ورموز صهيونية أو موالية للصهيونية، وقد تكاثرت في السنوات الأخيرة.


وجاء تكاثرها تبعا لتكاثر وتكاثف معطيات النهاية، فكل شيء هنا يشير إلى النهايات ويدفع بالأمور إلى الحافة والحافة الحادة جدا.


لقد ذهب ذلك الزمن المسترخي والمسترسل، وذهبت الهوامش التي كان يمكن أن تحمل الواقع إلى فضاءات أخرى – كما توهم البعض ذات يوم – فنحن هنا ومع اندفاعة "الصهيونية" الجديدة التي أعقبت "اللحظة" الأوسلوية، في تسعينيات القرن الماضي، فتنقلت من اغتيال رابين (1995) إلى اغتيال أوسلو ذاتها (في كامب دييفد 2000) إلى اغتيال عرفات (2004)، والدخول في اللحظة الشارونية التي كرّست استلال موافقات أمريكية كانت تلبي المطامع الصهيونية.


وفي اعتقادنا كانت "خارطة الطريق" وما تبعها من تعهدات (بوش الابن) لشارون 2004 هي السكّة التي سارت عليها سياسة الاستحواذ الصهيوني الكامل وبلورة "عقيدة اللاحل"، وإدارة الظهر لعملية التفاوض التي دشنتها أوسلو. ومع تطور الحوادث ودخول المنطقة في الربيع العربي ومضاعفاته (بعد حروب العراق وأفغانستان وانتفاضة الأقصى) وتمتع العدو الصهيوني فيما توهمه هو والبعض الآخر "استرخاء استراتيجيا".


فنحن هنا ومع اندفاعة الصهيونية الجديدة التي لم تعد ترضى إلا بكل شيء، وليس أقل من ذلك أنهم يريدون القدس خالصة، وأرادوا الجولان كذلك، وهم في طريقهم لنيل الضفة الغربية، بل إن شهيتهم منفتحة على انتزاع ثروات المنطقة ومقدراتها. تساعدهم في ذلك معطيات مغرورة وطائشة تبدو للمبصرين كأنها جالسة على قرن ثور أو فوهة بركان يكون فيها الانفجار وشيكا ومرشح الحدوث في أي لحظة. ونتلمس مشهد النهايات البادية في المعطيات التالية:


1- شهد تطور مسار القضية الفلسطينية بعد عام 1948، وفي متوالية من المحطات، الحديث عن مشاريع لتصفية القضية. وكان يتلو كل محطة اندفاعة معاكسة تعيد القضية إلى نقطة البداية، حدث ذلك في النصف الأول من الخمسينيات عندما طرحت مشاريع توطين اللاجئين، تبعتها اندفاعة حرب 1956، ثم تأسيس التنظيمات الفدائية الفلسطينية. وجاءت "نكسة 1967" التي أعقبها الاعتراف العربي الرسمي لأول مرة "بإسرائيل" عبر قرار مجلس الأمن الدولي (242)، ولكن تبعتها ظاهرة المقاومة الفلسطينية والعمل الفدائي ومعركة الكرامة، ثم جاءت كامب دييفد المصرية 1979 وما تبعها من تصفية للوجود الفلسطيني في لبنان عام 1982، لكن لم تلبث الانتفاضة (عام 1987) أن جاءت لتعيد التركيز بجذور القضية، وحتى عندما أراد المتعبون استثمار تلك الانتفاضة سياسيا بالانحدار الكبير في أوسلو، وبدا حينها أن مشروع التصفية، قد بلغ مستوى غير مسبوق؛ جاءت "انتفاضة الأقصى 2000" لتعود بالأمور إلى البدايات.

