قضايا وآراء

إيران وأمريكا.. مسارات مسدودة وممرات إجبارية

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600

بعد مرور عشرة أشهر على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية المرفوعة عن إيران سابقا بموجب الاتفاق على مرحلتين خلال شهري آب (أغسطس) وتشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2018، مع التصعيد السياسي عبر إقامة تحالف إقليمي، والسعي إلى بناء الآخر دوليا في مواجهة طهران، كما ظهر من خلال تنظيم مؤتمر وارسو المنعقد في شباط (فبراير) الماضي، أو القيام بإجراءات ضد القوى المتحالفة معها في المنطقة، كان آخرها وضع حركة "النجباء" العراقية على قائمة الإرهاب في إطار تقزيم الدور والنفوذ الإيراني الإقليميين، أظهرت جملة معطيات برزت خلال الفترة القصيرة الماضية، أن إيران مع العام الميلادي الجديد، بدأت تتبع إستراتيجية مختلفة إقليميا، لها طابع هجومي في مواجهة "استراتيجية الضغوط القصوى" الأمريكية، وذلك بعد امتصاص الصدمة الأولى التي أحدثتها العقوبات، أقلها هذا ما تظهره طهران.

استراتيجية الهجوم

وللتدليل على إستراتيجية "الهجوم" هذه، يمكننا أن نستشهد بجملة مؤشرات ومعطيات بارزة، منها سياسيا، محاولة تعزيز أوراقها الإقليمية في ساحات المواجهة، ولملمتها والدفع بها إلى الأمام. وفي السياق، جاءت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران، وكذلك زيارة الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إلى العراق، التي يمكن اعتبارها أهم زيارة قام بها رئيس إيراني منذ قيام الثورة، بالنظر إلى ظروفها الحساسة ونتائجها، وأيضا زيارة نائبه إسحاق جهانغيري إلى سوريا، وزيارة مرتقبة لحسن روحاني إليها، وزيارات مكوكية أخرى إلى ساحات النفوذ الإقليمية، مثل زيارة وزير الخارجية، جواد ظريف إلى لبنان كأول وزير خارجية يزورها بعيد تشكيل الحكومة.

وعسكريا أيضا، إجراء أربع مناورات عسكرية بحرية، وبرية وجوية في أقل من ثلاثة أشهر، من كانون الأول (ديسمبر) من عام 2018 إلى يومنا هذا، أجراها الجيش والحرس الثوري، آخرها كانت مناورة "الطائرات المسيرة الهجومية" في المياه الإقليمية، فضلا عن تزايد ملحوظ في تهديدات القادة العسكريين الإيرانيين، حيث لا يكاد يمر يوم إلا ويهدد ويتوعد قائد عسكري أو أكثر. 

وفي السياق، أكد أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، قبل فترة أن "الساحة السورية ستشهد تطورا مهما وأن الرد على هجمات الكيان الصهيوني في سوريا خلال عام 2019 ستكون مختلفة تماما عن السنوات المنصرمة".

 

المواجهة مع أمريكا


بيد أن هذا التوجه من طهران يأتي ترجمة لقناعة إيرانية بأن الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية وصل مرحلة، استبدلت فيها معادلة "لا حرب ولا سلام" القائمة منذ أربعة عقود لصالح معادلة المواجهة المباشرة على أكثر من صعيد، بعد أن استنفدت الحروب بالوكالة أغراضها تقريبا، ولم تعد الخيار الأنسب في الصراع من جهة، وفشلت الدبلوماسية في إحداث اختراق ما، بعدما أغلق الرئيس دونالد ترامب بابها بالشمع الأحمر من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي في أيار (مايو) 2018 من جهة أخرى.

 

الدبلوماسية والتفاوض لم تعد قائمة لحل الصراع الإيراني الأمريكي كخيار أنسب للطرفين وليس لطرف واحد فحسب


قد يقول قائل إنه حال دخلت طهران في تفاوض مع إدارة ترامب، مثل ما فعلت بيونغ يانغ، يمكن ضبط إيقاع الصراع عند نقطة معينة، وتفادي التصعيد الراهن وما بعده. 

في الرد يجب القول: إن بين الملفين الإيراني والكوري الشمالي بون شاسع وفروق كبيرة، وأن الاشتراك في وجود ملف نووي للبلدين، لا يعني أن المسار والحل والمصير واحد، إذ إن من أهم تلك الفروق أن الملف المطروح بالنسبة لكوريا الشمالية واحد لا ثاني له، وهو السلاح النووي، بينما فيما يتعلق بإيران فإن ثمة ملفات على الطاولة، أقلها الملف النووي. وبشأن هذا الملف تعلم الإدارة الأمريكية قبل غيرها أنه بالرغم من مزاعمها حول سعي إيران إلى امتلاك القنبلة النووية، أن الرقابة الصارمة التي تخضع لها المنشآت الإيرانية بموجب الاتفاق النووي من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تجعل من المستحيل امتلاك تلك القنبلة.

 

بين إيران وكوريا

والملف الأكثر حساسية فيما يتعلق بإيران، هو دورها الإقليمي، بينما مع كوريا الشمالية ليس مطروحا مثل هذا الملف، وهي ليس لها أي دور في منطقة شرق آسيا. ولأن الاتفاق النووي لم يكن يغط الملف الإقليمي، خرج منه ترامب، وعلى عكس ما كان يروج له الأخير فإن هذا الخروج لم يكن له أي صلة بالملف النووي نفسه، حيث أن إيران بشهادة 14 تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية تنفذ تعهداتها النووية بحذافيرها. 

