مقالات مختارة

15 يوليو.. ملحمة كشفت الأقنعة

ياسين أقطاي
1300x600
1300x600

إن اختلاف الناس مع بعضهم البعض ضمن النظام الاجتماعي الذي نعيشه، وما يقومون به من تقنّع بعد خلع شخصيتهم الحقيقية والخروج عن طبيعتهم؛ أشبه بنظام المسرحية، وهو أيضا ضرورة تقتضيها طبيعة العلاقات المجتمعية. وعلى عكس من ذلك، فإن الناس عندما يحاولون التعامل فيما بينهم وفق ما بداخلهم وطبيعتهم الخالصة، فإن هذا لن يسمح بحياة مجتمعية بشرية لهم.

وهنا تكمن المفارقة: فالطبيعة الإنسانية تكمن في ابتعادها عن الطبيعة. وحينما ننظر من هذا المنظور، نرى أن تقديس الطبيعة (البشرية) ليس جانبا ملائما للإنسان. ولكن يكون الإنسان مشبعا بالإنسانية إذا لم يبتعد عن الطبيعة أو التطبع. وعلى هذا؛ هل يعبّر الناس عن مللهم من الإنسانية إذا ما عبروا عن تطلعاتهم نحو الطبيعة؟ أو ما الذي نفقده كبشر عند الابتعاد عن الطبيعة والاقتراب نحو الإنسانية، هل البشر يشتاقون إلى الطبيعة، أم أن القدر يجعلهم يفقدون شيئا بفقدانهم الطبيعة؟.
كملاحظة أولية، لِنقلْ أن البشر عندما يقدسون الطبيعة أو يتطلعون لها، فإنهم في الواقع يبحثون عن شيء؛ هو الصدق، أي علينا أن لا نقضي تماما على البحث عن الطبيعة. نحن نعلم أن المدنية ذات الوجهين عبارة عن مسرح للخيانة الناعمة والشجاعة الرخيصة ومصدر للمشاكل.

إن فتح المسافة أكثر بين ما يبرز من المشهد وما يكمن وراءه في المسرح الذي يتم التمثيل فيه باسم الاجتماعية، يدفع الناس ضد بعضهم البعض ويقضي على أعصابهم ليدفعهم نحو المواجهة. وإن هذا التناقض يبدأ عندما يتم الشعور بذلك النفاق المدني ومعايشته.

وبينما هذا هو الحال للمشهد العام لعلاقاتنا الاجتماعية؛ نؤكد مرة أخرى أن العلاقات الدولية هي ضرب من هذا المشهد المسرحي بل وأكثر إثارة. الجميع يخفي وجهه الحقيقي ونيته ومضمونه وراء الخطاب الدبلوماسي الناعم، إنه مشهد لعروض الأداء. بينما يكون الحال مختلفا تماما وراء هذا المشهد المسرحي، وبالطبع كلما مر الوقت يستنزف ما يبرز من المشهد من مصداقيته.

إن هناك أحداثا تكشف عما وصفناه بسياسة الوجهين والأداء المسرحي، وإن مثل هذه الوقائع بنسبة مثيرة بإمكانها أن تملك قوة تعيد تأسيس نظام المشهد المسرحي كاملا. ويمكننا القول بأريحية إن محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو لها موقع خاص بين الأحداث التي كشفت الأقنعة.
لقد رأينا الجهات الدولية الفاعلة والتي يفترض أنها صديقة، وقناعها باسم الديمقراطية ضمن مسرحية رفضت محاولة الانقلاب، لقد بدا القناع مملّا حتى لتلك الجهات، رأينا كيف رمى خبر الانقلاب في تركيا للحظة بتلك الأقنعة جانبا.

إن ما بين الساعات الأولى لمحاولة الانقلاب حتى الساعة التي بدأت تشير إلى فشل تلك المحاولة، كشف جليّا عن الذين تحدثوا وبمَ تحدثوا. وأصبح واضحا خلال تلك الأثناء الدور الذي اقتضته أقنعة الديمقراطية كما اتضحت وجوههم الحقيقية.

