كتاب عربي 21

الصراع على السودان "الجديد"

فراس أبو هلال
1300x600
1300x600

لم ينته الصراع في السودان بسقوط الرئيس المخلوع عمر البشير، بل إن ما يجري الآن هو بداية مرحلة جديدة من الصراع داخل هذا البلد الكبير والمعقد بتركيبته السياسية والسكانية، والأهم أنه صراع "عليه" بين قوى داخلية وخارجية متناقضة.

وفي مثل هذه الصراعات التي تنشأ في مراحل انتقالية صاخبة، يبدو أن الحلقة الأقوى والأضعف في الوقت ذاته هي الشعب السوداني وقواه الحية من المعارضة ومن "ممثلي" الحراك والمشاركين فيه.

 

الشعب هو الأقوى الآن لأنه هو الذي صنع التغيير وأدى إلى إسقاط رأس النظام، بالتالي فهو الفاعل الرئيس الذي يريد الجميع إرضاءه، على الأقل في المرحلة الحالية، ولكنه قد يتحول إلى الحلقة الأضعف إذا لم يستطع أن يشكل نواة صلبة تصنع مناخا سياسيا قادرا على التأثير الدائم والمستدام في المرحلة الانتقالية وما بعدها.

تخطئ القوى الحية في الشعب السوداني إذا "ركنت" واعتمدت على الزخم الشعبي العظيم الموجود في الشارع الآن، فالتجارب التاريخية لثورات المنطقة العربية والعالم تقول إن هذا الزخم لا يمكن أن يستمر للأبد، وإن الأقوى تنظيما هو من يستطيع رسم ملامح المستقبل بعد أن يعود الناس إلى أعمالهم وحياتهم اليومية، ولهذا فإن الضامن الوحيد هو تحويل الزخم الشعبي إلى زخم سياسي منظم وقوي، قادر على مواجهة وإدارة الصراع مع القوى الأكثر تنظيما وقوة داخليا وخارجيا.

الصراع الداخلي

أولى محطات الصراع على السودان "الجديد" هي بين القوى الممثلة للحراك والمعارضة السياسية من جهة، وبين الدولة العميقة التي يعبر عنها "جزئيا" المجلس العسكري الانتقالي. وعندما نتحدث عن صراع داخلي، فالمقصود هنا ليس صراعا بين "أعداء" بل هو صراع داخلي بين رؤيتين "وطنيتين" على شكل البلاد ونظامها في المستقبل.

 

بالتالي، فإن المنطلق الأساسي في هذا الصراع هو تشكيل رؤية موحدة بين الحراك والمعارضة لتكون قادرة على التأثير بالحد الأقصى على رؤية المجلس العسكري نفسه.


إن مرور كل يوم بدون تشكيل رؤية موحدة لهذا الطرف الذي يعتمد على الزخم الشعبي سيعقد من مهمته، وسيجعل المستقبل رهينة في يد الطرف الأكثر تنظيما وإمساكا بالقوة، وهو المجلس العسكري.

ثمة مبادئ مهمة لتحقيق رؤية موحدة للمعارضة والحراك الشعبي، ويمكن للتجارب التاريخية الحديثة في دول "الربيع العربي" أن تقدم بعض الدروس المهمة في صياغة هذه المبادئ، حتى لا تتبخر أهداف الثورة مع الوقت كما حصل في تلك الدول:

أولا: إبعاد شبح الصراعات الأيدولوجية في المرحلة الانتقالية، والتركيز بدلا من ذلك على المبادئ المتفق عليها بين الجميع، ولعل أهمها تأسيس حكم مدني قائم على فصل السلطات واستقلال القضاء والحكم الرشيد، لأن مثل هذا الحكم هو الكفيل بالسماح "بالصراع" الإيجابي والسلمي مستقبلا بين الأيدولوجيات المختلفة، لأن النظام الديمقراطي قادر على إدارة مثل هذا الصراع دون خسائر كبيرة.


ثانيا: الابتعاد عن لغة الإقصاء والانتقام، لأن هذه اللغة تلعب لصالح الطرف الأقوى وهو الدولة العميقة. ولا يقصد بذلك عدم محاسبة المتورطين بجرائم خلال حكم ثلاثين عاما، بل بتمكين القضاء من محاكمة عادلة للمتهمين، لأن الحكم الجديد حتى ينجح فلا بد أن يتفوق "أخلاقيا" على النظام السابق، ولن يحصل هذا التفوق إلا بدعم القضاء المستقل العادل والابتعاد عن الإقصاء والانتقام.


ومن ضمن ثقافة الإقصاء التي قد تضر بالحراك السوداني تلك الخطابات التي تنادي بمعاقبة وإبعاد كل المنتمين للتيارات الإسلامية في السودان، باعتبار أن المؤتمر الوطني ينتمي لهذا التيار، على الرغم من أن قطاعا عريضا من التيار الإسلامي نفسه، ممثلا بالمؤتمر الشعبي، كان في معسكر المعارضة منذ سنوات طويلة لحكم البشير وتعرض للأذى بسبب هذه المعارضة ربما أكثر من غيره من التيارات.

 

يستحق المؤتمر الوطني بالطبع كحزب للمحاسبة، ولكن هذا لا يعني أن يقصى كل المنتمين له، لأن هذا التيار في النهاية هو جزء من الشعب السوداني.