 

وإذا كانت مشاريع التصفية السابقة ناقصة لأنها كانت تعالج تصفية هذا الجانب أو ذاك من جوانب القضية، فقد تدرّج الأمر من تصفية الممانعة العربية الرسمية بتوقيع معاهدات سلام أو إنهاء علاقات دبلوماسية مع هذا البلد أو ذاك، ثم تصفية الممانعة الرسمية الفلسطينية وإخضاعها واستلال كل الاعترافات منها، بل وتسخيرها كسلطة وكيلة لتخدم آلتها الاستعمارية، فإن مشهد التصفية يكاد يكون مكتمل الأركان، فالاهتراء الرسمي عربيا وفلسطينيا بلغ مستويات غير مسبوقة، وهو متماه بدرجات عالية مع المشروع الصهيوني بأدوار "وكيلة " سافرة وكالحة، كما أن شعوب المنطقة تبدو غارقة حتى أذنيها في قضاياها ومشاكلها ومحنها وابتلاءاتها. وباعتقادنا أن الوثبة والاندفاعة القادمة ستكون بشموليتها وعمقها بحجم هذه المعطيات التصفوية البادية الآن على السطح، إذا ما وضعناها في سلسلة الوثبات والاندفاعات السابقة، والتي كانت بمثابة استجابة لتحدي التصفيات الجزئية في حينه.


2- تذكرنا "صفقة القرن" بما كانت تمارسه القوى الاستعمارية القوية المنتصرة من سياسات. وهي سياسات بالغة الغطرسة والاستعلاء ومرتكزة إلى معطيات من القوة والجبروت لهذه القوى الذي بلغ ذراه حينها.


إن نظرة على التوجهات والسياسات والقوانين الصهيونية في السنوات الأخيرة، والتي تسعى فقط إلى تكريس التفرّد الكامل للصهيونية وأطماعها وجشعها، وتريد أن تسخّر الجميع (أمريكا والغرب والصين وروسيا وحتى العرب والفلسطينيين) من أجل خدمتها، ولا يقتصر الأمر هنا على القوانين الداخلية والنهاياتية التي سنّها الكنيست في العقد الأخير، وليس آخرها "قانون القومية" وتلك الإجراءات الاستحواذية على الأرض بالاستيطان المتوحش، بل وأيضا في العمل على تعديل العلاقات الدولية، ومنها إعادة تعريف "اسرائيل" في الأمم المتحدة ومنظماتها، وبناء علاقات مع الشرق والغرب أساسها ضمان أمن و"شرعية" الكيان الصهيوني، وقد بلغت الأمور على هذا الصعيد (نقصد وجود صهيونيات مسيحية، أميركية، أوروبية، روسية، وأيضا عربية وفلسطينية تسعى لتحقيق أهداف الصهيونية ...) مراحل غير مسبوقة، لعل "صفقة القرن" هي تجسيدها النهائي أو الأخير في هذا الشأن.


إن المتتبع لحوادث التاريخ القريب وعلى الأقل – يعرف أن هذه الاستحواذية تستدعي وبقوة لحظة النهايات، فالذي يريد كل شيء ولا يريد أن يعترف للآخرين بأي شيء ماذا ينتظر إذن؟ وما هو الأفق القادم الذي يتوقعه؟ وماذا يريد أن يتوقع ما على الآخرين أن يفعلوه؟


3- هناك من يحاجج بأن "إسرائيل" وحلفاءها من القوة بمكان لا يمكن زحزحتها، وأن خصومها من الضعف بمكان لا يمكن أن ينجزوا معه تحريرا وإنهاء لها، وبالتالي فإن الحديث عن لحظة النهاية هو أمر مبالغ فيه ورغائبي.


في الحقيقة، هناك الكثير من حوادث التغيير الكبرى في التاريخ لم تكن لتخضع لمنطق موازين القوى المادية المحسومة، والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصى، ولن نذهب إلى نماذج (فرعون وبني إسرائيل) ولا إلى (داود وجالوت) ولا إلى (القلة المؤمنة التي غلبت الكثرة الكاثرة في بدر وغالب معارك حروب الفتح الإسلامي)، بل إن النماذج في العصر الحديث بالغة الدلالة، فانهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، كان من الداخل وبلا أعداء حسيين مباشرين، وفي رأينا أن انهيار حكم الرؤساء المستبدين في دول الربيع العربي ليس له علاقة بحكاية قوة الشعوب، بقدر ما له علاقة بأن كل منهم بلغ نهايته القصية، كالتفاحة الفاسدة تسقط من تلقاء ذاتها.