خلال الساعات الأولى من محاولة الانقلاب، كانت قناة FOX TV الأمريكية الشهيرة لا تزال ترى الانقلاب كأمل طالما راهنت عليه، وكان الكثير من الكتّاب والسياسيين الأمريكيين الذين تحدثوا لها، يعلقون على الانقلاب بكل شغف لانقلاب فعليّ. كانت محاولة انقلاب في تركيا تقضي على الديمقراطية وتدفنها إلى الأبد، شيئا مفرحا للغاية بالنسبة لهم. لم يكونوا يرون في الانقلاب أي مشكلة بإزاء تلك القيم كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ التي يدّعونها. وفوق هذا، لم يكونوا في الواقع يخفون أنهم ينظرون إلى جنود الانقلاب كمنقذ لهم من الإسلام عبر الانقلاب على أردوغان الذي يعزونه إلى الإسلام.

بينما كان هذا يحصل في الولايات المتحدة، فكيف كان الحال في أوروبا؟ هؤلاء أيضا ظلوا ساكتين، يعني أنهم ظلوا ساكتين على مدار يومين وقد شاهدوا الانقلابيين كيف قتلوا 250 شخصا وأصابوا 2200 آخرين. متى تحدثوا؟ عندما رأوا أن الانقلابيين يتم اعتقالهم خرجوا عن صمتهم، وعبّروا عن مخاوفهم حول معاملة هؤلاء المعتقلين الذين ارتكبوا المجازر. وبذلك كانوا واضحين للغاية في أنهم كانوا يتوقعون تحقق الانقلاب ولو كان ذلك على حساب سحق الديمقراطية في تركيا.

لقد كان توقعهم لنجاح الانقلاب عاليا للغاية، لدرجة أنهم لم يدركوا خلال ذلك أنهم أثبتوا أن القيم التي كانوا يدّعونها طيلة سنوات؛ من الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات ورفض الانقلابات؛ كانت فارغة وعبثية. كل ذلك في الواقع عبارة عن خطوط لمسرح أرادوا اللعب فيه. خطوط صالحة كي يقنعوا شركائهم الآخرين باللعب كما يحلو لهم أو إجبارهم على المغادرة.

وبالشكل ذاته، رأينا كيف كان يعرض الإعلام السعودي والإماراتي والمصري أحداث المحاولة الانقلابية. إن مذيعا بقناة سكاي نيوز كان لساعات طوال ينقل أخبار محاولة الانقلاب كبشرى يزفها، وحينما رأى أنها محاولة باءت بالفشل لم يستطع إلا بدء نشرته بقول "للأسف": "للأسف لقد فشلت المحاولة الانقلابية بالفشل"، وإن هذه الجملة تحكي الكثير.

وبهذا المعنى كان 15 يوليو امتحانا عظيما كشف أين يقف البعض، وماذا يدّعي البعض، وإلى أي درجة كان البعض صادقا.

إن موقف كليجدار أوغلو (زعيم حزب الشعب الجمهوري) كان متناقضا، على الرغم من أن النواب البرلمانيين في حزبه كان لديهم موقف صريح ضد الانقلاب. إنه على الرغم من أنه بدا أولا ضد الانقلاب منحازا إلى الإجماع العام، إلا أنه سرعان ما بدّل بعد ذلك ليدافع عن الذين قاموا بالانقلاب معتبرا ما حدث عبارة عن سيناريو، فأي نوع من الأقنعة قد ارتدى حتى يتم التعرف على وجهه. ما هو الشيء الذي جعل كليجدار أوغلو يغلق عينيه بينما فتحت 15 يوليو عيون الناس أجمعين، وأزالت الأقنعة، وكشف عن سوءات جميع المختبئين وراء المشهد المسرحي؟.

ما هي الرغبة التي تكمن وراء رؤية أو الادعاء برؤية سيناريو آخر بعد انكشاف الحقيقة الواضحة أصلا، في مواجهة ملحمة قضت على سيناريو كبير كان سببا أو جزءا من سبب؟. 

عن صحيفة الشرق القطرية

0
التعليقات (0)