وقد شهدت الدول التي مرت بثورات وحركات تغييرية جذرية حالات مشابهة، كان الحل الأمثل فيها هو تأسيس مسار "عدالة انتقالية" تحاسب المجرمين حسب أعمالهم وممارساتهم لا حسب انتماءاتهم الحزبية، ويشمل مسار العدالة الانتقالية تشكيل دوائر قضائية ولجان تحقيق عادلة ومستقلة لمحاكمة المتهمين، وإقرار من يشملهم العقاب بما في ذلك المنع من المشاركة السياسية، ولكن دائما حتى تتحقق العدالة فإن المحاكمات هي فردية وليست حزبية.


ثالثا: الاتفاق على خطة تأسيسية للنظام الجديد. ولعل التجربة التونسية من التجارب القليلة الناجحة في المنطقة، حيث قامت على انتخاب مجلس تأسيسي وضع الأسس التي سيبنى عليها النظام الجديد، وتوافق على دستور حظي بإرادة شعبية وسياسية وحزبية واسعة، وشارك في صياغته الجميع. مثل هذا المجلس التأسيسي يستطيع أن يصنع توافقا على شكل الحكم الذي يمكن أن يدير الصراعات الطبقية والأيدولوجية في المستقبل بشكل سلمي ودون انشقاقات كبيرة في المجتمع.

الصراع الخارجي

يمثل السودان ساحة للصراعات الخارجية بسبب أهميته الجغرافية ووجود شواطئ له على البحر الأحمر الذي يشكل نقطة ساخنة للصراع الإقليمي والعالمي، وكذلك بسبب مساحاته الشاسعة والإمكانيات الضخمة للاستثمار.


هذه الأسباب جعلت الأطراف الدولية والإقليمية تحاول أخذ "حصتها" من العلاقات والنفوذ خلال السنوات الماضية، ولكنها ستجعل البلاد أكثر عرضة لصراعات أوسع بسبب حالة "الرخاوة" السياسية التي ستشهدها المرحلة الانتقالية، وبسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية.

وإذا كانت الثورات الشعبية العربية ذات أبعاد ومطالب داخلية أساسا، إلا أنها أيضا ثورات استقلال وكرامة، وبهذا المعنى، فإن القوى الحية في الشعب السوداني وفي الحراك والأحزاب ستضع بلا شك هذه القضية في "رؤيتها" للمستقبل.

إن بلدا كبيرا ومهما ويعاني من الضعف الاقتصادي في الوقت ذاته مثل السودان، بحاجة للاستقلالية والابتعاد عن الارتهان لمحور دون آخر، وبحاجة أيضا لصناعة قرار مستقل يجعل المصلحة الوطنية هي الحاكم في علاقاته مع الخارج، وهذا لن يحدث بدون ضغط شعبي على المجلس العسكري الحاكم في هذه المرحلة بالذات.

إن السودان الجديد بحاجة لعلاقات جيدة مع الجميع، ولكن بدون تبعية، ومن هنا تظهر أهمية ضغط الشارع على المجلس العسكري لمنع الارتهان لهذا الطرف أو ذاك، ولصالح علاقات ندية مع جميع المحاور.

 

وقد يواجه هذا التوجه برغبة بعض الأطراف بالهيمنة أو النفوذ، ولكن البلاد التي شهدت ثورة تستحق حكما غير خاضع لنفوذ الخارج، كما أن شعبه وقواه الحية قادرون على مواجهة بعض المحاولات المكشوفة والساذجة أحيانا لأطراف معينة بإظهار السودان الجديد وكأنه "في جيبها"، وظهر هذا جليا في تغطيات الإعلام السعودي والإماراتي المغلوطة حول "طرد وفد خارجية قطر" و"طرد تركيا من جزيرة سواكن"، وغيرها من الأمثلة الواضحة على هذا التوجه، في حين أن السودان الجديد يستطيع أن يحافظ على علاقات طيبة وندية مع السعودية وقطر والإمارات وتركيا وروسيا والولايات المتحدة دون الارتهان لأي طرف.


أما على صعيد المواقف الوطنية والقومية، فإن السودان الجديد يجب أن يقطع مع مسار التنازلات تجاه الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، وهو مسار اتبعه البشير خلال السنوات الأخيرة بحذر للحفاظ على حكمه، ولكن الشعب السوداني استطاع أن يسقطه رغم اعتقاده أن تنازلاته في هذه المواقف ستحميه من السقوط، وهذا هو الدرس الذي يجب أن يفهمه من سيحكمون السودان في المستقبل، وهو أن الشعب هو من يرفع أو يسقط، وليس أمريكا ودولة الاحتلال العنصري في فلسطين.

1
التعليقات (1)
الحراك محدد خطه
الإثنين، 22-04-2019 02:15 م
التحالف المعارض من قوى إعلان الحرية والتغيير لهجته غير واضحة، إتهم الجيش ولم يعطي حقيقة دامغة عن طرح ورفضه العسكر، العسكر لا أمان له، لكن قوى إعلان الحرية والتغيير غير واضح، أسميه بالنتيجة ركوب الحراك من الطرفين، هكذا هو المنطق، والعسكر ليس هم الطرف الخطر فقط على إستقرار السودان. إستمرار الحراك وبإذن الله سيجعل هذا الحراك الكل يسير بخط التغيير الخير للسودان.