 

أما الشعوب، فها نحن نراها الآن تدخل في حوار دموي مع ذاتها، في سوريا واليمن وليبيا والعراق، أما مصر فأين هو "ميدان التحرير" بعد حزيران 2013؟ وأين هو الشعب المصري؟


نعم، هناك سنن وقوانين لها علاقة بنهوض الشعوب، ولكن أيضا هناك سنن وقوانين متعلقة بزوال الطغيان كطغيان، بغض النظر عما إذا كان خصوم الطغيان جديرين أو غير جديرين. وإن نهاية الكيان الصهيوني حينما تحين لن تكون عصية عن هذه السنن او القوانين.


4- الحقيقة أن قانون التاريخ وحكمته التي يعاد تكرارها مع هذا النوع من العصبيات العمياء التي تستدعي لحظة النهاية بقوة غرورها وكبريائها وطيشها، هنا تبدو عناصر احتشاد هذا الغرور العصبي الأعمى متزامنة مع وجود اهتزاز يشهده تطور العلاقات الدولية تظهر فيه دعاوى يمينية انعزالية وزعامات عصبوية كترامب وبوتين، مع هياكل شجية مريضة تحكم رسميا بلاد المشرق العربي (مصر والخليج).

 

ويتصادف ذلك مع وجود شعوب آخذة بالتحفز رغم آلام المخاض ومعاناته القاسية في الحروب الأهلية التي تغطي دماء أهلها واجهة المشهد لكنها تنطوي في جوهرها وحقيقتها على مغادرة ذلك الكسل القديم المستحكم والمتوارث من قرون التخلف الأخيرة، ولا نراها إلا ممرا إجباريا في بناء عضلات الأمة، التي كانت لدهر مترهلة ومتراخية. فقد سبق للعدو أن أدخل فينا أهدافا صعبة في حروب 1948 و1967 وغيرهما، ولم يكن هناك لا حارس مرمى ولا حتى لاعبين، أما اليوم فكل المعطيات تقول إن الأمة ليست هي الامة في عام 1948 ولا في 1967، وتكفي نتيجة حروب العدو الصهيوني منذ 2006 حتى الآن ضد غزة وضد لبنان، لترينا الفارق الذي غدت عليه الامة.


ويخبرنا علماء الاستراتيجيات أن أحد أهم عناصر الانتصار في الحروب هو عنصر الروح المعنوية والاستعداد للقتال، وفي هذا المجال، وإذا ما أجلنا بناظرنا إلى أربعة أركان الكرة الأرضية، فلا نجد من بينها أمة لديها استعداد ودافعية للنضال كأمة المسلمين هذه الأيام، وبمعنى استراتيجي: لا يوجد أمة مثل المسلمين في الوقت الراهن لديها كل هذا التمرد على السياسات الروعية والتخويفية، التي تخوفنا من المصير الأسوأ (وهو الموت)، وغدا هذا التمرد وهذا التحرر ميزة تسم نضالية الشعوب المسلمة وطلائعها الصاعدة.

 

