قضايا وآراء

على وقع الانتخابات: إعادة "عجن" المشهد التونسي (1-2)

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600

حين فازت حركة النهضة في انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، سارع خصومها إلى إعلان تكوينهم لجبهة معارضة، ورفضوا دعوتها إياهم لمشاركتها الحكم.

كانوا يعلمون أن أعضاء الحركة ليسوا مدربين على إدارة شؤون دولة، فكلهم كانوا خارج الفعل السياسي؛ إما في السجون وإما في المهجر. لم تجد حركة النهضة إلا حزبين صغيرين محسوبين على التيار العلماني شاركاها الحكم وتحمّلا معها مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية، في تجربة ديمقراطية بعد خمسة عقود من حكم الحزب الواحد والفرد الواحد.

لم تكن بداية تجريب الحكم يسيرة على الإسلاميين، فقد تجنّد ضدها الإعلام والاتحادات، وأغلب المثقفين والجامعيين، وأغلب الأحزاب السياسية، فكانت حملات النقد والتشويه والتحريض، وكانت الاعتصامات والإضرابات وسد الطرقات وإيقاف إنتاج الفوسفات، وهو أهم مصدر للميزانية التونسية.

ثم كانت فاجعة اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد، في 6 شباط/ فبراير 2013، وكان المجلس التأسيسي يستعد يومها لمناقشة قانون "العزل السياسي" الذي يستهدف وجوها سياسية محسوبة على النظام السابق.. كادت الفاجعة أن تُدخل البلاد في حرب أهلية، كما خططت لها "غرفة عمليات" غير معلومة لحد اليوم، وكانت النتيجة استقالة رئيس الحكومة يومها السيد حمادي الجبالي، أحد أبرز قيادات النهضة، ليخلفه السيد علي العريض، بعد أن كان وزيرا للداخلية. لقد كانت أول بادرة من بوادر اهتزاز حكم "الترويكا"، وتحديدا حكم النهضة.

 

لم تكن بداية تجريب الحكم يسيرة على الإسلاميين، فقد تجنّد ضدها الإعلام والاتحادات، وأغلب المثقفين والجامعيين، وأغلب الأحزاب السياسية، فكانت حملات النقد والتشويه والتحريض، وكانت الاعتصامات والإضرابات

كان لا بد من فاجعة ثانية لمنع تصويت المجلس التأسيسي على "دستور" كان جاهزا للتصويت ومرشحا لتحصيل الأغلبية، فكانت عملية اغتيال الزعيم العروبي محمد البراهمي يوم عيد الجمهورية (25 تموز/ يوليو 2013، وبنفس طريقة اغتيال شكري بلعيد.

حكومة الترويكا التي بيدها الداخلية والدفاع وكل أجهزة الدولة لم تكن قادرة على معرفة القتلة، رغم تأكدها من كون خصومها يقفون وراء الجريمتين.. هذه المرة أفلحت "غرفة العمليات" في تصديع "جسم" الترويكا، حين انضم رئيس البرلمان مصطفى بن جعفر، رئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات، إلى ما عُرِف بـ"اعتصام الرحيل"، مما عطل نشاط المجلس التأسيسي وأوقف التصويت على الدستور، بل وفرمل المسار السياسي كليا، مما أفسح المجال لمنظمات وطنية، على رأسها اتحاد الشغل، كي تتدخل لتنظيم "حوار وطني" ينتهي إلى خروج النهضة وشريكيها من الحكم، وتكوين حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب؛ تتولى تصريف الشأن العام وتهيئ لانتخابات برلمانية ورئاسية نهاية 2014.

وجدت حركة النهضة نفسها مجبرة على الانحناء للعاصفة، خاصة بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس المصري المنتخب الدكتور محمد مرسي، وبعد انكشاف تدخلات خارجية ترفض استمرار الروح الثورية في البلاد العربية. أبدى الأستاذ راشد الغنوشي مرونة كبيرة في التعاطي مع "الأزمة"، فمنع تمرير قانون "العزل السياسي" ضد التجمعيين، ثم قبل بملاقاة "زعيم" المعارضة يومها، الباجي قائد السبسي، فشد إليه الرحال، حيث كان يعالج بباريس، منتصف شهر آب/ أغسطس 2013، وتم الاتفاق معه على "تسوية" بدت نتائجُها بعدها مباشرة، حين أعلن الباجي قائد السبسي انسحابه من "اعتصام الرحيل" بساحة باردو قُبالة مبنى البرلمان التونسي.

انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2014 كانت كما لو أنها "عملية إخراج فني" لتوافقات سياسية مسبقة، أو لعل الصناديق صدّقت نوايا "الشيخين" حين عزما على "التوافق" كوصفة سياسية ناجعة لإنقاذ السفينة، كما يردد الأستاذ راشد الغنوشي دائما.

"التصويت المفيد" الذي التزمته أطياف المعارضة، حين التزمت في الدورة الثانية بالتصويت للباجي قائد السبسي ضد منافسه الدكتور منصف المرزوقي، لم يُحقق لها أهدافها بعزل النهضة وإقصائها من الحكم، إذ أعلن الباجي، وقد فاز بالرئاسة والبرلمان، عن عزمه على "التوافق" مع النهضة في حكم البلاد، ووجد نفسه في "مواجهة" خصوم النهضة، وهو القادر عليهم بحكم خبرته ومعرفته بـ"التفاصيل"، فقد كان رئيس حكومة ما بعد اعتصام "القصبة 1" و"القصبة 2"، وكان هو من أوصل تونس إلى أول انتخابات ديمقراطية في 2011 وسلّم الحكم بطريقة حضارية هادئة.

 

ظلت حركة النهضة في وضعية مريحة جدا طيلة ثلاثة أعوام، وهي شريكة في الحكم مع النداء دون أن تكون في الواجهة.. لقد وجدت من الوقت ما يكفي لإعادة ترميم نفسها في هدوء واطمئنان

لقد ظلت حركة النهضة في وضعية مريحة جدا طيلة ثلاثة أعوام، وهي شريكة في الحكم مع النداء دون أن تكون في الواجهة، فلا تتحمل مسؤولية كل فشل (وهو كثير) ولا تتعرض لاستهداف مباشر كونها ليست في الصدارة. لقد وجدت من الوقت ما يكفي لإعادة ترميم نفسها في هدوء واطمئنان، وقد توقفت مسيرات "شكون قتل شكري" التي دأبت الجبهة الشعبية على تنظيمها صبيحة كل أربعاء في شارع بورقيبة وسط العاصمة، وتُرفع فيها شعارات مستهدفة رئيس حركة النهضة الأستاذ راشد الغنوشي. لقد تحول الغنوشي في الإعلام وعند العديد من السياسيين ولدى كثير من النخب؛ إلى رمز للوطنية وللحكمة وللتعفف عن الحكم، بعد أن قبل بالحوار الوطني وأخرج أعضاء حزبه من الحكم، من أجل استقرار وطني وسلم أهلية وتوافق بين التونسيين.

لماذا توقف التوافق بين الشيخين وانقطع "حبل الود" بينهما؟ لماذا بدا المشهد كما لو أنه يرتد إلى ما قبل توافق 2013؟ لماذا عادت "الفواجع" إلى التناسل كما لو أننا بصدد إعادة "عجن" المشهد واستدعاء أجواء الاغتيالات السياسية زمن الترويكا؟ ما هي آفاق المسار الديمقراطي في تونس؟

التعليقات (0)