كما أن "المتغير الإسرائيلي" يلعب دورا بارزا في الملفات المثارة مع إيران، بينما مثل هذا المتغير، ليس له وجود في شبه الجزيرة الكورية والمنطقة المحيطة بها. بالإضافة إلى وجود عوامل إقليمية أخرى في الشرق الأوسط، غير متوفرة في شبه الجزيرة الكورية. 

 

مراكز صنع القرار الأمريكي في إدارة ترامب باتت خاضعة لصقور من أبناء المدرسة التشينية، وهم دعاة الحرب لحل الصراعات الخارجية


اذن مع هذا الشرح، فإن الدبلوماسية والتفاوض لم تعد قائمة لحل الصراع الإيراني الأمريكي كخيار أنسب للطرفين وليس لطرف واحد فحسب، بعد أن وصل الصراع إلى هذه المرحلة الخطيرة في عهد ترامب، إلا إذا قبلت إيران بالتفاوض على الطريقة الترامبية، ما يعني الدخول في مسار تنفيذ الشروط الـ 12 التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو في 21 من أيار (مايو) من عام 2018، بعد أسبوعين من انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، وصولا إلى ما هو الأبعد من ذلك المشروع. 

وهذا من المستبعد جدا أن تفعله طهران، لأن ذلك يعني القبول بتغيير جذري لطبيعة السياسة الخارجية الإيرانية، وكذلك طبيعة النظام القائم بعد الثورة الإسلامية في عام 1979.

هذا فضلا عن أن مراكز صنع القرار الأمريكي في إدارة ترامب باتت خاضعة لصقور من أبناء المدرسة التشينية، وهم دعاة الحرب لحل الصراعات الخارجية للإدارة، ولا يعيرون للدبلوماسية أهمية في التعامل مع إيران. 

هذه المعطيات أوصلت من كان يدعو إلى الدبلوماسية والتفاوض في إيران في التعامل مع الصراع مع أمريكا إلى التراجع عن ذلك. واللافت في هذا السياق أن "الشيخ الدبلوماسي الإيراني" أي حسن روحاني، وهو من أبرز تلاميذ مدرسة الرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني، الداعية إلى التفاوض مع الولايات المتحدة، أصبح يتقدم معارضي هذ التوجه، وعليه، أكد قبل أسبوعين تقريبا أن الخلافات الإيرانية الأمريكية "ليست قابلة للتفاوض والمصالحة". 

إلى ذلك، فإن ربط طهران التفاوض مع واشنطن بعودة الأخيرة عن الانسحاب من الاتفاق النووي، يعتبر شرطا تعجيزيا، يعلم الإيرانيون قبل غيرهم أن الإدارة الأمريكية الراهنة واللاحقة لن تعود عن هذا القرار، بالتالي فإن طرح هذا الشرط هو لاحراج الطرف الأمريكي فحسب، لأنه يأتي انطلاقا من قناعة إيران بأن التفاوض ليس خيارا مناسبا لها، أقله مع إدارة ترامب، وأن القبول بذلك يعني القبول بدوامة تنازلات لا تنتهي. 

إيران كانت لاتزال تحاول أن تمر الأمور دون مواجهة، لكن السياسات الأمريكية أوصلتها إلى قناعة بأنه لا فائدة من الحلول السلمية، ولعل مصير الاتفاق النووي خير مثال على ذلك. 

بالتالي حيال هذا الواقع، لا خيار اليوم أمام الجانب الإيراني إلا الاستسلام أو المواجهة، ولأن الاستراتيجية التي تتبعها إدارة ترامب حيال طهران، تهدف إلى إجبار الأخيرة على الانكفاء عبر اشغالها بالداخل من خلال الحرب الاقتصادية الشرسة، فتظهر المعطيات الراهنة التي تناول المقال بعضها، أن إيران في المقابل أصبحت تتخذ استراتيجية الهجوم إقليميا وبالذات في ساحات النفوذ المشتركة، مثل العراق، لربح الوقت والانتظار إلى مصير الأزمة الداخلية التي يواجهها دونالد ترامب، ونتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة.

مع ذلك، تبقى الساحة الداخلية الإيرانية التي أصبحت متأثرة بالحرب الاقتصادية الأمريكية "غير المسبوقة"، هي الساحة الأهم في هذه المواجهة، والعام الإيراني المقبل الذي يبدأ من 21 آذار (مارس) الجاري، ويدخله الإيرانيون بوضع اقتصادي متدهور، وغلاء فاحش في الأسعار، يشكل عاما مصيريا. وفيما تحذر شخصيات محافظة من وقوع "فتنة" في العام الجديد، وتقول إن السلطات ستحبطها، تأمل الإدارة الأمريكية أن تحصد فيه ثمار استراتيجيتها وحربها الاقتصادية. 
 
خلاصة القول: إن الصراع الأمريكي الإيراني مفتوح على احتمالات خطيرة خلال المرحلة المقبلة، وعندما تغيب الدبلوماسية وتنتهي صلاحية معادلة "لا حرب ولا سلام"، فمن شأن التصعيد الموجود أن يفجر الأمور عند لحظة معينة. 

التعليقات (0)