وكان لانتفاضات الفلسطينيين في العقود الأخيرة، دور في عملية التحرر هذه). في حين أن الأمم الأخرى خاصة أمة الغرب التي دخلت مجتمعاتها، كأمريكا وبالجملة منها أيضا مجتمع المهاجرين والمستوطنين الصهاينة، دخلت في مراحل متقدمة من الرفاه الاجتماعي الذي لم يعودوا معه مستعدين للتنازل عنه، فلم تعد لتلك الشعوب "قضايا كبرى" تستحق التضحية من أجلها، ونجد أن روح المغامرة و"الطلائعية" تنكفئ وتتراجع مسافات ومسافات، ولا نتحدث هنا عن سياسة الانسحاب من العالم التي تنتهجها الإدارات الأميركية منذ نهاية عهد بوش الابن، بل إن حاخام الجيش الصهيوني الرئيسي طرح للنقاش لأول مرة بعد حرب 2014 في قطاع غزة مسألة: لماذا أن معنوية المقاتل الفلسطيني أعلى منها لدى الجندي الصهيوني، كما كان طرح قبل شهور أن أحد جنرالات الجيش الصهيوني المرموقين في تقريره الذي أثار الرأي العام ووسائل الاعلام الصهيوني، مسألة عدم جاهزية الجيش لخوض معركة برية. كما أفصح عن أن معنويات الجنود والضباط الصهاينة هابطة بشكل غير مسبوق.


5- هناك قول مشهور لبن غوريون اعتبر فيه أن أهداف الصهيونية تعتبر غير منجزة ولا متحققة إذا كانت إسرائيل بدون القدس وإذا كانت القدس بدون الهيكل!! إن المتتبع لسياسات العدو المتعلقة في القدس منذ 1967 لا يصعب عليه أن يكتشف أن قرار عدم التخلي عنها كان مثل عقيدة سياسية لدى جميع الحكومات والأحزاب الصهيونية، وأن عملية السطو على المدينة ومحيطها وسكانها ومقدساتها، ظل يتطور من مرحلة لأخرى حتى بلغ ذراه في العقد الأخير، فسنّت من أجل ذلك أسوأ قوانين الفصل العنصري، والآن هم يحكمون الطوق على المدينة بطريقة غير مسبوقة، ويلعبون بالنار، ويضاعفون من المس بالمسجد الأقصى ويطورون تواجدهم الزماني والمكاني (أسفل المسجد) وربما الأسوأ قادم في الطريق.


القدس ستكون هي الفتيل، وإن جرأة العدو في السطو على المسجد ازدادت وازدادت، ويوم الانفجار يكاد يقترب أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأن صفقة القرن بدأت بالدخول في (الرجل الشمال) من بوابة نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والمسعى الصهيوني محموم لإقناع دول أو دويلات أخرى بنقل سفاراتها، أسوة بما فعله ولي الأمر الأمريكي. ويكفي أن نشير هنا إشارة بليغة ومعبرة "لإيتان هابر" (رئيس مكتب رابين سابقا، وكاتب المقال المثابر في "يديعوت أحرنوت") إذ كتب عشية نية نقل ترامب السفارة من تل أبيب إلى القدس في أواخر 2017 يقول: "بقدر معين نحن وجع الرأس للعالم، ومن لا يريد وجع الرأس يحتمل ألا يحصل على شيء، وأنه حتى بعد خطاب الرئيس (ترامب) ستعود الحياة إلى مجراها، حبّذا أن هذا ما سيكون، ولكننا نحن الذين كنا دوما تلاميذ فائقين للتاريخ، علينا أن نتعلم منه، فالحروب لا تندلع فقط بسبب نزاعات الحدود، بل وأيضا على الرموز والصور، ولا توجد رموز وصور أقوى وأكثر اختلافا عليها كالقدس".

2
التعليقات (2)
يوسف
الأربعاء، 04-11-2020 09:34 ص
أمريكا والغرب والصين وروسيا وحتى العرب والفلسطينيين) من أجل خدمتها الفلسطينيين!!؟؟ مادخل الفلسطينيين مثلا ياريت عدم استخدام مصلطلحات بشكل غلط وغير عادل الاصح كتابة سلطة التنسيق واتباع سلطة اوسلو
يسوف
الأربعاء، 04-11-2020 09:32 ص
التركيز على خيانه وتصهين الفلسطينيين مثير للضحك صراحه لماذا لا تشدد على خيانه حكام الخليح مثلا والاصح عدم القول بتطبيع وتصهين بعض الفلسطينيين بل الاصح القول اتباع اوسلو الفلسطينيين هم شعبا مظلوم يتعرض للظلم

خبر عاجل